مفارقة عجيبة رواها الصحابي المشهور أبو هريرة: "كنتُ أجِيرَ ابنِ عفانَ وابنة غَزْوَانَ بطعامِ بطني، وعُقْبَةِ رِجْلِي، أسُوقُ بِهم إذا ركبوا، وأخدمهم إذا نزلوا، فقالت لي يوماً: لَتَرِدَنَّهُ حَافياً وَلَتَرْكَبَنَّهُ قائماً. فزوَّجنِيها اللَّه بَعْدُ، فقلتُ: لَتَرِدِنَّهُ حَافِيَةً وَلَتَرْكَبِنَّهُ قَائِمَةً".
هذا الكلام مذكور في طبقات ابن سعد، ونقله الشيخ محمود أبو رية (1889-1970)، في كتابه المثير للجدل، "أبو هريرة شيخ المضيرة"، واصفاً الراوي بأنه "تعرّى عن كل مروءة وكرم، إذ يباهي بامتهان زوجه أمام الناس، ويجاهر بالتشفّي منها".
عام 1958، أصدر أبو رية كتاباً بعنوان "أضواء على السنّة المحمدية"، نقد فيه عدالة الصحابة، ومتون بعض الأحاديث وقواعد "الجرح والتعديل"، وضمّ فصلاً عن أبي هريرة، أكبر رواة الحديث، ثم عاد وتوسع في وضع سيرة أكثر تفصيلاً له في كتابه "شيخ المضيرة" الذي وصفه بـ"التاريخ الحقيقي لأبي هريرة"، مستنداً إلى مرويات تاريخية تتهم الصحابي بالوضع وعدم الأمانة.
راوٍ مجهول الاسم
يختلف المؤرخون حول اسم أبي هريرة. ساق الشيخ أبو رية مقولات المؤرخين واختلافهم في اسمه على نحو من 30 إلى 44 اسماً. وبالرغم من أن مؤلفي موسوعات الحديث يصرّون على صحة أحاديثه، إلا أنهم لا يمتلكون اليقين نفسه في إثبات اسمه. يعرفون على وجه التأكيد كنيته فحسب، وأنه من قبيلة دوس، وأتى مع قومه إلى النبي في العام السابع للهجرة.
ومن المضحك قراءة رد الشيخ مصطفى السباعي، مؤلف كتاب "السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، على هذه النقطة، إذ إنه لا يرى غضاضةً في النقل عن شخص مجهول الاسم، لأن "الاختلاف في اسم الرجل لا يحطّ من شأنه، وقيمة الرجل بعمله لا باسمه واسم أبيه، وما جعل الله دخول الجنة وبلوغ مراتب السعادة عنده بالأسماء والكنى والألقاب".
عدا اسمه، طرح مؤلف "شيخ المضيرة" أسباباً عدةً للشك في تاريخ الراوي المشهور، أولها المقارنة بين عدد مروياته التي وصلت إلى 5،374 حديثاً، روى منها البخاري 446، وبين مرويات كبار الصحابة، مثل أبي بكر الصديق الذي روى 142 حديثاً وله في البخاري 22، وعمر بن الخطاب أسندوا إليه 537 حديثاً لم يصحّ منها إلا 50، أما علي بن أبي طالب فأسندوا إليه 586 حديثاً لم يصحّ منها إلا 50، مع الأخذ في الحسبان طول مدة ملازمة الصحابة الكبار للنبي، وضآلة مدة ملازمة أبي هريرة البالغة عاماً وتسعة أشهر فقط له، بحسب ما حققه أبو رية ونقله.
ويبدو أن كثرة الحديث عن النبي جعلت الناس حوله يتهمونه بالكذب، فقد "روى مسلم عن أبي رزين، قال: خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته، فقال: ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله لتهتدوا وأضلّ. ونحن لا يعنينا من هذا الحديث إلا اعترافه الصريح بأنهم كانوا يتهمونه بالكذب، وأن هذا الاتهام قد استفاض بين الناس حتى أصبح يلاحقه"، ينقل أبو رية.
ولم يغفل المؤلف موضوعات أحاديث أبي هريرة، فلاحظ استغراقها في قصصٍ وصفها بـ"الخرافات والأساطير التي تفضحنا بين الأمم"، ضارباً المثل بالأنهار التي تنبع من الجنة، إذ "روى أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة".
أيضاً، كانت علاقته بالصحابة مثيرةً للتساؤل. ذكر أبو رية أنه "كان عُمَر أول من تنبّه إلى خطر ما يرويه أبو هريرة، وينسبه إلى النبي، فعندما انتهى إليه أنه يحدّث عن النبي، وذلك بعد رجوعه من البحرين واتصاله بكعب الأحبار، دعاه وزجره، ثم لم يلبث أن ضربه بدِرّته، ولما لم يزدجر أوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده".
حياة متسوّل في مدينة النبي
الطمع والفقر والجوع مفاتيح شخصية أبي هريرة، بحسب أبو رية، وقد استقاها من سيرته في المدينة. فأول واقعة له أنه "لما رأى كثرة مغانم هذه الغزوة (خيبر)، جاشت مطامعه وطلب من رسول الله أن يسهم له، ثم تدخل في ما لا يعنيه، فطلب من النبي ألا يسهم لأبان بن سعيد بن العاص الذي كان ممن خاضوا غمار هذه الغزوة، فانبرى له أبان بن سعيد وأغلظ له في القول وأهانه".
عاش أبو هريرة في المدينة معيشة ضنك، "يتكفف الأبواب"، و"صحب النبي على ملء بطنه"، وروى عن نفسه أنه كان يقف في طريق الصحابة يسألهم عن آية في كتاب الله كي يطعموه. وفي هذا السياق، قال أبو هريرة إنه "ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب"، وبحسب أبو رية فإن ذلك لأن جعفر كان يسعف أبا هريرة عندما كان يستطعم الناس فينفرون منه.
وعن تدهور أحواله، نقل أبو رية حديث أبي هريرة: "لقد رأيتني وإني لأخرّ في ما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ، فيجيء الجائي فيضع قدمه على عنقي، ويرى أني مجنون وما بي من جنون. ما بي إلا الجوع". ويشير الكاتب إلى أن "مما لا يقضي الإنسان منه عجباً أن أبا هريرة بينما يصف هنا ما ناله من الجوع هذا الوصف الذي يرقّ له قلب الشحيح، إذ به يزعم في ناحية أخرى أنه كان له مزود فيه بقية من تمر فمسّها النبي بيده الكريمة، وقال له: كُل من هذا المزود ما شئت في أي وقت، فأصبح به غنياً عن الناس، وظلّ يأكل منه حياة النبي، وحياة أبي بكر، وحياة عمر، وحياة عثمان، إلى أن غارت جيوش الشام على المدينة بعد مقتل عثمان، فانتهبته".
"كان عُمَر (بن الخطاب) أول مَن تنبّه إلى خطر ما يرويه أبو هريرة، وينسبه إلى النبي، فعندما انتهى إليه أنه يحدّث عن النبي، وذلك بعد رجوعه من البحرين واتصاله بكعب الأحبار، دعاه وزجره، ثم لم يلبث أن ضربه بدِرّته"
وتساءل مؤلف "شيخ المضيرة": أين كان المزود وهو يتلوى من الجوع؟ وما مدى سلامة عقل مَن يصدّق مثل هذه الأحاديث؟ وكيف استمر معه كل هذه المدة ولم يمكث في المدينة هذه المدة أصلاً؟ واصفاً بعض تصرفات الصحابي بالمشينة.
وأضاف أبو رية في كتابه، أن هذه السلوكيات جعلت النبي ينصحه: "زر غِبّاً (أي قلل زياراتك) تزدد حُبّاً"، للإقلال من التردد على بيوت الصحابة، وينصحه أيضاً: "والله لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيحتطب على ظهره فيأكل ويتصدق، خير له من أن يأتي رجلاً أغناه الله عز وجل من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه". ولما استعصى حاله، اضطر النبي إلى أن يقصيه عن المدينة ويرسله مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، في شهر ذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة، ولم يعد حتى استدعاه عمر في ما بعد.
وبالعودة إلى مصطفى السباعي، فهو يرفض قبول صورة أبي هريرة المشرّد والمتسوّل، لا لأنها مخالفة للحقيقة، بل لأنها لا تليق بصحابي، متسائلاً في كتابه المذكور: "هل يرضى أبو رية هذه الصورة لنفسه؟ أم يرضاها لولده؟ أم هل يرضاها لأحد أصدقائه؟ فكيف ارتضاها لصحابي من صحابة رسول الله". ويبدو أن السباعي محكوم بالأمنيات، فهل لشخصٍ لا يرضى للصحابة أن يقتتلوا عليه، أن يتجاهل اقتتالهم ولا يكتبه خلافاً للوقائع التاريخية؟
نهمه في المال والطعام
العديد من القضايا الشائكة ناقشها أبو رية في كتابه، مثل مدة صحبة أبي هريرة للنبي، وإبعاده عن المدينة، وسيرته بعد رحيل النبي، وتولية عمر له على البحرين، مشيراً إلى أن "أول ما انتهى إلى عمر من أخباره أنه ابتاع أفراساً بألف وستمئة دينار، فهاله ما سمع، ولما استقدمه من البحرين أتاه يحمل أربعين ألف درهم لبيت المال، وعشرين ألفاً لنفسه، فدهش عمر كيف يجبي من الناس كل هذه المبالغ الطائلة، ولم يملك إلا أن فاجأ أبا هريرة بقوله: أسرقت مال الله؟ إنك عدو الله وعدو المسلمين".
"كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة، أن ولّاه معاوية على المدينة، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصراً بالعقيق، وأقطعوه أرضاً، وأخرى بذي الحليفة، ولا يُحصى ما أسدوه له"
أما عن نهمه للطعام، فحكى أبو رية عن الزمخشري والثعالبي وبرهان الحلبي، أن أبا هريرة كانت تعجبه المضيرة، وهي نوع من أطايب الطعام، فيأكلها مع معاوية بن أبي سفيان. وذكر أن "المقامة المضيرية" التي عقدها بديع الزمان الهمذاني، "غمز فيها أبا هريرة غمزةً أليمةً"، جاء فيها: "قُدِّمت إلينا مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة"، أي أنها طعام يُدفع آكله إلى الشهادة بأحقية معاوية في الخلافة. ومن هذه القصة يأتي وصفه بـ"شيخ المغيرة".
لمعانه في عهد بني أمية حتى وفاته
"كان السلطان يؤيده ويوسع له ولغيره مجال الوضع"، يذكر أبو رية عن اتساع دور أبي هريرة في الحديث عن النبي في زمن معاوية، إذ إنه ساند بني أمية، لا بسيفه ولا بماله، وإنما بأحاديث نشرها بين الناس.
ولم يتركه بنو أمية، فقد "كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة، أن ولّاه معاوية على المدينة، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصراً بالعقيق، وأقطعوه أرضاً، وأخرى بذي الحليفة، ولا يُحصى ما أسدوه له"، كما وصلت عطاءات بني أمية له إلى أن زوّجوه من بسرة بنت غزوان التي عمل لديها أجيراً أيام فقره.
خلافاً لأيام النبي، عاش أبو هريرة منعماً، وتوفي في قصره في العقيق. وذهب أبو رية إلى أنه توفي سنة 59هـ، عن ثمانين عاماً، و"حُمل إلى المدينة وصلّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميراً على المدينة من قبل معاوية، ولما كتب الوليد إلى عمه معاوية ينعى له أبا هريرة، أرسل إليه معاوية: انظر مَن ترك، وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن إليهم، وافعل إليهم معروفاً"، وفقاً لأبو رية.
مؤلفات جريئة وجيش من الخصوم
ترك أبو رية مؤلفات مثل "قصة الحديث المحمدي"، و"أضواء على السنّة المحمدية"، و"دين الله واحد"، و"صيحة جمال الدين الأفغاني"، و"رسائل الرافعي"، و"حياة القرى" وغيرها.
ولكن مؤلفاته عن الحديث النبوي كانت الأكثر إثارةً وخلافية، إذ انتقده عدد كبير جداً من شيوخ الأزهر، منهم الشيخ محمد أبو شهبة مؤلف "دفاع عن السنّة"، الذي عدّ قواعد علماء الحديث "أرقى وأدق ما وصل إليه العقل البشري في القديم والحديث"، والشيخ محمد حمزة مؤلف "ظلمات أبي رية"، الذي جعل "الشك في الحديث أنه لم يدوّنه الصحابة، شكّ عدوٍّ في الدين".
في هوامش مقدمة "شيخ المضيرة"، أشار أبو رية إلى أن كتابه السابق "أضواء على السنّة المحمدية"، صدر في نقده آنذاك 15 كتاباً عدا ما كُتب في المجلات، بينما أشاد به الدكتور طه حسين في مقالة نُشرت في مقدمة كتاب "الأضواء"، تصف جهده في نقد الحديث بـ"الجهد العنيف الخصب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...