في مطلع حزيران/ يونيو الماضي، نشرت صحيفة الرؤية الإماراتية الإلكترونية، تقريراً اقتصادياً تناول ارتفاع أسعار السلع والمحروقات وتكاليف المعيشة داخل الإمارات العربية المتحدة. وفي سياق التقرير ذكر كاتبه بطريقة غير مباشرة، أن ارتفاع الأسعار خاصةً المواد الغذائية والمستلزمات الضرورية، يؤثر بشكل مباشر على أصحاب الدخل المنخفض.
التقرير كان يسلّط الضوء على تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا والتي بدأت مطلع شباط/ فبراير الماضي، ووصلت شظاياها إلى معظم الدول وتسببت في مشكلات في سوق الأسهم وفي ارتفاع كبير في أسعار الغاز ونقص في السلع، كما أدت إلى تباطؤ النمو العالمي، إذ أعاقت تداعياتها جهود الاقتصادات الكبرى للتعافي من جائحة كوفيد19.
ظاهرياً ومنطقياً، وبالنسبة إلى القارئ العادي في أي دولة تتيح هامشاً ولو بسيطاً من حرية الصحافة والتعبير، يُعدّ هذا التقرير عادياً جداً ولا ينال من هيبة الدولة وسلطتها، لأنه بكل بساطة يفنّد الوقائع الاقتصادية ويشرح الأسباب ولا يلوم الإمارات، ولا يحمّل حكامها أي مسؤولية أو فضيحة.
لكن السلطات الإماراتية لها حسابات أخرى، إذ ترى في التقرير أنه يسيء إلى سمعة وكيان الدولة التي لا تسمح إطلاقاً لأي صحافي يعمل داخل حدودها بأن يفكر مجرّد تفكير في كتابة ما ليس نقداً، بل ما هو خبر عادي تعدّه غير جيد لسمعة البلد الذي يسعى طوال الوقت إلى نشر تقارير عن أغلى سيارة وأفخم شقة وأعلى برج، وأن الحياة داخل الإمارات تشبه تماماً الحياة في جنّة عدن.
في مطلع حزيران/ يونيو الماضي، نشرت صحيفة الرؤية الإماراتية، تقريراً اقتصادياً تناول ارتفاع أسعار السلع وتكاليف المعيشة داخل الإمارات
تقرير يطيح بالموظفين
بعد مرور أيام على نشر التقرير، كان موظفو المؤسسة الإعلامية الأهم في الإمارات، والتي تتبع لمدينة أبو ظبي للإعلام وشركة "العالمية للاستثمارات الإعلامية" في أبو ظبي (مقر الرؤية في الميديا سيتي في دبي)، داخل منازلهم.
في ذاك اليوم، ووفق كلام أحد الصحافيين السابقين في "الرؤية"، لرصيف22، وصلوا إلى مقر عملهم كالمعتاد، لكنهم شعروا بأن هناك حركةً مريبةً داخل المؤسسة تحصل، والأجواء تشير إلى توتر وقلق على غير المعتاد، وكانت علامات الوجوم تسيطر على وجه مسؤولة الديجيتال ميديا، وهي مواطنة إماراتية، كما لوحظت حركة دخول وخروج مستمرة لمدير قسم الموارد البشرية وكأن هناك أمراً خطيراً يحصل في غرفة الأخبار، وخلال ساعات قليلة بدأت المعلومات تُتناقل في أرجاء المؤسسة وتفيد بغضب السلطة العليا على التقرير الاقتصادي الذي نُشر في الموقع، ولم يعجب شركة العالمية للاستثمارات الإعلامية التي تدير "الرؤية".
ووفق الصحافي السابق في المؤسسة، فإن مدير التحرير الإماراتي، مصطفى الزرعوني، والذي لم يمضِ على تسلّمه منصبه من سلفه محمد الحمادي، أكثر من سنة ونصف السنة، أبلغهم في اجتماع بأن الموقع سوف يتوقف عن نشر الأخبار في كافة الأقسام مع الإبقاء فقط على نشر أخبار اقتصادية دولية وعربية.
يقول: "لم نفهم بدايةً ما المشكلة، لأنه في وقت سابق وتحديداً بعد شهر رمضان في نيسان/ أبريل الماضي، أعلنت إدارة الرؤية عن توقف النسخة الورقية والاكتفاء بالطبعة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بها، لأنها تخاطب الجيل الجديد، ولم يعد السوق يحتاج إلى الصحف الورقية التي تُكلّف ميزانيات كبيرةً، ولكن بعد شهر ونصف تم إبلاغنا بتوقيف الجميع عن العمل وتحويل الموقع الإخباري والفني والاجتماعي إلى مجرد منصة لنشر الأخبار الاقتصادية يديرها ثلاثة أشخاص".
ويضيف الصحافي، الذي اعتذر عن كشف هويته خوفاً من توقيفه وترحيله: "تم إبلاغنا باجتماع عبر البريد الإلكتروني قبل يوم واحد، وفي الاجتماع تم التطرق إلى أن المؤسسة ستقفل نهائياً بسبب تقرير ما كان يجب نشره، ليدفع أكثر من 60 موظفاً الثمن ويخسروا عملهم ويقبعوا في منازلهم بحثاً عن فرصة جديدة في مكان آخر، مع العلم أن رواتب الرؤية كانت ممتازةً لأنها مموّلة من الحكومة، واليوم معظمنا بلا عمل منذ ثلاثة أشهر".
تجارب لم تكتمل
خطوة السلطات الإماراتية في حق صحيفة مموّلة منها، تُعيد طرح السؤال حول حرية الصحافة في العالم العربي، وفي دول الخليج العربي على وجه الخصوص، والتي لا تختلف عن سوريا ومصر والعراق وغيرها من الدول في كيفية التعاطي مع الصحافيين ووسائل الإعلام.
في اجتماع للموظفين تم التطرق إلى أن المؤسسة ستقفل نهائياً بسبب تقرير ما كان يجب نشره، ليدفع أكثر من 60 موظفاً الثمن ويخسروا عملهم ويقبعوا في منازلهم بحثاً عن فرصة جديدة في مكان آخر
وانطلقت من الإمارات عام 2005، أكبر مدينة إعلامية في الشرق الأوسط، ومركزها دبي، وكانت خطة الحكومة جذب الوسائل الإعلامية العالمية والعربية واستقطاب نخبة مهمة من العاملين في قطاع الإعلام، لإدراكهم أهمية القوة الناعمة للترويج للبلد الذي يعتمد في اقتصاده في الدرجة الثانية بعد النفط على السياحة التي تحتاج إلى ترويج دائم لها.
بعض تجارب الإعلام الأجنبي الذي وفد إلى دبي في السنوات الماضية لم يستمر، إذ واجه خيبات أمل متكررةً دفعته إلى الخروج من الإمارات والخليج العربي، وفي هذا الصدد تجربة الـ"بي بي سي" عربي التي فتحت مكتبين كبيرين لها في المدينة الإعلامية في دبي لتكون الخطوة هذه انطلاقةً إلى دول الخليج والمنطقة، إلا أن اللافت أن التجربة لم تكتمل كما كانت تأمل إدارتها.
وخاضت القناة في مواضيع تُعدّ من المحرمات في الإمارات، منها على سبيل المثال طرحها لموضوع العمالة الأجنبية، خاصةً العمال الآسيويين ووفاة المئات منهم بسبب عملهم في ظروف بيئية خطيرة أو تحت أشعة شمس حارقة. بعد هذا التقرير، عرضت آخر يتناول عدم دفع مستحقات العمال (التقارير عُرضت عام 2012)، من قبل شركات المقاولات التي تستغلهم إلى حد كبير، قبل أن تقرر القناة عدم متابعة مسيرتها في الإمارات وإغلاق مكاتبها التي لا تزال موجودةً وعليها شعار المؤسسة لكن من دون موظفين.
وفي سياق متصل، وقعت قبل سنتين حادثة داخل فندق في دبي، فتم توجيه إنذارات إلى كل الوسائل الإعلامية داخل البلد بعدم نشر خبر عن الموضوع، وهو عن قضية "بو مفتاح" التي وقعت في كانون الأول/ ديسمبر 2020، حين قامت مجموعة من الشباب من الجنسية الإماراتية باغتصاب مواطنة داخل فندق في منطقة بور دبي التراثية، وتوثيق الحادثة عبر مقاطع فيديو.
بين الحين والآخر ينشر عدد من المعارضين الإماراتيين على "تويتر"، مقاطع فيديو توثق حدوث مشكلات أمنية وجرائم واعتقالات لناشطين
في يوم انتشار الخبر بعد إحداثه ضجةً على مواقع التواصل الاجتماعي، حذفت الوسائل الإعلامية الداخلية الخبر، فيما اكتفت "الحرة" على سبيل المثال بحذف بعض المعلومات والتفاصيل لكنها أبقت على هيكله وفحواه.
الرقابة المسبقة
يعتقد من يعيش خارج الإمارات بأن هذا البلد لا تحصل فيه جرائم ولا سرقات، إلا أن الأمور ليست بالطريقة التي تُصوّر فيها، بالرغم من أن الأمن فيها جيد جداً ودرجة الأمان عالية قياساً ببقية الدول، والشرطة والأجهزة الأمنية تعمل بمهنية عالية ولا تقصّر في عملها، لكن ما يحاول الإعلام المحلي الترويج له غير دقيق ومبالغ فيه.
بين الحين والآخر، ينشر عدد من المعارضين الإماراتيين على "تويتر"، بينهم الناشط المعارض والمبعَد عن البلاد، حمد الشامسي، مقاطع فيديو توثق حدوث مشكلات أمنية وجرائم واعتقالات لناشطين، والشامسي من أكثر الأشخاص الذين يسببون حساسيةً للسلطة التي تحاول معرفة كيفية وصول هذه المقاطع إليه ونشرها.
يقول أحد الصحافيين الذي يعمل مع صحيفة أجنبية في دبي، لرصيف22: "من تجربتي الشخصية وتجارب زملاء لي، نحن نعاني الكثير في عملنا، أي تقرير سياحي أو اقتصادي يحتاج من أسبوع إلى أسبوعين لنيل الموافقة من قبل السلطة المختصة، وفي حال كان الموضوع يتناول مرفقاً سياحياً أو ثقافياً كمتحف اللوفر في أبو ظبي مثلاً، بعد الانتهاء من كتابته علينا عرضه على المعنيين للموافقة عليه".
ويضيف: "في إحدى المرات، أرسلت تقريري لهم لتتم مراجعته فأعادوه مع بعض التنقيحات، أبرزها أنه لا يمكن ذكر الشيخ أو حاكم دبي محمد بن راشد من دون ذكر سمو الشيخ أطال الله عمره، وحين شرحت لهم أننا في مؤسستنا لا نستخدم تلك الألقاب، أجابوا بأنه لا يمكنني نشره، وعليّ اعتماد النسخة المنقّحة، وهذا يحصل مع زملاء لي في مؤسسات أخرى، فأي موضوع يتحدث عن مرفق عام أو مؤسسة عامة تابعة للإمارات، يجب أن يمر بالرقابة والأكثر تعباً أنهم لا يعيدونه في غضون ساعات بل بعد أسبوع، ومن يعمل كصحافي مستقل لن يستطيع كتابة أكثر من ثلاثة تقارير شهرياً، وهذا لا يعنيهم، ما يعنيهم صورتهم البهية الإيجابية".
خنق الحريات
يتم تداول معلومات بين الحين والآخر في الإمارات، عن إقالات جماعية أو تنحية رئيس تحرير مؤسسة بسبب خبر أو موضوع لم يُعجب السلطات، وإذا كان بعضها قد أمكن التأكد منه كما حصل مع الرؤية، إلا أن أحداثاً كثيرةً مشابهةً يصعب التحقق منها بسبب التضييق الكبير الذي يحصل ومنع أي كان من الحديث في هكذا مواضيع.
وباستطلاع رأي أكثر من صحافي أجنبي يعمل في دبي وأبو ظبي، فقد أجمعوا على أن الضوابط كثيرة، ويقول أحدهم: "الصحافي الأجنبي المقيم في دول الخليج مثلاً، يتفهم ولو بصعوبة أنه لا يحق له التدخل في الشؤون السياسية للدولة التي يعيش فيها ولكن منعه من طرح مواضيع عامة تهم المواطن، إلا بإذن مسبق، أمر مستغرب، لأن العمل الصحافي ليس مكتب علاقات عامة لنشر أخبار عن الأبراج الشاهقة والسيارات الفاخرة وأغنى رجال الأعمال، فلتلك المواضيع أربابها".
في إحدى المرات، أرسلت تقريري لهم لتتم مراجعته فأعادوه مع بعض التنقيحات،وأنه لا يمكنني نشره كما هو، وعليّ اعتماد النسخة المنقّحة
في المقابل، الإعلام المحلي في الإمارات بمجمله، والذي لا ينشر أي شيء حول ما يحصل داخل البلاد، ينشر كل الأخبار والمخالفات التي تحصل في كل الدول الأخرى، لا بل تصبح "تراند" في برامجهم، لكن خبراً عن جريمة أو سرقة أو عمليات نصب أو اختلاس كالتي تحدث في الإمارات، يتم التعتيم عليها ومقاضاة أي شخص يتجرأ على نشر خبر أو فيديو عنها.
فعلى سبيل المثال، وقع حريق قبل شهر في مستودع للأخشاب في منقطة القوز، شرق دبي، وقام أحد المقيمين في البلد بالتقاط فيديو ونشره على منصة "إنستغرام"، فتم توقيفه وسجنه وصدر قرار بترحيله بعد قضاء عقوبته.
وفي معلومات رصيف22، من مصادر صحافية، أن صحيفتي نيويورك تايمز الأمريكية وغارديان البريطانية تتحضران لنقل مكاتبهما من بيروت إلى دبي، وذلك مطلع العام المقبل، لكن -وفق مصدر منهما- فإن إدارة الأولى تفكر جدّياً في كيفية التعاطي مع سلطة الرقابة في البلد الخليجي الذي يخنق تحركات الصحافيين، سيما أن هذه الصحيفة تتتاول الكثير من التحقيقات الجريئة، ولا تولي أهميةً لأي سياسة أو حسابات أخرى، فكيف سيكون الأمر معها، أو ستتحول هي الأخرى كزميلاتها إلى مجرد مكتب أخبار قصيرة ومنوعات؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...