"أنام بعين مغمضة، وأخرى مفتوحة، وكثيراً ما أتفقد رزقي ليلاً أنا وأولادي، متحزماً بمسدسي، إذ يجب أن أكون مستعداً لكل الاحتمالات، فقطاع الطرق واللصوص مستعدون لقتل إنسان من أجل ألف ليرة في جيبه، خاصةً في ظل انتشار المخدرات والإقبال الواسع عليها من الشباب، فهذا سبب يدفع الشاب إلى سرقة والده وقتله حتى".
بهذه الكلمات يتحسر أبو محسن الزعبي، الذي لم يتوقع أن تصل المحافظة إلى هذه المرحلة من الفلتان الأمني، والعجز عن العيش بسلام وطمأنينة، فلا يمر يوم من دون أن يسمع خبر اغتيال أو محاولة خطف أو اعتداء أو تشليح أو إطلاق رصاص، و"بات مشهد وجود جثة مرمية في الطرقات أو مشهد خطف أمراً مألوفاً في محافظة درعا"، يقول.
يرقد الستيني الذي يعمل مزارعاً ومربياً للمواشي في غرفته المطلة على أرضه وحظيرة ماشيته، سعياً منه إلى الانقضاض مباشرةً على اللصوص في حال قدومهم، بعد ازدياد حالات السرقة والنهب من مجموعات باتت منظمةً، حسب وصفه، و"لا تتورع عن تصفية من يعترض طريقها، فلم يعد الأمر مقتصراً على الطرقات، بل صارت البيوت والمزارع والأرزاق هدفاً لهم".
أبو محسن المقيم في الريف الجنوبي لدرعا، يروي لرصيف22، أن "الوضع الأمني في درعا ازداد سوءاً منذ اتفاق التسوية قبل أربع سنوات، فقبل التسوية كان الخوف من قذائف الهاون أو الطيران، أما اليوم فالخوف من طلقة غادرة"، متسائلاً بشكل ساخر عن الجهة التي يمكن اللجوء إليها لمعالجة الوضع الأمني، فـ"الدولة التي تُعدّ مطالبةً بكبح جماح هذه العصابات هي التي تدعمهم أصلاً وتشرف عليهم عبر أذرع فروعها وضباطها لهدف مادي، ورغبةً منها في زعزعة المحافظة التي أذاقت النظام الويلات منذ اندلاع الثورة في العام 2011".
الدولة التي تُعدّ مطالبةً بكبح جماح هذه العصابات هي التي تدعمهم أصلاً وتشرف عليهم عبر أذرع فروعها وضباطها لهدف مادي
القتل المجهول
تتمدّد الاضطرابات الأمنية بصورة مطّردة في درعا، إذ تحوّلت المحافظة إلى مسرح اغتيالات وتصفيات وخطف، وتكاد هذه تكون ممارسةً شبه يومية، وباتت المحافظة تعيش على صفيح ساخن نتيجة تأزم الأوضاع الأمنية، وازدياد الجرائم المرتكبة وعمليات التصفية الممنهجة، التي بدأت منذ توقيع اتفاقية التسوية في تموز/ يوليو 2018، إذ طالت أطراف النزاع من قوات النظام والموالين له والميليشيات الإيرانية وعناصر سابقين لفصائل المعارضة ومدنيين أيضاً.
انتشار خلايا الاغتيال مع تعدد ولاءاتها وانتماءاتها وأهدافها، على امتداد المحافظة، بات هو القاعدة في درعا، وهو ما يقلق الأهالي خاصةً، فمنها من يعمل لصالح النظام بمختلف فروعه الأمنية، ومنها من يعمل لصالح ميليشيات إيران وحزب الله، ومنها من يتبع لتنظيم داعش، ومنها لهيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، ومنها من يعمل بشكل مستقل بغرض السرقة والابتزاز وترويج المخدرات.
وتشير إحصائية نشرها "تجمع أحرار حوران" (مؤسسة إعلامية تهتم بأخبار الجنوب السوري)، في 1 أيلول/ سبتمبر الحالي، إلى مقتل 53 شخصاً بينهم طفلان وسيدة في محافظة درعا، 4 برصاص قوات النظام و6 أشخاص بعد تعرضهم للخطف من مجموعة محلية تتبع لجهاز المخابرات الجوية شرق درعا.
كما تم توثيق 33 عملية اغتيال ومحاولة اغتيال، أسفرت عن مقتل 21 شخصاً، وإصابة 15 آخرين بجروح متفاوتة ونجاة 9، في حين توزّع قتلى الاغتيالات ما بين 13 مدنياً و8 عسكريين و5 عناصر من فصائل الجيش الحر الرافضين لاتفاق التسوية، وقيادي سابق من تنظيم داعش، وآخر يتزعم مجموعةً تابعةً لجهاز المخابرات الجوية، لتكون المحافظة الخاضعة لاتفاق التسوية هي الأبرز في عمليات الاغتيال والتصفية على الجغرافية السورية.
من المستهدف؟
تواصل رصيف22، مع المتحدث باسم تجمع أحرار حوران، أيمن أبو نقطة، الذي أكد أن أكثر الفئات المستهدفة هي فئة العناصر السابقين في المعارضة بمختلف انتماءاتهم، وسواء من الذين أجروا تسويةً ومصالحةً وانضموا إلى صفوف النظام أو الذين رفضوا الانضمام إلى قوات النظام أو إلى عناصر الميليشيات الموالية، بالإضافة إلى استهداف مجموعات معارضة موالية للنظام تعمل لصالحه.
أنام بعين مغمضة، وأخرى مفتوحة، وكثيراً ما أتفقد رزقي ليلاً أنا وأولادي، متحزماً بمسدسي، فقطاع الطرق واللصوص مستعدون لقتل إنسان من أجل ألف ليرة في جيبه
وبحسب أبو نقطة، المتحدر من محافظة درعا، فإنّ معظم عمليات الاغتيال التي تم توثيقها تجري بواسطة إطلاق النار من أسلحة رشاشة روسية من نوع كلاشنكوف، أو قنبلة يدوية، أو بواسطة عبوة ناسفة، فضلاً عن اغتيالات تأتي بعد عمليات خطف لأيام عدة.
وتتنوع الجهات المسؤولة عن عمليات التصفية والخطف والسلب، فمنها خلايا تتبع للمخابرات الجوية المرتبطة بإيران المتمركزة في الريف الشرقي لدرعا، وخلايا تتبع للأمن العسكري في الريفين الغربي والجنوبي قرب نصيب الحدودية، وبين الفرعين غرفة عمليات مشتركة مرتبطة بالميليشيات الإيرانية وميليشيا حزب الله، إذ يتم التنسيق بينهم لإدارة عمليات الاغتيال والسلب والخطف عبر قوائم تتضمن المستهدفين.
في المقابل، تنشط خلايا معارضة تستهدف الموالين للنظام وضباطاً وعناصر وقادة معارضين انخرطوا في تشكيلات تابعة لنظام الأسد أو روسيا بعد اتفاق التسوية، ثأراً منهم ومحاولةً لإيصال رسالة إلى نظام الأسد بأنه لا مجال أمام قواته وفروعه للتحكم والإمساك بالمحافظة مرةً أخرى.
وتجري العادة بألّا تتبنى أي جهة مسؤوليتها عن عمليات الاغتيال التي تحدث، وفق أبو النقطة، في وقتٍ يتهم فيه أهالي المحافظة وناشطوها، الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري والميليشيات الإيرانية، عبر تجنيدها ميليشيات محلّيةً، بالوقوف خلف الكثير من عمليات الاغتيال التي تطال في غالب الأحيان معارضين للنظام ومشروع التمدد الإيراني في المنطقة، وآخرهم القيادي خلدون الزعبي مع أربعة من مرافقيه في 25 آب/ أغسطس الماضي، وقبله بأيام قليلة الشيخ فادي العاسمي أحد وجهاء درعا، إذ قُتل برصاص مجهولين في مدينة داعل في ريف درعا الشمالي.
فراغٌ أمني
تنشط خلايا معارضة تستهدف الموالين للنظام وضباطاً وعناصر وقادة معارضين انخرطوا في تشكيلات تابعة لنظام الأسد أو روسيا بعد اتفاق التسوي
يُعدّ الفراغ الأمني الحاصل في عموم المحافظة، سبباً في تصاعد حالات الاغتيال والقتل نظراً إلى طبيعة المنطقة ومساحاتها الشاسعة وصعوبة احتواء كل القرى والبلدات أمنياً، فضلاً عن تفاقم النزاعات ما بين الأذرع الدولية (إيران ضد روسيا)، ما يؤدي إلى استهداف متبادل من كلا الطرفين، وخاصةً من قبل الميليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة التي تستلم ملف المخدرات والاتجار به وتهريبه عبر الحدود الجنوبية وتصفية كل من يواجه مخططاتها ومشروعها.
ويرى الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أن "هناك فوضى كبيرةً في مختلف البنى التي يتكون منها النظام، وهناك وجود عضوي داخل النظام لكل من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، وروسيا، وبذلك لا توجد إدارة مستقلة لدى النظام، بل تيارات واتجاهات مرتبطة بمصالح، سواء للاتجار بالمخدرات أو مع الفاعلين الخارجيين (روسيا وحزب الله وإيران)، وهذا يجعل المصلحة الفئوية ومصلحة اقتصاد الحرب متقدمةً على المصلحة الوطنية لدى هذه الأجهزة التي تُسمى بمجملها النظام".
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "أكثر المستفيدين من عمليات القتل والخطف والسلب ومن يقف وراءها ويموّلها، ويخطط لها، هي الفروع الأمنية التابعة للنظام السوري، وتحديداً شعبة المخابرات العسكرية في المنطقة الجنوبية والمسؤول عنها العميد لؤي العلي، بالإضافة إلى المخابرات الجوية، إذ تُعدّ هذه الفروع أذرع إيران وحزب الله، وهي تطال أي صوت يرتفع في وجه فوضى المخدرات والاتجار بها والتجنيد المستمر ضمن ميليشيات إيران".
وتعتمد هذه الفروع وبإشراف شخصي ومباشر من العميد لؤي العلي، على توظيف مجموعات وعصابات من تنظيم داعش سواء أكانت تعمل هذه المجموعات تحت اسم داعش مثل المجموعات الأمنية التي أُلبست لبوس داعش وزُرعت بين المجموعات الراديكالية، أو من المعتقلين السابقين الذين أُطلق سراحهم بناءً على تعهدهم باصطناع فوضى أمنية وأعمال تستهدف القادة السابقين من عناصر الجيش الحر ومن الثوار، كذلك تستهدف أي صوت مجتمعي يقف في وجه التمدد الإيراني، بحسب علوان.
وبرأيه، بات من الصعب التخلص من هذه الخلايا، لأن عملية التجنيد وعملية الاختراق مستمرتان، كذلك عملية تعزيز هذه الفوضى الأمنية مستمرة عبر زج المزيد من العناصر حتى من خارج المنطقة الجنوبية والتخطيط الذي يعمل عليه الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، والتمويل لهذه الفوضى في مقابل أن تبقى الفوضى تعمّ هذه المنطقة، وتالياً يستطيع أن يستثمر فيها أمنياً، وأن يستثمر أيضاً في تجارة المخدرات من حزب الله والفرقة الرابعة، وميليشيات إيران وخاصةً في الريف الغربي لدرعا الذي تتمسك فيه وتركز عليه لقربه من الحدود الأردنية ومرتفعات الجولان.
ويتفق علوان مع أبو نقطة، في أن "الاغتيالات تؤثر على الوضع الاجتماعي والمعيشي، فهي تعني الفوضى الأمنية، ويقابلها رد فعل ممن يأبى هذه الحالة من الفوضى والاستبداد الأمني المستمر، وتالياً يخلق ذلك تهديدات وحصاراً لبعض المناطق بين الفترة والأخرى، وتأثيراً على حياة الناس وأمنهم وأرزاقهم خاصةً أن نسبةً كبيرةً من الأهالي يعتمدون على الزراعة، إذ إنه وبالرغم من الفوضى الأمنية المنتشرة، لا يوجد لدى المدنيين أي حلّ لمواجهتها، كما تغيب أي احترازات حقيقية، لأن هذه الخلايا تعتمد على المراقبة والرصد، وتكون عمليات القتل والخطف منظمةً، فمجموعة تراقب وأخرى تنفذ، وأخرى ترصد الطرقات الأخرى، خوفاً من أي طارئ".
ذعرٌ دائم
شهد جاد عبد الله (اسم مستعار)، حادثة اغتيال القيادي في صفوف المعارضة السورية إياد بكر أبو حسن، بعد تفجير سيارته بعبوة ناسفة من قبل عناصر المخابرات الجوية، كما شهد حوادث عدة لخطف الأطفال بغرض طلب فدية مالية خلال ذهابهم أو عودتهم من مدارسهم، ولوحظت مشاركة نساء يرتدون زيّاً مشابهاً لزي نساء البلدات والقرى، كن يستدرجن الأطفال بغرض خطفهم، وفق قوله.
أكثر المستفيدين من عمليات القتل والخطف والسلب هي أذرع إيران وحزب الله، وهي تطال أي صوت يرتفع في وجه فوضى المخدرات والاتجار بها والتجنيد المستمر
ويكشف عبد الله الذي يعمل مدرساً، ويتحدر من ريف درعا الغربي، عدم تدخل الجهات الأمنية في العديد من حوادث الاغتيال والخطف والسلب التي جرت في منطقتهم، بالرغم من وجود مخفر للشرطة ونقطة للأمن العسكري، مشيراً إلى أن من يتدخل لحلها وملاحقتها وإيقاف السرقات هم عناصر المعارضة السابقون، إذ قاموا بتشكيل دوريات ليلية لحماية الأرزاق والممتلكات، كما ينتشرون نهاراً لضبط الأمن والتأكد من أوراق السيارات والدراجات الداخلة إلى المنطقة والخارجة منها.
في المقابل، لا يمكن إخفاء الذعر والخوف الكبيرين من القتل شبه اليومي، إذ يلجأ الأهالي وعناصر المعارضة إلى الابتعاد عن المرور بحواجز النظام والقطع العسكرية، ومنهم من يضع كاميرات أمام منزله لرصد أي حركة مشبوهة، بالإضافة إلى تخفيف التحرك ليلاً، فهناك الكثير من الأهالي لا يخرجون إلا للضرورة القصوى، كما يلتزم كثير من الناشطين منازلهم ويمتنعون عن الخروج منفردين وفي طرقات خالية من المارة والتجول في ساعات متأخرة.
يلجأ الأهالي وعناصر المعارضة إلى الابتعاد عن المرور بحواجز النظام والقطع العسكرية، ومنهم من يضع كاميرات أمام منزله لرصد أي حركة مشبوهة
وهم الاستقرار
لم تطبَّق وعود النظام فعلياً على أرض الواقع منذ اتفاق "التسوية"، في وقف عمليات المداهمة والاقتحام، وإطلاق سراح المعتقلين وإعادة الخدمات وإصلاح البنى التحتية، على عكس ما يتم ترويجه في إعلامه المحلي، في محاولة منه لسدّ الطرق أمام السكان المحليين والراغبين في العودة إلى البلاد.
يشير العميد المنشق أسعد الزعبي، لرصيف22، إلى أن النظام يركّز على إغلاق الأبواب أمام العائدين، وهذه الطريقة هي إحدى منتجات الطريقة الروسية، لكن ليس إغلاقاً تاماً، إنما إغلاق جزئي حتى يعود الرمادي ثم المعارض ثم الثائر، وتالياً التخلص منهم، فكل من عاد جرى التخلص منه بعد فترة، مضيفاً أن حديث البعض عن استقرار أمني هو كذب، فحتى النظام لا يرغب في الاستقرار لأن في ذلك موته، فضلاً عن أن كل الدول وخاصةً دول الجوار يعلمون علم اليقين أنه لا يوجد استقرار في سوريا، إنما يحاولون دبلوماسياً الترويج لذلك.
ويلفت العميد الذي شغل سابقاً رئاسة وفد المعارضة إلى محادثات جنيف، إلى أن الخطة الروسية التي وُضعت للجنوب مستوحاة من قمعها لثورة الشيشان من خلال تقسيم الخصم إلى ثلاثة أطراف صديقة، وطرف رابع خطير، يتم التخلص منه، وبعد الانتهاء منه يتم إعادة تقسيم الأطراف الثلاثة إلى أربعة أقسام أحدها فقط خطير (طبعاً حسب تصنيف الروس والنظام)، ثم يتم التخلص من هذا الطرف، وهكذا يتم التخلص من الجميع بطريقة سلسة وهادئة أو على الأقل بأقل الأثمان والخسائر.
وعلى سبيل المثال، بحسب الزعبي: "اليوم في حوران يتم التخلص من مجموعة من تجار المخدرات حتى تحل مكانها مجموعة أخرى، إلا أن هناك مجموعةً مثقفةً من أبناء الجنوب أخذت على عاتقها محاربة النظام وميليشيات إيران فحسب، وهي على درجه عالية من الوعي الثوري والعسكري، بمعنى أنها قادرة على تقدير الموقف والمعرفة الجيدة، وتميّز بين العدو والصديق، والأهم أنها لا تتخلص من أبناء البلد إلا من يشكل منهم خطراً على الأهالي بشكل كبير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 9 ساعاتHi
Apple User -
منذ 9 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا