على الرغم من التشتت والضعف اللذين عانت منهما عشائر حوران، خلال سنوات الحرب الماضية، وطغيان الفصائل وقادتها على النظام العشائري الحوراني، إلا أن تسوية عام 2018، كانت نقطة تحوّل لوضع العشائر، إذ بدأت بالتعافي من جديد، وبدأت بالعودة إلى دورها الطبيعي بشكل تدريجي، لتكون محط أنظار النظام، والروس، وحتى الإيرانيين، وميليشياتهم، للفوز بولاء هذه العشائر الذي يُسهّل بسط السيطرة، وتخفيض حجم المشكلات، والمعارضة التي تواجه وجود هذه الأطراف، وتواجدها.
كما بدأت العشائر تعود إلى الواجهة، مع تدخّلها في حل الخلافات على مستوى محافظة درعا، ومع الجارة السويداء، خاصةً مع وجود مشكلات نتجت عن اشتباكاتٍ بين فصائل من الطرفين، وقضايا خطف متبادل كان للعشائر والوجهاء الدور الأكبر في حلّها.
كانت بداية الخلاف في آذار/ مارس 2020، بعد اشتباكٍ بين عناصر اللواء الثامن من بصرى الشام، وبين مجموعة مسلحة من بلدة القريا، التابعة للسويداء، على خلفية خطف شخصين من بصرى الشام من قبل مجموعة خارجة عن القانون في القريا، وأدى الاشتباك إلى مقتل تسعة أشخاص من الطرفين، وتدخل الروس لحلّ الخلاف، وتم نشر نقاط مراقبة للواء الثامن على الحدود الإدارية بين بصرى الشام والقريا.
ساهمت العشائر والوجهاء في كلٍّ من درعا والسويداء، في حلّ الكثير من الخلافات، وهي حوادث لم يستطع النظام، أو الروس، أو أي جهة مسلّحة، وضع حدٍّ لها
وبعد مرور شهر، قرر اللواء الثامن، والروس، سحب نقاط المراقبة، وحل الخلاف مع بلدة القريا، بوساطات من وجهاء الطرفين. لكن قامت مجموعة بمهاجمة اللواء الثامن، بدعمٍ من قوات الدفاع الوطني التابعة للميليشيات الإيرانية، ما أدّى إلى مقتل أحد المهاجمين، ثم تلا ذلك هدوء حذر حتى نهاية أيلول/ سبتمبر 2020، حين قامت مجموعات إيرانية مدعومة، بمهاجمة بصرى الشام من محاور عدة، ونتج عن الهجوم سقوط قتلى من الطرفين، وكاد المهاجمون أن يقوموا بتوريط حركة رجال الكرامة في السويداء، التي انسحبت مجموعتها عندما علمت بحقيقة ما يجري.
سُجّل ما لا يقل عن 120 حالة خطفٍ متبادلة بين المحافظتين، بين عامي 2020 و2021، ولكن تم الإفراج عنهم جميعاً، وكانت النسبة الأكبر من المفرَج عنهم نتيجة تدخل الوساطات العشائرية
إثر ذلك، بدأت العشائر في درعا عبر لجنةٍ خاصة تم تشكيلها، ومقرّها بصرى الشام، بالتواصل مع العشائر، ورجال الدين، ورجال الكرامة في السويداء، وتم عقد اجتماعات عدة أدّت إلى انتهاء الخلاف بالصلح بين الطرفين، وعدّ العلاقة بين المحافظتين هي الأهم، وكان للدور العشائري ضمانات فاقت ضمانات الروس كلها، في حل هذا الخلاف، الذي لا يزال سارياً حتى الآن. ولولا تدخّل العشائر والوجهاء من الطرفين، لنتجت عنه معركة طويلة كانت ستؤدّي إلى خسائر كبيرة في الأرواح، لم يستطع الروس واللواء الثامن وضع حدٍّ لها.
من جهةٍ ثانية، ساهمت العشائر والوجهاء في كلٍّ من درعا والسويداء، في حلّ الكثير من الخلافات الناتجة عن حوادث خطفٍ لمدنيين من المحافظتَين، تنفذّها حتى اليوم مجموعات مسلّحة خارجة عن القانون، وهي حوادث لم يستطع النظام، أو الروس، أو أي جهة مسلّحة، وضع حدٍّ لها.
يقول أبو محمود الحوراني، الناطق باسم تجمّع أحرار حوران، لرصيف22: "مكتب التوثيق في التجمّع، سجّل ما لا يقل عن 120 حالة خطفٍ متبادلة بين المحافظتين، بين عامي 2020 و2021، ولكن تم الإفراج عنهم جميعاً، وكانت النسبة الأكبر من المفرَج عنهم نتيجة تدخل الوساطات العشائرية ووجهاء المحافظتين، بينما تم الإفراج عن مخطوفين في بعض الحالات، بعد دفع مبالغ مالية فديةً للخاطفين".
طبيعة المجتمع في السويداء هي طبيعة عشائرية وعائلية، وهي منفتحة بشكلٍ كبير، وهذا ما منحها صبغةً علمانيةً مدنيةً، مع بقاء الأصالة والعادات العشائرية، خاصةً في الأزمات
ويضيف الحوراني: "على خلفية حوادث الخطف، وخلافات أخرى بين المحافظتين، تم تشكيل لجنة عشائرية من عشائر حوران وعائلاته، مقرّها بصرى الشام، لتكون مسؤولةً عن حل أي خلاف ينشأ بين درعا والسويداء، كما شكّل أهالي السويداء لجنةً مماثلةً من شيوخ العشائر ورجال الدين ورجال الكرامة للسبب نفسه، وهم على اتصالٍ دائمٍ بعشائر درعا، وهذا ما ساهم في تخفيف التوتر في الكثير من الحالات، وحلّ العديد من القضايا، وتحسين مستوى العلاقة بين الطرفين التي عمل النظام على تخريبها خلال السنوات الماضية".
من جهته، يقول أبو أمير سليمان، وهو ناشط من السويداء، لرصيف22: "طبيعة المجتمع في السويداء هي طبيعة عشائرية وعائلية، وهي منفتحة بشكلٍ كبير، وتتقبل الاختلاف، وهذا ما منحها صبغةً علمانيةً مدنيةً، مع بقاء الأصالة والعادات العشائرية، خاصةً في الأزمات".
المجتمع في السويداء، ينقسم إلى أقسامٍ عدة، زعماء عشائر وعائلات، وشيوخ الدين، وعامة المجتمع، والعشيرة لا تزال تحظى باحترامها ومكانتها، خاصةً في السنوات الأخيرة
ويوضح سليمان، أن "المجتمع في السويداء، ينقسم إلى أقسامٍ عدة، زعماء عشائر وعائلات، وشيوخ الدين "شيوخ العقل"، والأجاويد، وعامة المجتمع، والعشيرة لا تزال تحظى باحترامها ومكانتها، خاصةً في السنوات الأخيرة، إذ استطاعت الحفاظ على الأمان بنسبةٍ كبيرة، في ظل غياب النظام والقانون".
ويؤكد أنه في "العلاقة مع درعا، ونتيجةً ليقين أبناء المحافظتين بأن النظام يعمل على زرع الفتنة بينهما، فقد اضطلع أبناء العشائر ورجال الدين في السويداء بحل الخلافات مع محافظة درعا، من خلال الاستفادة من العلاقات الطيبة مع عشائر درعا ووجهائها".
توحّد العشائر
كان للمعركة التي شنّها النظام، بدعمٍ إيراني على أحياء في مدينة درعا؛ "درعا البلد، وطريق السد، ومخيم درعا"، دوراً مهماً في توحّد عشائر درعا للمرة الأولى، حول قرارات مصيرية. فبعد حصار النظام لهذه الأحياء، وقصفها لنحو شهرين، في تموز/ يوليو، وآب/ أغسطس من العام الجاري، اجتمع ممثلون عن عشائر وعائلات حوران كلها، في مدينة طفس في ريف درعا الغربي، في تاريخ 5 آب/ أغسطس، وأصدروا بياناً موحّداً استنكروا فيه "استقدام النظام والميليشيات الموالية لها للحشود العسكرية المتزايدة على أرض حوران، والحصار المطبق على أهالي درعا البلد، رافضين التهديدات التي يطلقها ضباط النظام السوري، بالقتل، والاقتحام، والتهجير بحق أهالي درعا".
وكان لتدخل العشائر ووقفتها الموحّدة دور مهم في توقف الحملة العسكرية على درعا البلد، والتوصل إلى اتفاق تسوية شمل بعدها حوران كلها، وجنّب الأطراف كلها ثمناً باهضاً من الدماء والدمار.
كان لتدخل العشائر ووقفتها الموحّدة دور مهم في توقف الحملة العسكرية على درعا البلد، والتوصل إلى اتفاق تسوية شمل بعدها حوران كلها، وجنّب الأطراف كلها ثمناً باهضاً من الدماء والدمار
موقف عشائر درعا كان بمثابة دفعة قوية للوقوف مع المحافظة من أبناء السويداء، ففي تاريخ 16 آب/ أغسطس الماضي، صدر بيان عن "الرئاسة الروحية لطائفة الموحّدين الدروز" في السويداء، على لسان شيخ العقل حكمت الهجري، أكد فيه وقوف أبناء الطائفة الدرزية مع الإرادة الشعبية في درعا، في مواجهة عملية عسكرية تشنّها قوات النظام السوري.
وجاء في البيان أنه "لا ننسى أن نشير إلى التناغم ورسوخ الأصالة والتآخي الصادق بيننا، وبين أهلنا الصادقين الأوفياء في سهل حوران، ونحن نقف أيضاً بجانب الإرادة الشعبية الأهلية الاجتماعية الأصيلة لهم، ضد مظاهر الفساد والقتل والأذى كلها، فجراحنا واحدة، وآلامنا واحدة، ونحن وإياهم تحت ظل القانون، والعادات والأصول التي توافقنا عليها، كما سنّها الأجداد والأصلاء".
العشائر واللجان المركزية
للنظام السوري خبرة طويلة في التعامل مع العشائر في سوريا، منذ وصول الراحل حافظ الأسد إلى الحكم، وهذا ما دفع النظام بعد تسوية عام 2018، للعودة تدريجياً لإشراك العشائر في محافظة درعا في العديد من الأعمال التي استعصت عليه، وعلى الروس، وكان للروس دور مهم في إعادة توجيه النظام، ولفت انتباهه إلى أهمية الدور الذي تلعبه العشائر في الاستقرار والتوصل إلى الحلول حول المسائل الخلافية.
العشائر لم تتواطأ مع النظام على الإطلاق، وإنما لم تجد بديلاً آخر لاتفاق التسوية الذي تم، وجمع السلاح أو ثمنه، لتجنيب المحافظة عمليات عسكرية كبيرة
فمع تسوية 2018، وفي الوقت الذي كانت تعاني فيه العشائر من تقلّص كبير في دورها، تم تشكيل ما يُعرف باللجان المركزية في مناطق حوران كلها، وتتكوّن اللجان من شخصياتٍ متنوعة، تُمثّل معارضين وقادةً سابقين في الفصائل، وبعض الوجهاء، وكانت مهمتها التواصل مع النظام والروس لحل أي خلاف خلال فترات التسوية في الأعوام الماضية.
لكن وفي التسوية الأخيرة بعد معركة درعا البلد، بدأت علامات الضعف بالظهور على اللجان المركزية، في أداء دورها المفترض في إيجاد الحلول للمشكلات، مع وجود اتهامات من بعض الأهالي بتواطؤ هذه اللجان مع النظام، لتحقيق ما يريد، وفي الوقت ذاته بدأ دور العشائر في حوران بالبروز بشكلٍ جليٍّ في بيان العشائر في مدينة طفس، الرافض لما يقوم به النظام ضد درعا البلد.
وهذا ما جعل النظام يقوم بالاتصال بالعشائر والعائلات في مدن وبلدات حوران كلها، من أجل تعميم التسوية التي حدثت في درعا البلد، وقد ساعدت العشائر فعلاً في هذه التسويات، عبر إقناع الأهالي بها من جهة، وجمع الأموال كبدلٍ عن السلاح الناقص، والمطلوب تسليمه للنظام من جهةٍ أخرى.
هذا الواقع، جعلها عرضةً للانتقاد من البعض بالتواطؤ مع النظام، كما التهم للّجان المركزية. ولكن من جانبٍ آخر، هناك من يبرر للعشائر ما قامت به، كما يقول عبدالله الحوراني، لرصيف22، بأن "العشائر لم تتواطأ مع النظام على الإطلاق، وإنما لم تجد بديلاً آخر لاتفاق التسوية الذي تم، وجمع السلاح أو ثمنه، لتجنيب المحافظة عمليات عسكرية كبيرة، في ظل عدم وجود أي دعم لمحافظة درعا من أي طرفٍ كان، وفي ظل صمت دولي عما يقوم به النظام حتى الآن، وما قام به من تدمير كبير لدرعا البلد، أي كان حقن الدماء وتجنّب الدمار، هما الهدف الوحيد".
الفرصة مؤاتية لتأخذ العشائر والعائلات في حوران دورها الحقيقي، في استقرار المحافظة، وترتيب بيتها الداخلي، وإيجاد علاقة متوازنة مع محافظة السويداء من جهة، ومع النظام والروس من جهة أخرى
من المؤكد أن الفرصة مؤاتية الآن لتأخذ العشائر والعائلات في حوران دورها الحقيقي، في استقرار المحافظة، وترتيب بيتها الداخلي، وإيجاد علاقة متوازنة مع محافظة السويداء من جهة، ومع النظام والروس من جهة أخرى، ومن المؤكد أن النظام بات يراقب هذا الدور بشكلٍ كبير، محاولاً استغلاله لصالحه بأي ثمن، ومتخوفاً من أن تنقلب عليه هذه العشائر حين تتوفر الظروف الملائمة، فالنظام خلال سنوات الحرب، وما قبل تسوية الـ2018، لم يُبدِ، كما المعارضة المسلحة، احتراماً للتقاليد العشائرية والعائلية في حوران، وهذا ما يبقي على شرخٍ عميقٍ في العلاقة بينهما، وإن بدت في تحسّنٍ مؤخراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...