شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ما علاقة مقبرة طه حسين بـ

ما علاقة مقبرة طه حسين بـ"عسكرة" معالم القاهرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الاثنين 5 سبتمبر 202203:02 م

في السادسة من عمري، عرفت أن هناك شاعراً اسمه إبراهيم ناجي، ولا علاقة لذلك بالنشأة أو بالعائلة المقدسة، بل لأن مدرستي الابتدائية حملت اسم هذا الشاعر، فجرى اسمه على لساني وكتبته على أوراقي المدرسية، وطبعاً بالرغم من جهلي به، لكني كنت أوقن أنه شخص عظيم، وإلا لما أُطلق اسمه على المدرسة.

تذكرت ذلك حين قرأت ما أثير خلال الأيام الماضية حول إزالة مقبرة طه حسين، أحد أهم مفكري العرب في القرن العشرين، والواقعة في منطقة الخليفة التراثية في قلب القاهرة، وهو جدل انتهى بتهديد الأسرة بنقل رفات "حسين" إلى خارج البلاد، ما أدى بمحافظة القاهرة إلى التراجع ومحو كلمة "إزالة" التي تمت كتابتها على باب المدفن استعداداً للتنفيذ، كما هي العادة.

هذا الجدل لم يكن الأول من نوعه، إذ سبقه حديث مشابه عن مقبرة شاعر النيل حافظ إبراهيم، الواقعة ضمن منطقة الإمام الشافعي في القاهرة، وتخضع هي الأخرى لـ"تطوير"، وكالعادة خرجت تصريحات تنفي أي نية للهدم، وبالرغم من ذلك لا ضمان من الإزالة مستقبلاً، إذ إن عمليات "التطوير" تطال القاهرة الأثرية، وتالياً ستزيل في طريقها آلاف المباني والمقابر لعشرات الآلاف من الناس، لكن أهم ما لاحظته أن الدولة لا تهتم كثيراً بالمنشآت التي تخص الرموز الثقافية أو الشعبية، بل لولا رفض الناس لإزالة مقبرة طه حسين مثلاً، لتم محوها، وهذا ما يجعلني أقول إن ما نحياه الآن هو مرحلة جديدة من "عسكرة" معالم القاهرة. لكن ماذا أقصد بذلك؟

إلى الدرجة التي تجعل أي أجنبي إذا طالع اللافتات يعتقد أن كل ما سمعه عن القاهرة كعاصمة ثقافية وهم، وأن تلك المدينة لم يعش فيها يوماً كتّاب وشعراء ومفكرون، بل ضباط فقط، وهذا أول مراحل "العسكرة"

أعود إلى مدرستي الابتدائية، وقد ذكرت اسمها في بداية المقال، لكن ما لم أذكره أن الاسم تغيّر إلى اسم أحد قادة الشرطة الذين ماتوا في عام 2013، بسبب اضطراب الأوضاع الأمنية وقتها، وبالرغم من تقديري لذلك، ولجهود من بذلوا دماءهم في سبيل أمن المواطن، إلا أن كثافة ما حدث جعلتني أقول إن الأمر ليس مجرد تقدير، فخلال سنوات قليلة آلاف المدارس التي كانت تحمل أسماء رموز ثقافية ومحلية وقادة شعبيين، تمت تسميتها بأسماء قادة عسكريين وتحوّلت واجهات المدارس إلى "لوحات شرف" للضباط، إلى الدرجة التي تجعل أي أجنبي إذا طالع اللافتات يعتقد أن كل ما سمعه عن القاهرة كعاصمة ثقافية وهم، وأن تلك المدينة لم يعش فيها يوماً كتّاب وشعراء ومفكرون، بل ضباط فقط، وهذا أول مراحل "العسكرة".

ما حدث لم يقتصر فقط على المدارس، بل تكرر مع شوارع وميادين، من ناحية، ومن ناحية أخرى كان إطلاق أسماء قادة عسكريين على منشآت جديدة حاضراً بكل قوة، بدايةً من محور المشير محمد حسين طنطاوي، ومروراً بكوبري المشير محمد علي فهمي، وحتى محور الفريق محمد العصّار، وهكذا دارت الآلة وعُسكرت المعالم.

ما حدث لم يقتصر فقط على المدارس، بل تكرر مع شوارع وميادين، من ناحية، ومن ناحية أخرى كان إطلاق أسماء قادة عسكريين على منشآت جديدة حاضراً بكل قوة.

لذلك، ما يحدث الآن، لا أستطيع فصله عما يحدث سابقاً، فإن كانت المرحلة الأولى كما وصفت، فإن المرحلة الثانية هي محو معالم الرموز الفكرية والشعبية، سواء بعدم الاكتراث بمقابرهم أو إزالة أسمائهم من منشآت لصالح أسماء عسكريين، وهو أمر لن يتوقف قريباً في ظل حركة البناء والهدم الدائرة في كل ربوع مصر منذ سنوات.

وبالرغم من أن هناك استثناءات ستحدث بالتأكيد، وأقصد الرموز الثقافية الكبرى، مثل نجيب محفوظ أو طه حسين -كما أظن- لكن هذا لن يمنع من محو آثار آلاف المفكرين والمثقفين الأقل شهرةً، فالمقابر المفترض أن تخضع لـ"التطوير" هي أقدم المقابر في قلب القاهرة، وتحوي عقول مصر في القرن العشرين.

وبعيداً عن الأهمية المعمارية والبدائل المتاحة، وسواء قصدت الدولة ذلك أم لم تقصد، والأمر برّمته سوء تقدير، فإن ما يحدث جريمة كبرى، ولا يتعلق ذلك بموقف شخصي تجاه القادة العسكريين، لكن بفلسفة المدن نفسها، فمباني أي مدينة ومنشآتها ليست حوائط خرساء، لكنها تجسّد تاريخاً وتكشف أسراراً وتمجّد رموزاً وتمنح للقادمين أملاً بأن تلك البلاد تقدّرهم، ولك أن تتخيل مدينةً لا تُمجد سوى الزعماء وقادتها العسكريين، ولا تُخلّد سوى من قُتل، فهل لها مستقبل.

إن ما يحدث جريمة كبرى، ولا يتعلق ذلك بموقف شخصي تجاه القادة العسكريين، لكن بفلسفة المدن نفسها، فمباني أي مدينة ومنشآتها ليست حوائط خرساء، لكنها تجسّد تاريخاً وتكشف أسراراً وتمجّد رموزاً وتمنح للقادمين أملاً بأن تلك البلاد تقدّرهم

بل أضيف أن وجود أسماء الرموز الثقافية حولنا في كل مكان، ليس تقديراً فقط وتشجيعاً على أن نصبح مثلهم، بل دعوة لمن يجهلهم إلى أن يعرفهم ويدرك تاريخهم وأفكارهم وذلك يساعدنا في النهضة والخروج من كبوتنا، وإن كنت سعيد الحظ باسم مدرستي الابتدائية "إبراهيم ناجي"، واسم مدرستي الثانوية "أحمد لطفي السيد"، فأخشى أن تخرج الأجيال الجديدة ولا تعرف من رموزها إلا من تقرأ له وترى معالمه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image