شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بورتريه قد يكون لمروى، يكتبه الجار المتلصص

بورتريه قد يكون لمروى، يكتبه الجار المتلصص

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 10 سبتمبر 202212:21 م

المتلصّص


أتحصّن بالقسوة، ألوذ بها، كمن يحتمي بالموت كيلا يموت. بالفراغ كيلا يفرغ.

أن أكون الآخر في الحقيقة، في المرآة، وفي الوهم أيضاً. في الصورة وفي الظلال التي يتركها جسدي حين ينسلّ إلى العالم.

الوهم يحمي بعض الشيء. الوهم يحمي كثيراً إن شئنا الدقة، أمام المرآة وخلف الأبواب. يحمي الذين لا حماة لهم ولا مكان. يحمي من يتعرّضون للطعن وهم يفتحون الثلاجة ليلاً.

الحياة ليست سهلة هنا.

في هذا الحيز الواسع جداً، والضيّق حدّ الشعور بضيق تنفس واضمحلال حاد في الرئة، وأشياء أخرى يصعب التعامل معها إلا بالحذر المطلوب، أو الخوف الشديد، وكلاهما قسوة، الحذر قسوة، الخوف قسوة أيضاً. في هذا الممر المرصوف بالقسوة أتحرك كفراشة من ضوء.

غالباً، البشر في الممرات، في الأروقة والأزقة، لا يرغبون إلا في الأذى، ويشاهدون وردة فيسحقونها، يشاهدون حلماً فيتبوّلون عليه.

يحدث هذا في البداية. تلك البداية البعيدة عن الأضواء قليلاً. بداية النضج، نضج الأصابع، نضج العيون، نضج النظرات، نضج الركبة والكاحل، الثدي والمؤخرة، ثم نضج الذاكرة والمخيلة، والتفاح والعنب، والكثير الكثير من فواكه الجسد، وربما الروح أيضاً، الروح التي تقعي على ذيلها في الداخل، مثل الكلب.

تلك الفواكه، أو الثمرات، ربما هي التبعات أو الجنايات على الأغلب. الجنايات اللذيذة التي تدفعك لأن تكوني حرة، حرة ووحيدة، وحيدة ومكتشفة هولٍ أو أهوال ستأتيك بالتتابع، ليس كما تنتظرينها أو ترغبين بها بالمعظم، إنما على هيئة مفاجئة ومؤلمة.

*****

هل من لذة في ذلك؟ هل من ألم؟

الاكتشاف لا يأتي عادة إلا بعد الأسئلة، أو المحنة التي هي التجربة، يأتي كأجوبة غير دقيقة، غير شافية، غير مخلّصة، على أسئلة قد تكون مبرّرة، قد تكون لانهائية وقد تكون أسئلة سخيفة لكنها تبتلعنا.

هكذا أصنع قوقعتي. لست سهلة للأذية. في أحيان كثيرة أنا غير مرغوب بي ومخيفة، وربما أشبه قصة تحكي عني أكثر ما أشبه نفسي، نفسي التي ضاعت تحت جبال القسوة... مجاز

الأسئلة ثم الأسئلة ثم الأسئلة، قبل أن تبيح أسرارك تلك أو ثرواتك تلك أو غموضك ذاك أو ثمراتك التي هي كنز كنوزك.

الاكتشاف مرٌّ، ربما هو التعرف على المحيط. بالتأكيد ليس هو المحيط الأزرق، بتلك الرائحة الشاعرية، أو الجماليات السرّية التي للماء أو الموج، أو النوارس الغامضة ذات الحكايات البعيدة والألغاز العصيّة على التفكيك.

المحيط الذي هو القليل من البراءة أو الفراشات أو العصافير كما نعتقد، إلا أنه في الواقع اليومي، هو الكثير من الضواري التي تسير على قدمين، وتحدّق بعينين غير حياديتين إلى ثرواتك أو ثمارك التي تظنها طهرانية ومقدسة، قبل أن يلمسها أحد، قبل أن يقضمها أحد دون استشارتك، حين تكون في حدود اللذة، وقبل أن تسقط في ذاك البعد من الهلام الذي لا يمكن ضبطه على أنه سعادة قصوى، أو كآبة كامنة في المستقبل.

بناء عليه، بناء على النوارس في الغموض، ثم في الوضوح النقي أو العاري، قد أبدو دائماً كما أنا، أي متجاوزة للأعراف المتوارثة، في الغناء، في الكلام، في الرقص، وفي قراءة التعاويذ والأناشيد، التي تقلّنا بعيداً على عربات الملوك أو الآلهة المصنوعة من الذهب الخالص أو من المتعة الخالصة كالذهب.

لم يكن مهمّاً أن نفكر بالوصول إلى حد محدّد في الجغرافية، أو الزمن، الزمن الفردي بالتأكيد، في الحقيقة بنوع من التوصيف الزائد، أو الضروري ربما: أنا شخصية مرحة إلى حد الصخب، أو البكاء لحد الالتباس، غير واضحة الملامح. ربما يصعب عليَّ أحياناً أو غالباً تكوين صورة داخلية عني، لنفسي. حتى المرآة، بعد وقبل كسورها وشظاياها الحادة، لا تستطيع أن تفعل لي شيئاً يذكر. قد تعطيني من الانعكاسات ما يرضي الآخر وليس ما يرضيني. تصنع صورة يريدها الآخر لا صورة ما أريد.

قد تكون هنا المعضلة غير الحسنة. أن تكون أمام ذاتك معضلة غير قابلة للفهم أو التفكيك، حيث لن يكون بإمكان الآخر أن يستوعب ذلك. أي أن تكون متأهباً لما هو مثير وطارئ. لأقل بالعموم قبل افتراض حسن النيّة، هذا الآخر لا يعدو أن يكون عبئاً، أو مشروع قرصان يستهدف مساحاتك، التي لن يكون لك أن تغفل عن حراستها أو حمايتها لو للحظة. هكذا أيضاً أبدو محبة منذ طفولتي، إن كنت داخل المحنة أو خارجها.

أتحصّن بالقسوة، ألوذ بها، كمن يحتمي بالموت كيلا يموت. بالفراغ كيلا يفرغ

*****

كنت كلما أقدمت على مساعدة أو معروف لأحد ما، كلما شعرت بالغبطة، الغبطة التي يجهلون معناها كسرّ، أو كأسرار متعددة، أو كقدرة على الوهب دون منّة، دون مقابل، كنت كلما فعلت ذلك، كلما زادت رغبتي بأن أعيش بوداعة الطير، أن أعيش حياة مسالمة غير مشوبة بالكراهية، مع بشر يشعرون بالامتنان ويقدمون على حبي دوماً.

إلا أن هذا لم يحدث.

لأنني لم ألمس، إن كنت منصفة، سوى القسوة. القسوة المباغتة كأنها الصدمة.

لم أقابل بغير الخشونة، الخشونة الخشنة والقسوة القاسية.

في البتلات، بتلات الزهرة التي هي أنا، أنا دون تورية تذكر. أنا التي هنا، أو أنا التي من ذاك الزمن، أو من ذاك المكان القصي، لم أقابل إلا بذاك السم. السم الدفين، المختزن في الأنياب، أو الأصابع، أو المفردات، المتأهب للانقضاض على خفّتي ووداعتي.

كم أنا مفردة.

مفردة كما لو كنت نجمة أو كوكباً في سماء أخرى ليس لي من تأثير سوى الضوء.

ربما أبدو هكذا بعد أن بلغت من العمر ما يجعلني سريعة الفهم، أو العطب، أو الندم.

تأذيت كثيراً، لا لأنني جديرة بالأذى، بل لأنني لم أعدّ عدّتي جيداً، أن أحتاط على الأقل من الأصدقاء، الأتراب أو الأقارب، أو حتى أفراد العائلة. إذاً بالتجربة بعد المحنة المزركشة بألوانها، سأكتشف، كمن فقد أصابعه في حريق أو في حلم، أن الحياة ليست مليئة بالأيادي البيضاء، أو ليست وردية كما أحب وأرغب أيضاً، ولا تشبه وردة من ورود الحديقة. الحياة قحبة (غالباً قحب)، كما يقول الأمريكيون.

أحاول ما أمكنني أن أكون بعيدة، بعيدة وقاسية، رداً على ما حصل، على ما قد يحصل لاحقاً أو تالياً، أو فيما بعد. ربما رداً على هزيمتي أمامي، كان عليَّ أن أكتسب تلك القسوة المفرطة، قسوتي المفتعلة التي لا تتناسب مع شكلي البتة. ما أزال كما أنا، ناحلة، وربما شاحبة بعض الشيء، ومضيئة أيضاً كما لو أنني لم أنل ذاك الأذى كله.

تأذيت كثيراً، لا لأنني جديرة بالأذى، بل لأنني لم أعدّ عدّتي جيداً، أن أحتاط على الأقل من الأصدقاء، الأتراب أو الأقارب، أو حتى أفراد العائلة. إذاً بالتجربة بعد المحنة المزركشة بألوانها، سأكتشف، كمن فقد أصابعه في حريق أو في حلم، أن الحياة ليست وردية كما أحب وأرغب أيضاً، ولا تشبه وردة من ورود الحديقة... مجاز

هل ثمة ما يحيل الفراشة إلى حشرة بغيضة لا تشبهها في شيء؟ هل هي خائفة ومتسلحة بالإبر.. أي فراشة تلك الفراشة؟ الأمر يبدو كذلك على الأرجح. ردود أفعالي الحادة، جدّيتي المبالغ فيها، قدرتي أو رغبتي في الرفض المتواصل لما يسمى طلب مواعدة أو لقاء أو تبادل كلمات لطيفة، أو ركوب سيارة مليئة بالأصحاب. من هم الأصحاب إن كنت أخاف الموت في حادث مؤسف مع أصدقاء مزيفين؟ أهو المرض بالنرجسية، أم أنني مريضة بالقسوة والهرب من العلاقات؟ هذا يحطمني أكثر من المحيط نفسه.

ما أزال أنا على هذه الهيئة من التوصيف: سحنة هادئة، ملامح شديدة اللطف، أصابع يد نحيلة وأظافر مقلمة بطلاء ذهبي. أبدو كملاك معطوب يحاول أن يتقن اللعبة، أي لعبة الأذى. لكن الملاك لا يفلح في المحاولة، يفشل كثيراً، ثم يهرب مستعجلاً ومتخفياً. أبدو غير مؤذية أبداً. في عيني التعب المضيء يجعلني ألمع في الليالي الحالكة. من خطاي اكتسبت قوة، كما تلك التي في قلوب الأشرار، قوة بأشكال مجنحة كما السهم حين يهيئونه للرماية القاتلة.

ليس عبثاً أن تتحول قسوتي إلى غموض غير شفاف، غموض يُتعب أو يُرعب من يرغب بالتواصل معي. لقد صرت مخيفة ومخفية بالفعل، و لم يعد ثمة إشارة أتركها لأحد، كي يتعرف العالم علي أنني أتوارى دوماً. هذا ما يشعرني بالراحة كما أرغب، أن أغيب في الغياب مثلاً، ألا أجتمع مع أحد، ألا أطيل الحديث أو المكوث في ظلال طمأنينة مخادعة، كما لو كانت طمأنينة مخادعة فقط. ربما عليَّ أن ابتسم بسخرية غير معلنة، غير مكتشفة أو معروفة.

*****

بعد كل سؤال خاص أو عام حتى، أهرب إليّ. ليس من الضروري البتة أن أجيب. لا تعنيني الإجابات الساذجة في شيء. أهرب أو أتهرب. أتحجّج بأن الوقت ضيق وأمضي مسرعة دون عودة. هذه الغريبة أو المتوارية عن الأنظار ليست أنا، إنما هو الشخص الذي يساعدني على درء الأذى، الذي يحميني رغم إرادتي. لا يحب لي أن أكون مكشوفة الأضلاع أو الرؤى، كما يرغب لي الـوهم، أو الهوام، أو الحمقى.

ليس بوسعي أن أكون مكشوفة بعد الآن، ولا أودُّ لهذا القلب الذي تأذى أن يكون مكشوفاً، أو مكتشفاً، أو شهياً على مدار الوقت، كي يلجه أحدهم من باب جديد، بقسوة جديدة ذات أشواك.

أريد أن أسيطر على الأمر، أن أهرب منه أيضاً. لا يمكنني أن أقع في غرام أحد، و لا أن أخدمه، ولا أحب معه غرف النوم، ولا أن يخلع عني ملابسي على ضوء الشموع الشاحب... مجاز

لأدع إذاً كل شيء مطموراً، مغموراً في الداخل القصي، بعيد المنال. هذا الذي يتحرك خارجاً كما لو كان قلباً اعتباطياً، يبدو مثيراً للريبة ومخيفاً في أحيان كثيرة. لكنه أبداً لم يكن أنا في التفاصيل.

قد تكون التفاصيل لي وحدي دون سواي. هذا البورتريه الجديد الذي اختارني، أو الذي اخترته، يصير مرضاً ويصيب علاقتي بالحبيب بالعطب أيضاً.

لا أريد من حبيبي أن يتحدث عن الدانتيل أو نعومة الشراشف و السرير الدافئ. لا أحب الألوان المزهرة، و لا أريده أن يكون صاحب هيئة ملتزمة. إن كان كذلك، إن أصرَّ على ذلك. أشعر أنه كاذب طوال الوقت، ويرغب في مضاجعتي بشكل مألوف وحزين كما كل المجذوبين أو الطيبين.

أريد أن أسيطر على الأمر، أن أهرب منه أيضاً. لا يمكنني أن أقع في غرام أحد، و لا أن أخدمه، ولا أحب معه غرف النوم، ولا أن يخلع عني ملابسي على ضوء الشموع الشاحب.

هذا يؤذيني و يخيفني كثيراً.

انتهى بي الأمر إلى أن أصبحت قوطية. كما لو كنت أعيش في لوحة على جدار.

ها أنا أعيش معهم هنا، أتبع حمية قاسية، أبدو كالسحرة. أضع كحلاً يكاد يخفي عيني. بشرة شاحبة، و نظرات لن يطيقها أحد بعد الآن.

هكذا أصنع قوقعتي. لست سهلة للأذية. في أحيان كثيرة أنا غير مرغوب بي ومخيفة، وربما أشبه قصة تحكي عني أكثر ما أشبه نفسي، نفسي التي ضاعت تحت جبال القسوة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image