على بعد 100 كلم من شمال عاصمة ورقلة النفطية، التي تنام على آبار النفط والغاز وتعتبر عصباً حقيقياً للاقتصاد الجزائري، تقع الحجيرة (إحدى بلدات محافظة ورقلة)، التي تُلقب بـ "مدينة الرمال"، ويأتيها الزوار من كل حدب وصوب لعلاج الأمراض المستعصية بطرق طبيعية وبدون أدوية.
لا يقتصر هذا الوضع على منطقة الحجيرة فقط، بل يشمل مناطق متفرقة من محافظتي ورقلة ووادي سوف (مدينة الألف قبة)، على غرار "عقلة الأرباع"، "دبيش"، "عين البيضاء" ومحافظة "بني عباس" (تقع في الجنوب الغربي للجزائر)، يمكن الوصول إلى هذه المدن برّاً فقط باستعمال سيارات الدفع الرباعي المناسبة للطرق الوعرة والمسالك الصعبة والرملية، وأهم ما يميّزها هدوء المكان وسكونه الذي يكسره بين الحين والآخر صفير الرياح على الرمال.
مقصد العلاج بالرمال الساخنة
عندما تطأ أقدامكم/نّ بلدة عين البيضاء التي تبعد عن محافظة ورقلة حوالي 10 كلم وتحتوي على مناطق حساسة واستراتيجية، وبها ثروات طبيعية كبيرة كالذهب الأسود والنخيل، وبلدة دبيش التي تبعد عن المحافظة أيضاً حوالي 60 كلم، تجبركم/نّ شمس الصحراء وأتربتها على التلثّم، لكن النسيم العليل الذي يهب بين الحين والآخر يلطف الجو الحار والجاف.
في الواقع، تنام ولاية ورقلة على آبار الذهبين الأزرق والأسود، وتعد شرياناً حقيقياً للاقتصاد الجزائري لا يمكن إطلاقاً الاستغناء عنه حالياً، لكن البلدات السالفة الذكر تصنف في خانة المناطق النائية، بحيث لا زال السكان يعيشون فيها ببساطة ويفتقرون للتنمية وأساسيات الحياة، رغم أنها مناطق سياحية بامتياز، لكثرة الحمامات الطبيعية الاستشفائية وحتى الأماكن التاريخية والأثرية والمتاحف الموجودة في القصور.
"الدفن في الرمال الناعمة، أو ما يعرف بحمامات الرمال الساخنة، لا يكون في فصل الصيف، لأن درجة الحرارة تكون مرتفعة وتبلغ مستويات قياسية تصل إلى 80 درجة على سفوحه، ما قد يسبب حروقاً للجلد ومضاعفات صحية خطيرة"
كما أن هذه البلدات تتحول في هذه الأيام، ومن منتصف فصل الربيع حتى نهايته، أي من أبريل/ نيسان إلى مايو/ أيار، بحسب مبروك، أحد سكان المنطقة، إلى محجٍّ للزوار الذين يأتون من مختلف مدن البلاد وحتى من الخارج من أجل العلاج بالرمال الساخنة، بالأخص الأشخاص المصابين بأمراض العظام والروماتيزم.
يقول مبروك لرصيف22: "خلال هذه الفترة تكون أشعة الشمس دافئة ودرجة حرارة الرمال معتدلة وملائمة، فالدفن في الرمال الناعمة، أو ما يعرف بحمامات الرمال الساخنة، لا يكون في فصل الصيف، لأن درجة الحرارة تكون مرتفعة وتبلغ مستويات قياسية تصل إلى 80 درجة على سفوحه، ما قد يسبب حروقاً للجلد ومضاعفات صحية خطيرة".
وحينما سألناه عن هذه الظاهرة، أجاب أن "ظاهرة التداوي بالرمال هي قديمة جداً، لا يمكن ضبط تاريخ ظهورها لكن تعود للقرون الوسطى".
ويروي مبروك، أحد العارفين بخبايا وأسرار الاستحمام الرملي وتفاصيله، أنه يتم بعناية فائقة وبإشراف خبير أو حكيم، كما يتم اختيار المكان وفق معايير عالية الدقة والإحكام، ومن أبرز معايير المكان الشمس، بحيث يجب أن يكون معرضاً لأشعتها باعتبارها المصدر الأول والآمن لفيتامين "د"، فهي تعطي الجسم حاجته من الأشعة فوق البنفسجية اللازمة لإنتاج هذا النوع من الفيتامينات.
وأضاف مبروك لرصيف22: "تتمثل ثاني خطوات العلاج الرملي في تهيئة مكان الدفن، وهنا يتم اختيار الرمال النظيفة، أو ما يطلق عليه محلياً بالرمل السافي، النقي والرقيق والخالي من الحجارة والحصى، ومباشرة بعدها يشرع المشرف على هذه العملية في الحفر، ويفضل أن تكون بعيدة عن ظل الكثبان الرملية الهلالية أو الأشجار والنباتات الزراعية التي تنتشر في مناطق متفرقة، أي أن تكون الرمال مشبعة بحرارة الشمس حتى تكون خالية من أي بكتيريا أو فطريات".
شرح مبروك أنه "قبل الشروع في الطمر، تتم تغطية الرأس بهودج شبيه بخيمة مصغرة لتغطية الرأس، حتى لا يتعرض المريض للصداع الناتج عن التعرض لأشعة الشمس، ويطلب منه المعالج نزع كامل ثيابه كي تخترق حرارة الرمال كامل أعضاء جسمه، وينصح بعدم الأكل والاقتصار فقط على الشرب، ويترك المتعالج لمدة زمنية لا تتخطى الساعتين ولا تقل عن نصف ساعة، وخلال هذه الفترة يأخذ بعين الاعتبار قدرة تحمل المتداوي".
ورداً على سؤال حول التوقيت المناسب للحمام الرملي، قال مبروك إن "الوقت المناسب هو بعد الضحى، أي مباشرة بعد شروق الشمس إلى غاية الظهر، لأن أشعة الشمس المتسربة وسط السماء تكون دافئة، ودرجة حرارة الرمال مثالية، وبعد الظهيرة قد تنخفض درجة الحرارة من متوسط مرتفع إلى متوسط منخفض، بالأخص أثناء الليل".
والمعيار الآخر الذي ينبغي تسليط الضوء عليه، هو أن عمليات الاستحمام الرملي تصادف ظهور ما يعرف بـ"سمك الرمال"، وهو عبارة عن مخلوق نادر يظهر في الصحراء في موسم قصير خلال العام، ولا يُرى إلا في وقت محدد من اليوم، فهو من بين الحيوانات العاشبة، ويدخل في عملية البيات أو السبات الشتوي، وخروجه يؤذن باعتدال درجة الحرارة.
ويمكن للعلاج الرملي أن يستغرق من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام كاملة، وتدوم فترة العلاج كل يوم نصف ساعة من الزمن، ومن بين الأمراض التي يمكن علاجها، أمراض الروماتيزم وآلام الظهر والرماتويد المفصلي والنقرس وقصور الشرايين والسمنة الزائدة، وبعض الأمراض الجلدية، كالصدفية والبهاق وارتخاء العضلات والتهاب المفاصل واحتقانها.
وصف مبروك هذه التجربة بالفريدة من نوعها، لأنها تمنح المرء إحساساً باستعادة اللياقة البدنية وصحة الجسم، وبالأخص وأنه مباشرة بعد الانتهاء من العلاج، بإمكان المريض التوجه نحو أحد الحمامات التقليدية التي تشتهر بها هذه المناطق للاستمتاع بالمياه الساخنة.
الدفن في الرمال
من أشهر الحمامات المعدنية التي يشتهر بها الجنوب الجزائري: حمامات زلفانة (التابعة لمحافظة غرداية، تبعد حوالي 600 كلم جنوب العاصمة الجزائر)، تتميز هذه الحمامات بغنى مياهها بالكلور والصوديوم اللذين يتميزان بخصائص علاجية لمداواة مرضى الروماتيزم وبعض الأمراض الجلدية والتنفسية.
وهناك من يلجأ للدفن في الرمال بغرض الاستمتاع بلذة الحرارة التي تحتويها حبات الرمل الساخنة، حيث تعطي الجسد طاقة وقوة إضافيتين، بالأخص أولئك الذين يعانون من هشاشة العظام ونقص الفيتامين "د"، كما أنها تساهم في صفاء النفس وشفافية الروح في زحام الحياة والقلق والضغوطات النفسية اليومية.
وهو ما أكده البروفيسور يورغين كلاشميت، من جامعة مونيخ الألمانية، الذي أجرى بحثاً مطوّلاً حول العلاج الرملي، ومن بين أهم النتائج التي خلص إليها في بحثه العلمي والمتداولة حالياً أن الحمامات الرملية تعتبر أحد الأشكال الفعالة للمعالجة الحرارية، ففي هذه الطريقة تعمل طبقة الرمال الساخنة مع أشعة الشمس الهادئة على استرخاء الجسم وتخلصه من الضغوط والتوتر العصبي، وهو ما يؤدي إلى ارتخاء العضلات والتخفيف من حدة الآلام.
يمكن للعلاج الرملي أن يستغرق من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام كاملة، وتدوم فترة العلاج كل يوم نصف ساعة، ومن بين الأمراض التي يمكن علاجها، أمراض الروماتيزم وآلام الظهر والرماتويد المفصلي والنقرس وقصور الشرايين والسمنة الزائدة، وبعض الأمراض الجلدية، كالصدفية والبهاق
وقدم أستاذ الأدب الشعبي والفولكلور والأنثروبولوجيا، أحمد زغب، لرصيف22، تفاصيل إضافية حول العملية، وأشار إلى أن المشرفين على عمليات الاستحمام الرملي يواظبون على تقديم المياه أو البطيخ الأحمر للشخص المستفيد من الطمر، حتى لا يشعر بالجفاف جراء عملية الامتصاص التي تتم داخل الحفرة الممتلئة بالرمل، وبعد ساعتين من العملية يُنصح المريض بتناول وجبة دسمة، تتمثل غالباً في طبق الكسكس بمرق اللحم والخضار والتوابل المقوية، مثل الحلبة (أحد النباتات العشبية المستخدمة كنوع من التوابل) والأبازير.
وأوضح زغب أن "الأفراد الذين يقطنون الولايات الساحلية الباردة هم أبرز المواظبين على زيارة المنطقة للعلاج من آلام المفاصل والروماتيزم، لأن عامة الناس في المناطق التي تشتهر بالتداوي بالرمال يرددون هذه العبارة: الدفن ينزع البرد من الجسد".
ولما سألناه عن تاريخ هذه الظاهرة، رد أستاذ الأدب الشعبي والفولكلور والأنثروبولوجيا بالقول: "لا نعلم تاريخاً لهذا النوع من العلاج، قد يكون العرب أخذوه من البربر الذين وجدوهم في المنطقة، ربما قد جاؤوا به من حوران في سوريا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...