شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تغريبتنا اللبنانية

تغريبتنا اللبنانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الأحد 4 سبتمبر 202210:18 ص

أول ما تبادر إلى ذهني، وأنا أغادر مطار بيروت الدولي، هي صورة المهاجرين اللبنانيين في الحرب العالمية الأولى وهم متوجهون إلى مختلف أصقاع الأرض. شعرت في تلك اللحظة بانتماءٍ إلى هؤلاء، وكأن شيئاً ناقصاً في هويتي قد اكتمل.

واللبنانية، كهوية وانتماء، هي علاقة ربط بين تاريخ مختلَف عليه وحاضر أكثر انقساماً، ولطالما كانت الهجرة رفيقة درب اللبنانيين منذ أمدٍ بعيد، ولعلّ عناصر هويتك كلبناني "أصيل"، لا تكتمل إذا لم ترتكب هذا "الجرم الأنيق"، وكأن الهجرة فعل يكرّس هوية اللبناني، واللبناني الذي لا يُهاجر، كائن غريب!

لكن الهجرة ليست ترفاً أيضاً.

ها أنا الآن أعمل في ساحل العاج، في المنطقة الغربية من إفريقيا. هنا استطاع اللبنانيون أن يُبدعوا في أعمالهم، ويُساهموا في الدورة الاقتصادية للبلاد. يمكن توصيف ما أقدم عليه اللبنانيون بأنه حركة استيطان بطيئة في هذه البلاد، ولكنها بخلاف بقية حركات الاستيطان، كانت حركةً عفويةً طبيعيةً غير مقصودة، وغير ممنهجة، وليست منظمةً وذات رؤية بعيدة، ولم تأتِ على حساب السكان الأصليين بل تعايشت واندمجت معهم.

وإن كانت أسباب الهجرة مُرتبطةً في المقام الأول بالعامل المعيشي، إلاّ أنّها تجربة لا بدّ منها، ليس فقط للربط مع نوستالجيا لبنانية، بل لأسباب عديدة تختلف من شخص إلى آخر. ومقدار تقبّلك لآلام الهجرة وصعوبتها هو مقدار فهمك لطبيعتها ومكنوناتها، إذ إن حصرها في العامل المعيشي سيجعلك شخصاً تعيساً.

التنقّل من مكانٍ إلى آخر عادة بشرية قديمة، وكلُّنا فينا شيء من البداوة، جينيّاً وسلوكياً وثقافياً. وعليه، هي ليست طارئةً بل سلوك طبيعي بشري. هذا الفهم سيجعل من هجرتك رحلة معرفة واكتساب واندماج لا تخلو بالتأكيد من العرق والتعب والجهد.

في الهجرة، وخصوصاً في إفريقيا كون طبيعتها ومناخها قاسيين، ستجهد من أجل لقمة العيش. كل يوم تستيقظ فيه هو تحدٍّ. ستصرف من عمرك من أجل لقمة العيش وستُعطيك الحياة دروساً يوميةً بالمجّان، إن كنت طالباً مجتهداً. هنا قلّة فقط من لديهم ترف التفكير والتأمّل، وفهم ما يدور، وفلسفة الصعوبات، وفهم مغزى ما يجري، واكتشاف ما حولك. فالعملية تتطلّب جهداً ذهنياً يرى المغترب نفسه في غنى عنه. معركته في مكانٍ آخر. معركته وجودية ومصيرية لكي يستيقظ كل يوم ويصمد في وجه الآتي ويترك انطباعاً جميلاً عند الأهل والأقارب.

أضف أن الجوهر الذي تكتشفه هنا، هو أن تعتقد أن الغربة هي افتراق جسدي فقط بطريقة إجبارية حتى. ترى مُصادفات وعجائب هنا. قد تفهم أن الافتراق جسدي فقط، ومشاعرك تبقى في بلادك. لكن ما تكتشفه أن جسدك حتى يُصارع هذه المتغيرات، ويشتاق إلى مكانه الأول. يشتاق جسدك إلى لبنان.

هنا في ساحل العاج يوجد كل شيء، كما في لبنان. وفي عرف اللبناني هنا تُقسم البلاد إلى مفهومين:

الأول: ما يُسمّى "البلد" ويضم "أبيدجان"، العاصمة الاقتصادية للبلاد وإحدى أهم ّ مدن إفريقيا والشريان الاقتصادي لمنطقة غرب إفريقيا، و"ياموسوكرو" العاصمة السياسية والإدارية التي تأتي في المرتبة الثانية، ثم المدن الأساسية في البلاد والتي تمتاز بالخدمات العالية والبنى التحتية المتطورة.

الثاني: "البرّ"، وهي منطقة الغابات والأرياف وتضم مجمعات سكانيةً متناثرةً في الغابات وتتكوّن من بعضها أرياف وقرى وبلدات ومدن صغيرة، ويمتاز بوفرة عالية في الثروات الطبيعية، كالمياه والكاكاو والقهوة والمطّاط والخشب والفاكهة، لكنه فقير من حيث الخدمات والبنى التحتية. هنا، في البرّ القاسي، قد تضطر إلى أن تنتظر أسبوعاً ليصلك الخبز، ولكنك تجد في المقابل بدائل عن أنظمة غذائية اعتدت عليها، فيكثر الأفوكادو والمانغو وغيرهما من الفاكهة اللذيذة.

أنا أعيش في البرّ. قلّة من اللبنانيين يصمدون هنا، والأغلبية يفضّلون أبيدجان. يرونها الجنّة بكل ما تحتويه من ملذات. ولكن الإنسان يستطيع في أكثر المناطق تطرّفاً وقسوةً أن يخلق مساحته الخاصة، بما تحتويه من ترفيه وملذات، بالرغم من الصعوبات.

"اللبنانية، كهوية وانتماء، هي علاقة ربط بين تاريخ مختلَف عليه وحاضر أكثر انقساماً، ولطالما كانت الهجرة رفيقة درب اللبنانيين منذ أمدٍ بعيد، ولعلّ عناصر هويتك كلبناني ‘أصيل’، لا تكتمل إذا لم ترتكب هذا ‘الجرم الأنيق’"

والصعوبات هنا تأتي على شاكلة "فراغ"، خصوصاً في مواسم التوقفّ عن العمل. فأنا أعمل في الكاكاو، وهي تجارة تختلف مواسم عملها من منطقة إلى أخرى، وقد تمر في بعض الأحيان ستة أشهر أو أكثر من دون أي عمل. وهذا الفراغ يجب أن يُملأ. إما أن يُملأ بعادات تُصبح روتيناً في ما بعد، أو يحاول الاكتئاب توجيه سهامه عليك فتُقاوم عسى أن تنتصر عليه أو أن تكتشف ما حولك وتملأه بما بين يديك من وسائل تكنولوجية.

السعادة كمفهوم، هي شعور غير متفق عليه، وكتفسير لذلك فهي تأتي بطريقة نسبية وعلى شكل هبّات. هنا هبّات السعادة سريعة، وهي في الأصل نادرة.

العجيب أن جسدك يطلب لبنان. كافة أعضاء الجسد لديها منبّهات زمنية على أشياء اعتادت عليها. وهذه المنبّهات هي دلالة على الانتماء. أنت تنتمي إلى جغرافيا معيّنة، ومن الصعب أن تنساها. فهنا وبالرغم من وجود طعام لبناني، إلا أن حواس التذوّق عندك لا تمتلك الجودة ذاتها عندما تستطعم في لبنان. نعم، تحنّ هنا إلى خبز أمّك وطعامها وقهوتها وهذه ليست مجرد كلمات عابرة، هي تعبير عن شيء حقيقي وواقعي أحسّ به محمود درويش، وأجاد في التعبير عنه.

تستذكر تفاصيل صغيرةً كنت تعدّها تافهةً. تستيقظ في داخلك أحداث عابرة، وتستذكر أشخاصاً وأصدقاء كنت تتكبّر عليهم، لكنك تشعر بالحاجة إلى الحديث معهم. وتستذكر أول علاقة عاطفية، وبشدّة، وتحنّ. تشتاق إلى الجلسات تحت الزيتونة وأي مكان يُعيدك إلى الماضي. كل الأشياء مختلفة حتى لو تشابهت شكلاً. هي في الصميم، في الروح، في اللاملموس.

"إفريقيا تُعطيك جرعات متطرفة من كل شيء. تعطيك عملاً وجهداً وتعباً... ولكنها تُتوّج عطاءاتها بالملاريا. تُجبرك على أن تكون كائناً وجودياً يبحث عن تحصين لحظته"

هنا تبحث عن العمل على عكس لبنان. تجده ضالتك للارتقاء والنجاة. ففراغك مُميت لا يحيا إلا بالعمل، وراحتك مرض. وهذه من الحقائق التي تكتشفها هنا. تكتشف أن في الراحة داءً وفي التعب دواء. إفريقيا تُعطيك جرعات من كل شيء، لكنها جرعات متطرّفة. تعطيك عملاً وجهداً وتعباً وهي أرض الخيرات والفرص وتُعطيك راحةً لا تتمناها في بعض الأحيان، ولكنها تُتوّج عطاءاتها بالملاريا. تُجبرك على أن تكون كائناً وجودياً يبحث عن تحصين لحظته، وما يأمله في مستقبله. تُجبرك على التخلي عن قناعاتك. هنا تختبر تفاهة ما يُسمّونها العدالة. لا شيء من هذه المفاهيم موجود هنا. هنا تُجبَر على أن تكون "إنساناً نيتشوياً"، قناعته الوحيدة أن يكون قوياً، لا على حق، ليستمر في الوجود. هنا تمتحن معنى الحياة بأبهى صور واقعيتها.

وهذا الانسلاخ عن بقعتك الأولى يُوّلد لديك شكوكاً وتناقضات وانحرافات وبؤساً. وتستنتج لاحقاً أن الأمر هذا يشعر به جميع من اغتربوا، سواء أكانوا أغنياء أو فقراء. الآن مثلاً، أتفهّم لماذا يتصرف المغتربون هكذا عندما ينزلون إلى لبنان!

كنت أستهزىء وأنتقد بعض سلوكيات "الفشخرة" لدى الكثيرين منهم، عندما يزورون لبنان. فهم عندما ينزلون يرتبطون من جديد بسليقتهم الأولى. يشعرون بأعلى درجات الانتماء ويعرفون أنها لحظات قصيرة مقتصرة على شهر، فيحاولون استغلالها بأقصى ما يُمكن قبل العودة إلى مستوطناتهم في إفريقيا.

أسئلة مصيرية ووجودية كثيرة تتصارع داخل كيان أي لبناني مغترب. أسئلة عن حجم التضحيات وما إذا كانت تستحق، وعن مصير البلد الأم والمستقبل الغامض. لكن الأهمّ هو السؤال عن العودة. هل هناك عودة لبنانية في ظل هذه التغريبة؟

قدرٌ محتوم. قدرٌ تتشاركه شعوب هذا الشرق. وكأنّه مصير مرسوم بقرن شيطان. والشعوب هنا، كلّاً على حدة، عاشت وتعيش تغريبتها؛ الفلسطيني الذي سُلخ عن أرضه، والسوري الذي أُبعد عن دياره، واللبناني على المنوال نفسه. لكل أسبابه، وكل فرد ينتظر عودته !

نحن شعوب تعيش في تغريبة أزلية وأبدية. كلٌّ منّا يعيش تغريبته على طريقته الخاصة، قبل أن نُهاجر في رحلتنا الأخيرة بلا عودة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image