في صيف 1992، ما إن يقف عم "نور" المزين الحلاق أمام بيتنا، ويهمّ بربطِ حمارِه حتى أضع يدي فوق رأسي، وأتحسر على شعري، الذي سوف يتساقط بعد قليل تحت أقدامه.
لم يدع لي أبداً فرصةً واحدةً للهروب من تحت مقصِّه، بالرغم من معرفة مواعيده. هو يأتي كل خميس من كل أسبوع، يدخل غرفة الضيوف، ويجلس في وضع القرفصاء على كرسي خشبي، يرفعه قليلاً عن الأرض بعد أن يلملم جلبابه الواسع، ثم يخرج من شنطة سوداء "عدة الشغل"، وهي موسى، وعلبة بودرة، وزجاجة كولونيا، وصابونة، ومقص.
أجلس بجوار أولاد عمي، أنتظر دوري، وهو الأخير لأني الأصغر سناً، إذ تجري الحلاقة عادلة بالعمر؛ يبدأ نور في حلاقة شعر أبي، ثم يمسك فرشاة، يغرقها في الماء، ويخلطها بالصابون حتى تصنع الرغوة، يضعها فوق ذقن أبي، وهو جالس أمامه ممسكاً بمرآة صغيرة يشاهد فيها حركة الموسى فوق ذقنه، وبعد الانتهاء، يضع له قطرات من زجاجة كولونيا من نوع "خمس خمسات"، والتي لا يخرجها إلا للزبائن المهمين مثل أبي، فيعطيه أجراً نقدياً، بخلاف ما يحصل عليه من كيلات القمح في موسم الحصاد.
رؤوسنا والعم نور
كنت أكره حلاقة العم نور لأنه لا يبتكر قصات جديدة. يقصقص شعري كله مخلفاً الجزء الأمامي طويلاً نسبياً، مثل بقية الأطفال، حتى نبدو كلنا متشابهين، ولا يترك لي فرصة الاعتراض على تلك "المهزلة الحلاقية"، فهو لا يكف عن الكلام.
كان العم نور بمثابة وكالة أنباء، تبث أخبارها على مدار الساعة، وحكاياته عن أهل القرية لا تنتهي، فعمله يمكّنه من دخول كل بيوتها، ومعرفة أهلها، بل يعرف أين يخبئ العفريت أبناءه، وبرغم وجهه الذي تبدو عليه الجدية، خاصة عندما يحاول أحدنا أن يعبث بالأشياء التي يستخدمها في الحلاقة، فإنه كان رجلاً طيباً، ذائع الصيت مثل مأمور المركز.
إنها المرة الأولى التي تدخل قريتنا قصة شعر على الموضة، والأولى التي أحلق فيها شعري بالطريقة التي أحبها لا كما يريدها أبي وحلّاقُه. كانت تسريحة يدينها الكبار، ويقبل عليها شباب جيلي: "كابوريا" أحمد زكي
كان نور يسكن في قرية قريبة من قريتنا، يقطع مسافاتها حمارُه، الذي حفظ الطريق، وذاق ويلاته، فصاحبه لا ينزل عنه إلا لحلاقة رأس زبون قابله قبل أن يصل إلى بيته، ورآه جالساً على قارعة الطريق أو في الحقل، بينما كان شقيقه الأصغر "جمال" يمتلك بجوار بيته محلَّ حلاقةٍ صغير، يجلس بداخله الزبون على الكرسي، بينما يكاد "قفاه" أن يخرج خارج المحل.
خصلات أنور وجدي
كرهت حلاقة نور، ولكني أحببت حكاياته، المكتنزة بالتشويق والإثارة، حتى يلهي ذلك الذي دعت عليه أمه، وجلس أمامه وسلمه رأسه ليعبث به بمقصّه ذي اليمين وذي الشمال. لا أعرف ما الذي يجعلنا نقص شعر رؤوسنا بتلك الطريقة المثيرة للسخرية؟
تمنيت أن أكبر لأرتدي طاقيةً من الصوف فوق رأسي، تغطي آثار الجريمة التي صنعها "مقص نور"، ولكن الطاقية والعمامة كانت مقصورة على الرجال كبار السن وكبار العائلات. فمن العيب أن يترك الرجل في الصعيد شعره، ويمشي في الشوارع إلا إذا كان موظفاً، وبالرغم من كوني طفلاً لا تحيط به المعجبات، إلا أنني كنت أهتم بشعري أكثر من اهتمام أنور وجدي بشعره، إذ جسد في معظم أفلامه شخصية ضابط يدعى "وحيد"، ولا أعرف سرَّ حبه لهذا الاسم بالذات، وكان أثناء مطاردته للعصابة أو ضرب أحد أفرادها، يمسك بطرف أصابعه خصلات شعره، ويعيدها للخلف حتى يضبط التسريحة.
أحلى تسريحة شعر
في صيف 1992 جاء "أحمد" ابن عمتي قادماً من القاهرة، محل ميلاده، لقضاء أسبوع معنا في الصعيد. كنت أحب السهر مع الشاب العشريني برغم فارق السن، وكان دائماً ما يسخر من أهل القرية، الذين ينامون مبكراً، ويعقد مقارنة بينهم وبين أهل القاهرة، التي لا تخلو شوارعها من المارة، وأنه يسهر للصباح على مقاهيها العامرة، والتي لا تغلق أبوابها في وجه السهارى.
في إحدى الليالي كنا نشاهد فيلم "مراتي مدير عام" بطولة شادية، أخبرني حينها أنه يشاهد الأفلام الجديدة فور عرضها في صالات السينما في القاهرة، والتي لا يعرضها التلفزيون إلا بعد فترة، كانت تبهرني غزارة معلوماته عن السينما وخبايا الفنانين وكأنه سليل عائلة فنية.
سألته عن تسريحة شعر شادية فقال إنها لقبت بـ"صانعة موضة" بعد عدد تسريحات الشعر في أفلامها حتى إن إحداها حملت اسمها، كذلك "تسريحة فاتن" نسبة إلي فاتن حمامة، والتي أصبحت موضة للسيدات، أما سعاد حسني اشتهرت بالقَصّة "الكاريه"، وظهرت بها في معظم أفلام الأبيض والأسود.
سألته عن صاحبة أجمل تسريحة شعر؟ فردّ بسرعة، وبما لا يدع مجالاً للشك: "نادية لطفي وشعرها الذهبي".
أحمد زكي: كابوريا
كان كلامه عن شَعر الفنانين يحمل نزعة فلسفية، فيقول إنه برغم تغير الزمن إلا أن تسريحة شعر عادل إمام لم تتغير، وكان سيندم لو فكر في تغييرها، وأن السبب في حبّ النساء للدنجوان رشدي أباظة يعود إلى تسريحة شعره هو وحسين فهمي، صاحب الشعر الناعم، الذي لا يحتاج إلى كريمات غالية الثمن، وأوقع به "نصف ستات الكوكب".
سألته عن سرّ لمعان شعر عبد الحليم حافظ، وأي نوع من الكريمات يجعله يلمع بهذا الشكل، وهل هو "باروكة" أم لا؟ فقال إن العندليب لم يرتد الباروكة أبداً، وشعره كان حقيقياً، يصبغه بالحناء مرةً كل شهر، ولكن الفنانين الذين ارتدوا "الباروكة" هم: سمير غانم، الذي ظهر أصلع في بداية مشواره مع فرقة ثلاثي أضواء المسرح، وأحمد رمزي، الذي اشترى له المنتج رمسيس نجيب باروكتين من الخارج ليظهر بهما أمام صباح في فيلم "3 نساء"، ومحسن سرحان، وفؤاد المهندس. حتى فريد شوقي ومحمود المليجي العدوان في معظم الأفلام اتفقا في الحقيقة على الباروكة، وباتت جزءاً منهما أمام الكاميرات، وفي الحياة الشخصية. ولكن سبق الجميع محمد عبد الوهاب، فهو أول من ارتدى الباروكة.
من قصات شعر حسين فهمي ورشدي أباظة، إلى أحمد مكي في "تامر وشوقية"، وأمير كرارة في "حواري بودابست" تظل حلاقة كابوريا هي لحظة التمرد الأولى والصغيرة على قصات شعر الآباء، وفرت لي جنيهين، اشتريت بهما آيس كريم
فجأة لم يتمالك أحمد نفسه من الضحك، عندما نظر إلى شعري، ولم يكفّ عن السخرية إلا عندما ذكرته بأنه مجرّدُ ضيف ثقيل الدم يمكنني طرده من بيت خاله، وأخبرته أن نور الحلاق لا يجيد غيرها. قال إنه يمكنني تقليده في قَصّة شعره، وهي جديدة، اسمها "كابوريا"، مثل "حسن هدهد" الذي قدم دوره أحمد زكي في فيلم "كابوريا" قبل عامين، وقلده في الحلاقة المراهقون، بل غيّر بعضُ أصحاب محلات الحلاقة أسماء محلاتهم، وأسموها "كابوريا".
تركت شعري يكبر ليتناسب مع القَصّة الجديدة، وذهبت سيراً على الأقدام إلى قرية نور، قاصداً محل شقيقه "جمال". كان المحل ضيقاً، به كرسي أسود، ومرآة كبيرة، ورفوف خشبية، عليها صابون "بريحة"، وعلب البودرة، وزجاجات كولونيا.
بعد ساعة حان دوري. قلت له أريد حلاقة شعري "كابوريا". استغرب كلامي، ورُحتُ أشرح له أنها موضة جديدة، مشهورة بين الشباب في القاهرة والمدن، وأكدت أنه لا عليه سوى حلاقة الجانبين بالماكينة على وضع الزيرو، مع ترك الجزء العلوي من الشعر بطوله.
بعد أن انتهى، مددت له يدي بالنقود، ولكنه رفض، وقال إني عرفته بقَصّة جديدة سوف تجعل المراهقين والأطفال أمثالي يقفون بالطابور أمام محله. خرجت من عنده سعيداً. إنها أول مرة أقص شعري فيها كما أريد، وليس كما يريد أبي والعم نور، وكانت سعادتي الأكبر في رفض جمال أن يأخذ أجرته، التي سوف أشتري بها آيس كريم ليومين، وداومت على الحلاقة عنده حتى صرت صبياً. وذات مرة وجدت محلَّه مغلقاً، فعرفت أن أولاده منعوه من العمل بعد سنوات من الشقاء، قضى معظمها واقفاً على قدميه حتى انحنى ظهره، وضعف بصره. حتى العم نور لم يعد يأتي هو الآخر، ربما مات هو وحماره.
باروكة أحمد مكي
في صيف 2022، تغيرت القرية مع الزمن، وعرفت الموضة طريقها، وبات الشباب في محلات الحلاقة يقدمون أحدث صيحات قصات الشعر، ويجاريها المراهقون والشباب في القرى والأحياء الشعبية، وانتشرت الموضة وتقليد الفنانين، حتى لو كانت مرفوضةً اجتماعياً.
بعد ظهور أحمد مكي في مسلسل "تامر وشوقية" بباروكة الشعر الشهيرة، أحيا من خلالها موضة "الخنافس" أو "الهيبز"، بدأ الشباب يتركون شعرهم ليكون كثيفاً حتى يتمكنوا من تلك القصة، مروراً بـمحمد رمضان الذي أعاد إحياء قصّة الكابوريا في أفلامه "عبده موتة" و"قلب الأسد"، بينما ترك بعض الشباب العنانَ لشَعرهم مع ربطه من الخلف حتى يشبه ستايل شعر أمير كرارة، الذي ظهر به في مسلسل "حواري بوخارست".
تذكرت قصة كابوريا بعد مرور 30 عاماً بسبب حالة الجدل التي فجرها خيري بشارة مخرج فيلم "كابوريا" بعد أن كتب على صفحته بموقع فيسبوك قبل أيام، يروي قصة حلاقة شعر أحمد زكي في الفيلم، وقال: "بعد المعاينات في الساحات الشعبية، فردتُ الصور على طاولة الطعام في الصالة بمنزلي في شبرا، وبمقارنة الصور ببعضها البعض، وجدت لدهشتي أن الملاكمين البسطاء من الطبقات الشعبية التي أعشقها، معظمهم -إن لم يكن كلهم- قد حلقوا رؤوسهم على نمط قصة شعر تايسون الشهيرة، ومن هنا اتخذت قراري بحلاقة شعر أحمد زكي، ولكنه اعترض بشدة، فأحضرت الحلاق قبل التصوير بيوم واحد فقط، وهددت أنه إن لم ينصع للأمر فلن يكون هناك تصوير في الغد، واختفى أحمد زكي بعض الوقت ثم ظهر بعد أن حلق كما أردت له، وهو سعيد للغاية بنفسه وقد أعجب بهيئته، وهذه هي القصة الحقيقية كاملة".
تساؤلات عدة طرحها البعض منها: لماذا تذكر خيري بشارة تلك القصة بعد مرور ثلاثة عقود؟ ربما بعد تداول مقطع فيديو من حوار قديم لأحمد زكي في برنامج "حق الجماهير"، قال فيه إنه قرر حلاقة شعره مثل الملاكم الشهير تايسون، الذي ذكر اسمه في سيناريو الفيلم.
وبعيداً عن الذي اقترح قصة الكابوريا، يبقى أحمد زكي ممثلاً يهتم بتفاصيل الشخصيات التي يجسدها، كذلك خيري بشارة الذي يعشق تفاصيل أبطال أفلامه، وهو فيلمه في النهاية الذي فاجأ الجميع، جمهوراً ونقاداً، وقدم "كابوريا" في لون مختلف عن مشواره السابق ليبدأ به واقعية جديدة، لا تتعامل مع الواقع بجدية، وحان الوقت ليعرف بشارة أن حلاقة كابوريا في أحد أيامي، كانت لحظة تمرّدٍ صغيرة على قصات شَعر الآباء، وفّرت لي جنيهين، اشتريت بهما آيس كريم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين