لم تكن الحياة الفنية في مصر والعالم العربي قديماً ممهدة وميسرة حتى ينتشر الفنانون ويصلوا إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور. فوسائل الاتصالات والتكنولوجيا الحالية لم تكن موجودة، وكان الفنانون عليهم أن يحاولوا بكلّ الطرق الممكنة الوصول إلى المتفرجين أو المستمعين مهما كانت الظروف. وأحد المهن التي لاقت رواجاً كبيراً حينها، كانت مهنة "متعهد الحفلات" وهو الشخص الذي كان منوطاً به أن يلعب دور الوسيط بين جمهور الحفلات والفنان عن طريق استئجار المكان وتنسيق مقاعد الجلوس وشراء التذاكر إلى جانب تعليق الملصقات الدعائية الخاصة بالفنانين في الشوارع والأماكن التي يرتادها الجمهور.
من بين هؤلاء الذين كنت أقرأ اسمهم باستمرار، خصوصاً في المراحل المبكرة لانتشار كوكب الشرق أم كلثوم، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وسلطانة الطرب منيرة المهدية، كان المتعهد صديق أحمد. هذا الرجل لم يكن اسماً عابراً، بل بلا أدنى شكٍ لعب دوراً خطيراً في ترسيخ خطواتهم الأولى في عالم الفن والوصول إلى الجمهور. لكن بقي السؤال الأبرز ماذا نعرف عنه؟
الكواكب 1965 - أرشيف الجامعة الأمريكية بالقاهرة
من هو إمبراطور شارع عماد الدين؟
كنت قد اطلعت على حلقات عدّة من مذكرات تحدث خلالها صديق أحمد عن بداياته وتكوينه والظروف التي نشأ بها وهي الحلقات التي نشرتْها إحدى الدوريات الفنية عام 1951. وانقطعتُ بعد ذلك عن البحث في أخبار الرجل وحياته إلى أن وقعتْ تحت يدي قصاصة لحوار معه نشرته مجلة الكواكب بتاريخ 16 يونيوحزيران عام 1953 يقول فيه:
هرب من مركب والده إلى شوارع القاهرة بحثاً عن حي الفنانين، وكان يومئذٍ لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره... صديق أحمد متعهّد الحفلات الأشهر في مصر
"إنني من مواليد جرجا ومن أسرة معروفة هناك، وقد بدأت علاقتي بالفن في مسقط رأسي حين زارت البلدة فرقةٌ من البهلوانات، وقد أعجبتني حركات البهلوانات والسيرك، فكنت أقتصد من مصروفي المدرسي ثمن تذكرة الدخول كل ليلة إلى هذا السيرك، وكان والدي يملك ثلاثة مراكب شراعية تنقل البضاع بين جرجا والقاهرة. وذات مرة صحبني في إحدى رحلاته إلى القاهرة بعد إلحاح شديد مني، وكنت قد بيّت النية على أمر ما، فلما بلغنا القاهرة تفقدني والدي فلم يجدني.
هربت من المركب إلى شوارع المدينة بحثاً عن حي الفنانين، فقد هويت الفن وقررت أن أعمل به. وكنت يومئذٍ لا أتجاوز السابعة عشرة من عمري، وسألت الناس عن الفنانين، وقادني أحدهم إلى (دار التمثيل العربي) حيث كان يعمل المرحوم الشيخ سلامة حجازي. وانتظرت يومين حتى استطعت أن أقتصد ثلاثة قروش صاغ ثمن التذكرة!".
لم يجد موظفو الفندق في غرفته سوى صورة لكاريوكا مدون على ظهرها رقم هاتفها
عقب ذلك، نجح في إقناع شخص يُدعى "عبده الدهشان" يعمل في مجال الدعاية والإعلان ليعمل لديه كصبي توزيع في الوقت الذي توطدت صداقته مع موزع آخر يُدعى "عبد المنعم"، ليبدأ رحلته في هذا المجال عن طريق فرقة "سلامة حجازي وجورج أبيض" بـ"تياترو برنتانيا" القديم. وقد نجح مع زميله عبد المنعم في استئجار أعلى المسرح فقط، حيث كانت الفرقة تعمل ثلاث ليالٍ في الأسبوع، فكان يكتسب المال عبر تأجيره.
حفلات مع السلطانة
كانت منيرة المهدية قد نجحت في تكوين فرقة في مسرح برنتانيا القديم بعد أن تركت تخت الغناء بمساعدة زوجها محمود جبر. فانضم إليها عزيز عيد وعلي يوسف وحسن ثابت. فكانت تمثل فصلاً من رواية "صلاح الدين". وقد عمل صديق مع هذه الفرقة كموزع إعلانات، فربح مبلغ عشرين جنيهاً ضمها إلى جانب العشرين الأخرى التي ادخرها من فرقة أبيض وحجازي، فاستأجر رواية "شهداء الغرام" من فرقة منيرة مقابل 30 جنيهاً، وأحضر إلى جانبها عبد الحليم بك المصري ومصارعاً إيطالياً ليقوما باستعراض رياضي ودفع لها خمسة جنيهات، فكان ربحه الصافي في هذه الليلة خمسين جنيهاً. هكذا كان صديق بارعاً في اجتذاب الجمهور إلى الأعمال الفنية.
الدنيا المصورة 1929 - أرشيف جامعة بون
بزوغ كوكب الشرق وموسيقار الأجيال
بعد عام تقريباً من عمله مع فرقة منيرة المهدية، بزغ في الأفق نجم مطربة جديدة قادمة إلى القاهرة، حيث يقول صديق في حوار أجرته مع مجلة الدنيا المصورة بتاريخ 17 يوليو/ تمّوز عام 1929:
"بعد هذا التاريخ بما يقرب من العام ظهرت الآنسة أم كلثوم بتختها المعمم وكانت أولى حفلاتها مؤجرة إلى شخص يُدعى الشيخ محمد أبو زيد وهو ساعٍ بإحدى وزارات الحكومة أقامها في شادر بسيط في حي الناصرية، وقد ربح منها مبلغاً كبيراً شجعه على إعادة الكرة في تياترو برنتانيا القديم ولقد تأخذك الدهشة إذا قلت لك إن إيراد الشباك بلغ في تلك الليلة مائة وثلاثين جنيهاً.
"أذكر في تلك الليلة أنني كنت أوزع إعلانات في صالة التياترو وكان المرحوم الشيخ سيد درويش الموسيقار الأوحد واقفاً يحادث عوض أفندي فريد فسمعته يقول: سيكون لهذه الفتاة الصغيرة مستقبل باهر في وقت سريع"
وأذكر في تلك الليلة أنني كنت أوزع إعلانات في صالة التياترو وكان المرحوم الشيخ سيد درويش الموسيقار الأوحد واقفاً يحادث عوض أفندي فريد فسمعته يقول: سيكون لهذه الفتاة الصغيرة مستقبل باهر في وقت سريع. فعلقت الجملة برأسي، وسارعت في اليوم التالي إلى لوكاندة جوردن هوس حيث كانت تقيم الآنسة وأبوها وأخوها الشيخ خالد (أفندي حالياً) ودفعت لهم مبلغ 50 جنيه تأميناً واتفقت وإياهم على إحياء ثلاث حفلات بمصر –وما زال عقد هذا الاتفاق موجوداً لدي للآن– وقد كان دخلي عظيماً من تلك الحفلات الثلاث، فضممته إلى رأس مالي السابق ومن ثم واصلت عمل الليالي مع أم كلثوم وما زلت على عهدي إلى الآن".
لم يكن تعاون صديق مع منيرة وأم كلثوم سوى حلقة من ضمن حلقات تعاونه مع نجوم آخرين على رأسهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وإبراهيم حمودة ومحمد عبد المطلب وعبد الغني السيد وكارم محمود ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وآخرين في مجال التمثيل والمسرح.
الكواكب 1953 - أرشيف الجامعة الأمريكية بالقاهرة
نهاية حياة صديق أحمد
تزوّج المعلّم صديق أكثر من مرة، وقد رزقا هو وإحدى زوجاته بولد وبنت، لكنها طلبت الانفصال عنه بعد أن ضاقت به الحال. وفي يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1956، تلقت الفنانة تحية كاريوكا نبأ وفاته بعد أن اتصل بها ضابط شرطة حي الأزبكية.
فبحسب الكاتب عبد الفتاح غبن في مجلة "الكواكب" بتاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1965، فارق الرجل الحياةَ في الغرفة التي كان يقيم بها بفندق "المنتزه" بشارع "كلوت بك"، ولم يجد موظفو الفندق في غرفته سوى صورة لتحية كاريوكا مدون على ظهرها رقم هاتفها، فأبلغوا الشرطة التي بادرت على الفور للاتصال بها. وقد كان صديق من أكبر الداعمين لها في بداية مسيرتها الفنية، وكان المتعهد لأغلب حفلاتها، وقد ظلت تحتفظ بهذا المعروف طوال حياتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...