شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"أنا امرأة بالطبيعة، لكنني رجل في أفكاري"… أقنعة الراهبات وقناعاتهن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 12 سبتمبر 202209:49 ص

في صعيد مصر، وفي القرن الخامس، ولدت طفلة وحيدة لأسرة قبطية، تعلمت القراءة والكتابة والطقوس المسيحية حتى اشتاقت أن تصبح راهبة، فذهب إلى واحد من أديرة الصـعيد، لتعيش كل عمرها ناسكة متعبدة حتى توفيت وهي في عمر الثمانين.

لم تكن هذه الراهبة سوى الأم سارة، واحدة من أمهات البرية القلائل، وقد وصلتنا سيرتها وأفكارها عن الرهبنة النسائية وعن النساء أنفسهن.

كان للأم سارة تلميذات كثرٌ في ديرها، دأبت على تعليمهن كيف يتخلين عن طبيعتهن الأنثوية التي هي مصدر الشرور.

لم تدافع الأم سارة عن "نسويتها" أمام آباء البرية، وأفكارهم الذكورية، بل واصلت التنكر من طبيعتها.

"يا آبائي، إنني امرأة بالطبيعة، لكنني رجل في أفكاري"

ذات مرة، زارها بعض الآباء، وحين غادروا، قالوا لها: "لا يكن غرور في قلبك لأن آباء البرية، تنازلوا، وزاروا امرأة". ردت عليهم: "يا آبائي، إنني امرأة بالطبيعة، لكنني رجل في أفكاري".

حاربت كل الراهبات في ديرها، وظلت توبخهن، وتتعالى عليهن، إذ لم يتخلصن من أنوثتهن، فكانت دائماً تعظ: "أنا امرأة بالجسد ولكني طرح عني فكر النساء، أما أنتن فمازلتن كالنساء في تفكيركن"، حتى إنها اعتبرت ضحك النساء مصدر الشرور، فنراها توبخ راهبة صغيرة رأتها تضحك، قائلة موعظة: "لا تضحكي يا أختي لأنك بهذا تطردين عنكِ مخافة الله، وتصبحين سُخرة للشياطين".

رهبنة في زي الرجال

على مر العصور، حاول بعض معلمي الكنيسة تدجين المرأة والسيطرة عليها، عبر تصدير نصوص معينة، وسيرة العذراء البتول، الصامتة، الوديعة، الساكنة، وشعارها "ليكن لي حسب قولك".

وروجت لذلك نساء مسيحيات مؤثرات، تحديداً القديسات والراهبات المعروفات في بعض الطوائف، بل كن يتنكرن لطبيعتهن بشكل غريب ينم عن إيمان قوي بالخطيئة، التي تكمن في جسد الأنثى.

لم تحك قصة الخلق في سفر التكوين تفاصيل وجود الحياة، طبقاً للرواية الدينية فقط، لكن الرمزية كانت في ما بعد غطاءً قويَّ البنية، وشرعنة واضحة لكلِّ التفسيرات البطريركية التي تعزز من التمييز الجندري لصالح الرجل.

أكلت حواء، وأكل آدم من تلك الشجرة المُغرية، التي توسطت عدن لفترة من الزمان، أخطأ الاثنان وسقطا معاً، غفر الجميع لآدم لأنه ضحية إغواء حواء، وسلطوا على أنوثتها كلَّ الاتهامات ليخضعوها قهراً لسلطان آدم.

دخلت مع أبيها الكنيسة، ولم تخرج منها حتى بعد وفاته، مثلت على الرهبان دور الرجل، وعاشت دورها إلى الدرجة التي اتهمت فيها بـ"الزنا" مع امرأة، وأخذت الطفل المنسوب إليها، وربّته، ثم عادت، ولم تدافع عن نفسها، ولم يعرف أحدٌ سرَّها حتى ماتت

في هذا السياق، انتشرت قصص وعظية لنساء آثرن الرهبنة في زي الرجال، تنكرن لطبيعتهن الأنثوية، وقررن الجهاد الروحي كرجال. والغريب أن العواقب التي قابلنها داخل الأديرة متشابهة لحدّ كبير، مثل مارينا.

ذهبت القديسة مارينا الراهبة لدير الرجال مع أبيها باسم مارين، ولم تتركه بعد وفاة والدها، ولكنها استكملت حياتها كرجل حتى عُرف سرُّها بعد موتها.

اتهمتها امرأة بأنها أقامت معها علاقة جنسية، وأنجبت ولداً، ولم تدافع مارينا عن نفسها، آثرت أن تكمل دور الرجل، وطردوها خارج الدير لترعى الطفل. وبالفعل فعلت ذلك، حتى كبر، وعادت مرة أخرى.

لم تكن قصة مارينا وحيدة، أو غريبة، ولكن حبكتها تكررت بتفاصيلها مع أخريات، مع اختلاف الدوافع، مثل الراهبة ثيؤدورة.

بدورها تنكرت ثيؤدورة لطبيعتها الأنثوية لأنها أحست بالإثم والذنب تجاه زوجها، التي خانته مع رجل آخر. حاولت الانتحار ولكنها عادت، ورأت أن تكفير ذنبها يكون بالتخلي عن أنوثتها، فقصت شعرها، وشوهت وجهها، ولبست ملابس الرجال، وطرقت أبواب أديرة الرهبان لتقضي بقية حياتها كرَجُل.

ومن الطائفة الأرثوذكسية للكاثوليكية، حيث عدائية الأم تريزا لنفس جنسها، فنجد في وصف جيرمين جرير النسوية للأم تريزا بأنها "إمبريالية متشددة"، سبباً قوياً وهو معارضتها لاستخدام وسائل منع الحمل، بل وصل الأمر حدّ اتهام أي امرأة تستخدم هذه الوسائل بأنها لا تصلح للحب، وهذا لم يكن رأياً منفرداً، إنما كان واحداً من الاتجاهات الكاثوليكية المتشددة، التي تربت عليها وشجعتها.

المرأة "ناقصة" في كتابات الآباء

لطالما كانت راية الجهاد الروحي في المسيحية، وأعظم القصص التي وصلتنا، وأهم الأفكار التي قامت عليها، تقول إن الكنيسة للرجال. حتى المجمع الذي يُذكر بشكل يومي في القداس الإلهي، كله رجال، عدا ذكر القديسة العذراء مريم والدة الإله (في المعتقد المسيحي).

ولهذا النمط تأثير على النساء أنفسهن في طريقة تعاطيهن مع جهادهن الروحي كراهبات أو مكرّسات. فكانت القاعدة الأولى أن يتخلين عن طبيعتهن حتى يستطعن السير في هذا المارثون مع الرجال، الذين رسخوا بكتابتهم، وتفسيراتهم لذلك.

نرى مثلاً القديس توما الأكويني، وهو واحد من أبرز وأعظم اللاهوتيين في الكنيسة الكاثوليكية، يُفرد فصلاً كاملاً في كتابه "الخلاصة اللاهوتية" ليسأل سؤالاً مثل: "هل كان واجباً أن تصدر المرأة مع الأشياء التي صدرت في البداية؟". ثم يصل لنتيجة وهي أنه كان من الضرورة أن تصنع المرأة لإعانة الرجل، كما قال الكتاب، لكن ليس لإعانته في عمل غير التوليد (أي مساعدة الرجل على التكاثر).

بينما في كتاب "العناية الرعائية" للقديس غريغريوس يشير إلى أن طبيعة المرأة أضعف وأخس من الرجل، لأن الفاعل أشرف دائماً، بينما يلجأ أغسطينوس لفكرة أن الله كان يعرف أن المرأة ستكون مصدر الخطيئة، لذلك لم يكن واجباً أن تصدر المرأة من البداية، أي في وجهة نظره لم يكن وجودها ضرورياً من الأساس.

وفي كتابات ترتليان (ترتليانوس)، وهو واحد من الكتاب المسيحيين في القرن الثالث، ويعتبر علامةً لدى الطوائف، رسخ بشكل كبير لدونية المرأة عبر لومها المستمر، وتحميلها مسؤولية الخطيئة الأولى، فيلقبها ببوابة الشيطان، وينادي بأن تحتقر المرأة ذاتها، فتلبس الملابس الرخيصة القبيحة، وتجاهد ليكون مظهرها مهملاً، وتسير تائبةً باكية حتى تكفر عن عصيان حواء قديماً، وعن كراهية الجنس البشري كله.

تنكرت ثيؤدورة لطبيعتها الأنثوية لأنها أحست بالإثم والذنب تجاه زوجها، التي خانته مع رجل آخر. حاولت الانتحار ولكنها عادت، ورأت أن تكفير ذنبها يكون بالتخلي عن أنوثتها، فقصت شعرها، وشوهت وجهها، ولبست ملابس الرجال، وطرقت أبواب أديرة الرهبان لتقضي بقية حياتها كرجل

ويعادي يوحنا ذهبي الفم، وهو قديس مكرم لدى معظم الطوائف المسيحية (347 –407) المرأةَ، ويراها كائناً أدنى من الرجل، وليس صورة الله مثله، بل صورة ومجداً للرجل، فيقدم لنا تفسيره حول سفر التكوين، وتحديداً آية "إلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك"، بأن الربّ يقول للمرأة إنني منذ البدء خلقتك مساوية في الكرامة مع الرجل في سائر الأمور، وكما قلدت رجلك الرئاسة على الكل هكذا وإياك، لكن لما لم تستعملي مساواة الكرامة في ما ينبغي، وملتِ إلى مفاوضة الشيطان، وقبلتِ مشورته، لهذا السبب أخضعك لرجلك، وأظهرته رئيساً عليك حتى تعلمي سيادته. ولما لم تعرفي أن ترأسي فمن الأفضل لك أن تكوني تحت سلطانه، وراضخة لسيادته، فإن الموافق للفرس يحب أن يكون ملجماً على نظام، لا أن يكون بمعزل عن هذا. لذلك رأيت أنه من الموافق لك أن تكون عودتك إلى رجلك، وأن تتبعيه كاتباع الجسد للرأس.

لا يقرأن المقدسات

في أثر هذا التحقير المتعمد، وباتباع الآراء الذكورية التي نادت بدونية المرأة، نجد حالياً أن الراهبات والمكرسات ممنوعات من دخول الهيكل أو قراءة المقدسات، وهذا يعود أولاً لمفهوم النجاسة، الذي يشير إلى عدم وجود النساء داخل الهيكل لأن حيضهن ينجسهن، وثانياً لطقوس ذكورية يحارب عليها الآباء حتى الآن.

أذكر في ذلك حادثتين، واحدة وقعت عام 2020، والثانية عام 2021 في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية. في الأولى اعتذر الأنبا إسحق، أسقف طما وتوابعها، من تصرفه بالسماح للمكرسات بدخول الهيكل، والمشاركة في دورة القيامة، طقس يقام في الكنيسة احتفالاً بعيد القيامة، وكتب: "أقدم اعتذاري الشديد للبابا والمطارنة والأساقفة عن التصرف الذي بدر مني دون تدقيق، وكنت أقصد به أن أُفرح قلب المكرسات بالقيامة، أخطأت، ولن أكررها، حفاظاً على سلامة الطقوس. أرجو أن تسامحوني وتغفروا لي".

 "لا تضحكي يا أختي لأنك بهذا تطردين عنكِ مخافة الله، وتصبحين سُخرة للشياطين"

الحادثة الثانية، كانت اعتذاراً رسمياً للأنبا رافائيل، وللراهبة المسؤولة عن بيت الخلوة بالخطاطبة، نصه كالتالي: "بعتذر عن اللي عملتُه؛ هو خطأ غير مقصود. أول مرة أقرأ السنكسار (كتاب سير القديسين)، وسيدنا مكنش يعرف، أخطيت سامحني".

ليردّ الأنبا رفائيل، أسقف كنائس وسط القاهرة، على الاعتذار، فيقول: "اعتذار أمنا أرسانيا عن بيت الخلوة، نحن غير معتادين أن تقرأ البنات أو السيدات أثناء الليتورچيا (العبادة) وأكرر اعتذاري". قامت الدنيا ولم تهدأ بسبب الحادثة الأولى، حين دخلت الراهبات الهيكل.

والحادثة الثانية حين تجرأت راهبة وقرأت "السنكسار" أثناء الصلاة. ونرى في المثال الأول مدى فداحة الاعتذار، وكأن المكرسات ارتكبن جريمة حقيقية بدخولهن.

أما المثال الثاني، فنرى الراهبة نفسها تحقر من كينونتها الأنثوية، وتصدق على كونها ناقصة ومتدنية الطبيعة، ولا تستحق أن تقرأ الكتب المقدسة فبادرت بالاعتذار.

إشكالية كبرى صنعتْها كتابات الآباء وآراؤهم عن المرأة، تتنافى بشكل كبير مع دعوة المسيح للمساواة والتكامل بين الرجل والمرأة، والأفدح تسليم المرأة نفسها، وتحديداً المؤثرات منهن، أمام هذه الأفكار العدائية، حتى وصلنا للقاع المهيأ، بسحق كلّ من تفكّر بشكل مختلف وكلّ من تحترم وتكرم طبيعتها الأنثوية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image