لا يعرف الحب سوى أن يتسلّل خفية حتى يستقر هناك في أعمق نقطة داخل الإنسان دون إذن أو مراعاة، هو فقط يغزو من يشاء ولا يأبه بالعواقب.. ومن ذا الذي يستطيع أن يقاومه أو يرفضه!
لم يعرف الحب أي أسوار منيعة، حتى أسوار الرهبان اخترقها باسطاً سلطته اللامتناهية، حتى نذر البتولية لم يصمد طويلاً أمامه في حالات كثيرة، ما حمل أبطاله "الطرد والشلح وميتة الكلاب"، كما يقولون.
لم يكن يعرف الأنبا باسيليوس مطران أبو تيج في أسيوط، صعيد مصر، أن معركته أمام الأكليروس خاسرة، وأن حبه لفتاته سيجعله مطروداً ومحروماً من الكنيسة حتى الموت.
الرفض والتغيير
تولى القمص حنا الفيومي عام 1896 منصب مطران (رتبة دينية مسيحية أعلى من رتبة الكاهن) أبو تيج في أسيوط، باسم الأنبا باسيليوس وظل مطراناً إلى ما يقرب من 25 عاماً، يرعى شعبه بتفانٍ، وكان مشهوداً له بالتقى، فقد ظل يبني ويعمّر كنائس، ويشيد الكثير من المدارس الكبيرة في بلده، حتى وقع في الحب، كانت معلمة في إحدى مدارسه.
لم يكن – وحتى الآن – مسموحاً للأسقف أن يتزوج؛ فهو راهب قد قطع على نفسه نذر البتولية حتى يوم مماته، لكن الأنبا باسيليوس كان له توجه آخر، وظهر كصوت يغرد منفرداً في أمور كثيرة، رأى أنه على الكنيسة الأرثوذكسية أن تعيد النظر فيها.
ناقش باسيليوس فكرة البتولية والرهبنة، ورفضها رفضاً قاطعاً، ودعا الكنيسة لرفضها لأنها غير إنسانية ولا تتوافق مع "الفطرة" البشرية، كما دون في كتابه "الصيحة التمهيدية لإيقاظ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية"، أفكاره المعارضة والتي رآها البعض أنها أفكار مستنيرة، منها أنه رفض ما يعرف بـ "الاعتراف السري"، وهو طقس كنسي وثالث الأسرار الكنسية السبعة، وفيه يعترف المسيحي للأب الكاهن بخطاياه، ثم يقرأ الكاهن عليه بعض الصلوات "التحليل" فيغفر له الرب، وتُقبل توبته.
رفض هذا الطقس الأنبا باسيليوس لأنه كان يرى أنه يجبر الناس أحياناً على التفوّه بما لا يرضون، ويجعل حياتهم على المشاع، كذلك يجبر عدم أداء طقس الاعتراف الفرد على عدم التناول "طقس كنسي" لظنه أنه خاطئ لا يستحق، إذن فهو كان يراه مجرد أداة لمساومة الشعب القبطي على تواجدهم داخل الكنيسة.
لم يأبه باسيليوس إلا بقلب فتاته التي استطاعت أن تفعل ما فعلته بقلب "ناسك متعبّد"، قطع على نفسه نذر البتولية، وأقنع أحد الكهنة أن يكلل له (طقس الزواج في المسيحية) وتزوجها بالفعل، وأنجب منها طفلين كما تروي لنا صورته العائلية الشهيرة.
لم تسامحه الكنيسة على فعلته، ولم تتفهّم ما كان يدعو له، فعقدت محاكمة كنسية له في عام 1920، تم قطعه وحرمانه إثرها، فترك منصبه وعاش مع زوجته وأطفاله حتى توفي بعدها باثني عشر عاماً، لم يكونوا كافين أن تتخطى الكنيسة فعلته، وتصلي على جثمانه، وتدفنه بالشكل اللائق، فمات غريباً محروماً ودفن في مقابر الصدقة متهماً بالحب.
والغريب أن مع هذا التشدد الكنسي الواضح والعنيف ضد الأنبا باسيليوس، فإنه لم يرتكب أي "خطأ"، بل نفّذ تعاليم الإنجيل ووصايا بولس الرسول.
الأصل في بتولية الأساقفة
ورثت المسيحية فكرة الكهنوت من اليهودية على الرغم من أن المسيح في العهد الجديد لم يدع أبداً للكهنوت، وعوضاً عنه اختار تلاميذ ورسلاً ليبشروا بتعاليمه في المسكونة كلها، ولم يدع واحداً منهم كاهناً؛ وانتقاهم متنوعي الحالة والطبقة الاجتماعية، فمنهم الصياد والطبيب، البتول والمتزوج، ولم يضع قاعدة معينة لاختيارهم سوى استعدادهم الشخصي وإيمانهم به.
تفرق التلاميذ ليبشروا في مناطق عديدة، ومع بداية تكوين مجموعات مؤمنة بالمسيحية في هذه المناطق، كان يتم ترك تلميذ أو نائب أو يتم سيامة مسؤول عنهم بمثابة كاهن يتولى شؤون جماعة المؤمنين، ومن هنا ظهرت أو عادت فكرة الكهنوت مرة أخرى للمسيحية.
في الكنائس الأرثوذكسية حالياً مسموح بزواج الكهنة، فيتم زواج الكاهن قبل سيامته ثم يُرسم على كنيسة معينة يخدم بها ويعيش حياة زوجية عادية بجانب ذلك، بينما لا يسمح أبداً للأسقف، وهي الرتبة الأعلى من الكاهن، أن يكون متزوجاً بل لا يتم اختياره أبداً من "العلمانيين" بل من الرهبان، ولم يكن هذا متبعاً من قبل.
يظهر في رسالة بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس، الصفات الواجب توافرها في الأسقف، ومنها: "فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، صَاحِياً، عَاقِلاً، مُحْتَشِماً، مُضِيفاً لِلْغُرَبَاءِ، صَالِحاً لِلتَّعْلِيمِ" (1 تي 3: 2).
نقرأ في الآية أن بولس الرسول يوصي أن يكون الأسقف زوج لامرأة واحدة فقط، إذا كان متزوجاً، وليس بتولاً، ويمنع أن يعدد الأسقف زوجاته (كانت عادة يهودية متوارثة أن يتزوج الرجل بأكثر من واحدة، وإذا دخل المسيحية يظل زوجاً لهم أيضاً).
يظهر لأول مرة واقفاً. لم يتجه لصورة المسيح أو الصليب، لكنه اتجه يتحسس وجه زوجته وحبيبته آنا، وهو فاقد البصر، لكن قلبه أدرك مكانها، وكأن المشهد الأخير الذي يصف كيف أحبها حتى الموت، ولم يمنعه جلبابه الأسود وصليبه الكبير
لذا، لم يكن هناك مانع أن يُختار الأسقف من العلمانيين حتى لو كان متزوجاً، على الرغم من تفضيلات بولس الرسول الواضحة في هذا الشأن، فكان بولس يرى أن البتولية أفضل من الزواج، فيقول في رسالته لأهل كورنثوس: "من تزوج فحسناً يفعل ومن لا يتزوج يفعل أحسن"، وفي رسائله قال بشكل صريح إنه يتمنى أن يصبح جميع الناس غير متزوجين مثله، "لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا. لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله".
وعلى هذا ظل من الطبيعي اختيار الأساقفة من المتزوجين، بل حتى عدد من باباوات الكنيسة الأرثوذكسية المصرية كانوا متزوجين، منهم البابا إنيانوس الثاني خليفة مارمرقس، الرسول في مصر والباباديمتريوس الكرام، والبابا مينا الثاني، البابا الـ 61 الذي عين بطريركاً، وكان متزوجاً، ولكنه آثر الوحدة والبتولية، فترك زوجته وهجرها إلى البرية.
وكان حتى القرن السابع الميلادي لا يزال هناك أساقفة متزوجون، يساكنون زوجاتهم ويمارسون أعباء مناصبهم الدينية بالتوازي، كذلك كشفت مخطوطات عن أكثر من خمسة أساقفة كانوا من المدنيين، وكانوا متزوجين ولهم أبناء، على سبيل المثال كان الأسقف بشارة ابن عبدربه السيد الذي ظهر اسمه في المحكمة لتوريث أبنائه بعد وفاته.
ولكن جاء عام 325 وتغير الحال بشكل كلي، فقد قرر مجمع "نيقية" أن يكون اختيار الأسقف من البتوليين فقط "الرهبان" ليضمن المجمع عفّة الأسقف، وكأنها شرعيته الوحيدة ودليل تقواه.
وعلى صعيد آخر، في نفس عام محاكمة وشلح الأنبا باسيليوس في الكنيسة المصرية، كانت الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا تنصب الجراح الماهر ڤالنتين فوينو ياسينستسكي كاهناً ثم أسقفاً ثم رئيس أساقفة، باسم "لوقا" على "سيمفروبول"، بالرغم من كونه كان علمانياً متزوجاً، وله 4 أطفال.
الغريب دائماً أن الكنيسة المصرية في كتابتها ووثائقها تتحاشى تماماً تسجيل أي معلومات كثيرة عن الحياة العاطفية أو الأسرية للأساقفة المتزوجين، ولم ينتج فيلماً واحداً لأي منهم أو لأي قديس يتناول بشكل محايد حياته العاطفية قبل قرار رهبنته، بل تلقي الضوء بشكل متدن على هذه النقطة
في فيلم سينمائي روسي باسم "الشفاء من الخوف... سيرة القديس لوقا الجراح"، يظهر فوينو ياسينستسكي، الطبيب الجراح المغرم بفتاة تعمل ممرضة معه تدعى آنا فاسيليفنا، ظل يحكي عنها ويقول: "لم تأسرني آنا كثيراً لمجرد أنها جميلة بل للطفها ورقتها الاستثنائيين، كانت تعمل في المستشفى العسكري في كييف إلى أن تزوجنا هناك، كانوا ينادونها الأخت القديسة".
أنجب فوينو من آنا 4 أطفال، وبحكم عمله كطبيب جراح ظلا يتنقلا سوياً حتى وصلا طقشند، وهناك عُيّن كبير أطباء، وكان يواصل أبحاثه حول مسألة الالتهابات القيحية، وقتها مرضت آنا بمرض السل، وظل يحاول مساعدتها، يظهر في الفيلم وهو يحتضنها، يحاول معالجتها، ويبكي على صدرها حتى لا تفارقه.
وفي مشهد موت القديس لوقا، يظهر لأول مرة واقفاً. لم يتجه لصورة المسيح أو الصليب، لكنه اتجه يتحسس وجه زوجته وحبيبته آنا وهو فاقد البصر، لكن قلبه أدرك مكانها، وكأن المشهد الأخير الذي يصف كيف أحبها حتى الموت، ولم يمنعه جلبابه الأسود وصليبه الكبير.
الإكليروس: الجنس أصل كل الشرور
لم يفرق المسيح بين المتبتلين والمتزوجين، بل بارك عرس قانا الجليل، وسهر، وشرب، وفرح معهم، ولم يشير يوماً إلى أن للبتول أفضلية على المتزوج، بل أشار الرسل من بعده إلى ذلك، تحديداً كما أوضحنا لدى بولس الرسول لأنه كان بتولاً، فكان يتحدث عن البتولية، وكأنها أعلى شأناً من الزواج، وكأنها موهبة أقرب من الله، ويفسر سبب تفضيله للبتولية، فيقول :"إنَّ غيرَ المتزوج يصرفُ هَّمَه إلى أمور الرب والوسائل التي يُرضي بها الرب يُصرفُ هَّمَه لينال القداسةَ جسداً وروحاً. المتزوجُ منقسم... أقول هذا لأحملكم على الشيء الحسن، الذي يجعلكم تتصلون بالرَّب اتّصالاً غيرَ مُنقسم".
كذلك الرهبان على مر العصور، كانوا يميلون إلى إعلاء راية البتولية على الزواج، لأنهم رأوا أن فيما فعلوه جهاداً قاسياً يستحق هذه الأفضلية، بل دعا بعضهم الرجال أن يتبتلوا مثل القديس يوحنا ذهبي الفم، الذي قال: "إذا كنتم تريدون الطريق الأسمى والأعظم، فالأفضل ألا يكون لكم علاقة مع أية امرأة كانت".
حكى لهم أنه ينام مع زوجته في سرير واحد ولم يعرف أنها امرأة.
لذلك كانت النتيجة الطبيعة لهذه الأفضلية التحقير من الجنس، وجعله أرضاً خصبة لكل الشرور، بل ورث العقل الجمعي المسيحي هذه الفكرة أيضاً، فمثلاً تحكي واحدة من الأساطير المسيحية عن أسقف كان متزوجاً، وكان شعب مدينته يشكون في "عفته" لأنه غير بتول، فجمعهم وأتى بزوجته وأشعل النار في ردائهما ولم تمسهما النار فكان دليل عفته، وحكى لهم أنه ينام مع زوجته في سرير واحد ولم يعرف أنها امرأة ولم تعرف أنه رجل، فقد قررا البتولية من يوم تزوجا، فصدقه الناس وأحبوه لأنه لم يمارس الجنس مع زوجته، وبهذا يثبت "بره".
لم تقف أسطورية القصة عند حد الخيال، بل اقتنع الناس بها، وظلوا يرددونها ويرددها الإكليروس على المسامع، فلا يزال حتى الآن التحقير من الجنس موجوداً وبكثرة، فقد أقنع رجال الأكليروس الشعب الأرثوذكسي بألا يمارسوا الجنس وقت الأصوام إلا بعد الرجوع للكاهن في جلسة الاعتراف.
الغريب دائماً أن الكنيسة المصرية في كتابتها ووثائقها تتحاشى تماماً تسجيل أي معلومات كثيرة عن الحياة العاطفية أو الأسرية للأساقفة المتزوجين، ولم ينتج فيلماً واحداً لأي منهم أو لأي قديس يتناول بشكل محايد حياته العاطفية قبل قرار رهبنته، بل تلقي الضوء بشكل متدن على هذه النقطة، لتقول لنا إن هذا القديس قديساً لأنه لم يقع في "خطيئة" الحب حتى في شبابه.
و"بجملة" الاضطهادات حول الحب، منع البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة المصرية الأرثوذكسية الراحل زواج أي راهب يقرر أن يترك رهبنته ويعود للعالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع