أنا، من عاشت قصص الخوف من دور الضحية كاملة، منذ حكايات جدتي عن الذئب والماعز، مروراً بأحداث سفاح المعادي، وسلعوة المقطم في القاهرة، ووباء كورونا، وحالات اغتصاب في الهند، وحتى اختفاء آمال ماهر، وذبح شيماء جمال.
كأن حياتي رحلة من الخوف، متعددة المحطات.
حكايات قبل النوم، هي بداية الرحلة.
كنت أنتظر قدوم الليل حتى أسمعها من أبي أو أمي، فلِتلك الحكايات فتنتُها الخاصة، وعشقٌ لا أعلم مصدره. كنت لم أتجاوز السادسة بعد. لا زلت أذكر الآن تفاصيلها، ولعلكم تتذكرونها معي أيضاً: صغار الماعز، وتحذير الأم لهم بعدم فتح الباب للذئب حتى تأتي من السوق بالطعام، ووجود الذئب على الباب مقلداً صوتَ الأم لصغارها، وكيف حاول كلٌّ منهم الاختباء، بعدما كسر الذئبُ البابَ.
لم أستطع النوم في تلك الليلة. ماذا لو حدث لي الشيءُ ذاته، أين يمكنني الاختباء؟
كنتُ وما زلت حتى الآن أخاف من قرع الباب غير المتوقع، ومن هذا السائق الذي ينظر لي في مرآة السيارة الأمامية، ومن حارس العقار الذي يبدي تودداً أكثر من اللازم، ومن ردة فعل زميلي الذي رفضتُ حبه
حاولتُ بعدها أن أختار مكاناً مناسباً للاختباء، ليس هذا فحسب بل ظلت تراودني أحلام، وأنا أحاول الهرب من شخص ما أو ذئب يقف كالإنسان.
منذ صغري، وأنا مرتبطة بأحلامي، ولمّا لاحظتْ أمي ذلك، حكت لي حكايةً أخرى عن شخص يدّعي أنه يغرق، ظل يستغيث بمن حوله أكثر من مرة حتى جاء يومٌ كاد أن يغرق حقاً، فلم يستجب أحد لاستغاثته ظناً منهم أنه كاذب.
لم يفهم عقلي المعنى الذي قصدته أمي، بل فهمت أن الخطر دائم، وكامن في مكان ما، ولسبب ما يمكن أن يتخلّى عني من حولي، فبمن أستغيث؟ يجب أن أجد الحماية لنفسي وبنفسي.
كنت طوال الوقت مترقبة حتى لا أكون الضحية القادمة. ضحية من؟ لا يهم. المهم هو أنني كنتُ وما زلت حتى الآن أخاف من قرع الباب غير المتوقع، ومن هذا السائق الذي ينظر لي في مرآة السيارة الأمامية، ومن حارس العقار الذي يبدي تودداً أكثر من اللازم، ومن ردة فعل زميلي الذي رفضتُ حبه، وظل أياماً، صامتاً لا يعلق أو يظهر ردة فعل؛ أخاف من السفاح في تلك المدينة، التي تبعد عني ساعتين بالقطار، ومن أن يرى شخص ما يكرهني حادثَ قتلٍ أو اغتصاب، فيقرر أن ينفذ تلك الطريقة معي.
روايات الجيب
حين بلغت سن العاشرة، ولأنني نشأت في بيتٍ جميعُ من فيه قرّاء، وعلى رأسهم بطلي الأول، أبي، عشقتُ القراءة حتى قبل أن أمارسها، فقط حتى أصبح مثله. ولأن هذا السن هو سنّ روايات الجيب، فبدأت مع رائعتي الدكتور نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق، "رجل المستحيل" و"ما وراء الطبيعة".
وعلى الرغم من أنني تعلمت كثيراً من تلك الروايات، التي كانت مزيجاً بين الحقيقة المغلفة برسائل عظيمة، مثل الشجاعة، وحب الوطن، وضرورة تطوير الإنسان لنفسه، كما هو الحال مع البطل أدهم صبري "رجل المستحيل"، وإصرار الدكتور رفعت إسماعيل على الفهم، ومحاربة الغموض في "ما وراء الطبيعة"، فإن هذا لم يمنعني من التركيز على مثلث الخطر بالنسبة لي: الاحتجاز، الاستغاثة، والإنقاذ.
كلما نُصب فخٌّ لأدهم صبري، كنت أرغب في الصياح لتحذيره، وكلما أشار رفعت إسماعيل لجارٍ غريب الأطوار أو صديق يهوى استضافة الأشباح، كنت أبحث بين جيراني وأصدقائي عن أشخاص مماثلين.
استغاثة من العالم الآخر
شابة تمتلك موهبة خاصة، وهي التواصل مع العالم الآخر، وبسبب ذلك لجأتْ إليها روحُ طبيب كان يسكن منزلها في الماضي، لتكشف غموضاً تتعلق به حياً وميتاً.
تلك كانت أحداث فيلم "استغاثة من العالم الآخر"، أو ذكرياتي، فهنا بدأت أدرك شيئاً آخر، وهو أن الاستغاثة ومثلث الخطر الملحق به ليس بين الأحياء فقط، بل إنه قد يصل إلى عوالم أخرى.
في تلك الفترة كانت قد حدثت واقعة سفاح المعادي، التي جعلت أمي ترفض خروجي وحدي خوفاً عليّ من أن أقع ضحيةً لحادث مشابه. كذلك ظهر كائن أطلقوا عليه اسم "سلعوة" في منطقة المقطم، والتي كانت تبعد عن منزلنا مسافة ساعة بالسيارة، لكن هذا لم يمنعنا من الخوف، وتوقع ظهور السلعوة في أيِّ وقت كان.
الجامعة
وصلت لسن الجامعة، وكنت منطلقة، لا أفكر كثيراً قبل أن أتحدث مع أصدقاء جدد أو أقوم بمغامرة أو تجربة جديدة، فأنا اجتماعية الهوى، وحبي للقراءة جعلني أكتسب كثيراً من صفات أبطال رواياتي المفضلة؛ أخوض تجاربَ رؤيةِ العالم الجديد وكأنني بطلة إحدى الروايات. ولكن ظل هذا الركن المظلم بداخلي: هل سأصبح ضحية أو رهينة يوماً ما أم سيكون الحظ معي وربما أصبح المنقذة لإحدى الضحايا فقط.
في تلك الفترة اكتشفتُ ما وصفه علماء النفس بالتواصل النفسي بين المغيث والمستغيث، ووصفه الكاتب اليمني زيد مطيع في رواية "الرهينة"، الذي حصد مركزاً بين أفضل مائة كتاب في العالم للقرن العشرين، إذ وصف أدقَّ المشاعر التي تعيشها الرهينة، سواءً كانت رهينةً لشخص أو لنظام ما أو حتى لمحتلّ.
حكايات قبل النوم، هي بداية الرحلة
كنت قريبة جداً من عمّتي الصغرى، قريبة إلى درجة البكاء فجأة، ودون سبب، في الوقت الذي كانت تبكي هي فيه لمشاجرة نشبت بينها وبين زوجها، وكان أبي بدأ يغار قليلاً من تلك العلاقة لأنني فتاته المدللة، وصديقته المقربة. وفي إحدى المرات تشاجرنا، وقام بكسر هاتفي، ومنعني من الخروج. ظللت طوال الليل أشعر وكأنني رهينة، وهذا ليس منزلي بل سجن، كلُّ من فيه غرباء، أرفض الحديث مع أمي وشقيقاتي، وأنتظر المنقذ. من هو؟
الدراما والسينما
أعترف أنني من هؤلاء الذين برغم كل وسائل الترفيه الحديثة والقديمة أفضل دوماً التلفزيون، والسبب قد يعود إلى عقدة مثلث الخطر، فكنت أميل كثيراً لمتابعة كلِّ ما يتعلق بالجريمة، بداية من برنامج "خلف الأسوار"، وحتى أفلام هوليوود الشهيرة، التي تناقش فكرة الهروب من الخطر، كـ"سلسلة رونج تيرن"، التي بدأت عام 2003، وتروي قصة مجموعة شباب يقومون برحلة لقضاء عطلة، فيسلكون طريقاً خطأً، يجدون به قاتلاً متسلسلاً، مهووساً بقتل الغرباء، و"فاينيل ديستينشين"، الذي يؤكد على فكرة "مهما حاولت الهروب من الخطر لن تستطيع/ي، إذا كان قد قُدّر لك ذلك".
أتذكر تلك المشاهد، وأنا أتابع المسلسل الهندي، الذي ما زلت أتابعه حتى لحظتنا هذه "كرايم باترول"، والذي لم أشعر بالملل منه، ولو لثانية واحدة طوال 4 سنوات، قضيتها في الهند، شاهدت خلالها أكثر من 2500 حلقة. المسلسل يتحدث عن جرائم تحدث في الهند، ويتم الكشف عن الجاني، من خلال فريقِ بحثٍ للشرطة الهندية.
لا
وجاءت "تريندات" مرتبطة بالقتل على مواقع التواصل، لتضفي على خوفي خوفاً وقلقاً، فالطالبة نيرة لم تجد من ينقذها من الذبح، رغم وجود الناس حولها، وربما لو كنت مكانهم ما فعلت، على عكس ما يحدث في الهند، فالناس هناك لديهم نشاط وإيجابية للتدخل أو لتبليغ الشرطة. أتذكر الطريقة التي ربونا عليها في مصر: "ابقوا في المنزل".
أما التريند الآخر فهو اختفاء الفنانة، آمال ماهر. فلسبب ما شعرت بأنها في أزمة، وتحتاج إلى منقذ حتى بعد ظهورها، ونفيها لذلك. فقد تعلمت من الروايات والمسلسلات والأفلام المتعلقة بالضحايا، أن يمرَّ رجلُ الشرطة، ويسأل الفتاة المخطوفة: هل كل شيء على ما يرام؟ فتجيب: نعم، لأن فوهة مسدس مصوبة إليها في الخفاء.
كلما نُصب فخٌّ لأدهم صبري، كنت أرغب في الصياح لتحذيره، وكلما أشار رفعت إسماعيل لجارٍ غريب الأطوار أو صديقٍ يهوى استضافةَ الأشباح، كنت أبحث بين جيراني وأصدقائي عن أشخاص مماثلين
وكذلك ما حدث للمذيعة المقتولة، على يد زوجها، التي لم تكن تعلم أن الخطر أقرب لها مما تتوقع، حتى أظن أنها عاشت آخر لحظاتها مع شعور مروع، ليس لأنها ستقتل فقط، بل لأنها لم تتوقع القاتل.
تمرّ السنون، ولا أنسى قصة في سلسلة "ما وراء الطبيعة"، عن انتقام لصديق رفعت إسماعيل، احتجزه هو وستة أصدقاء، داخل منزله، جميعهم شخصيات معروفة. أُغلقت الأبواب، ولم يُترك لهم سوى بابين، وأداة نجاتهم وراء واحد منهما فقط، ووراء الآخر هلاكهم. وخلال البحث عن حلٍّ لتلك الورطة، سأل دكتور رفعت الجميعَ ما إذا كان لديهم شخصٌ سيبحث عنهم ويأتي لإنقاذهم، فكانت الإجابة: لا.
تلك الـ"لا" لم تمرّ معي مرور الكرام، بل كلما تقدمت في العمر أتذكر تلك الـ"لا"، حتى جاءت فترةٌ في حياتي، فضلت فيها الانعزال والوحدة قليلاً، وبسبب كلمة "لا" أُصبت بنوبات هلع متكررة، بعدما ظللت أتخيل أنني سأموت، ويعفن جسدي قبل أن يكتشفه أحد. وبما أنني أعيش وحدي في بلد آخر، فعدم الردّ على الهاتف لأيام هو أسلوبي الذي يحفظه الجميع عن ظهر قلب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...