تعرف البحرين نفسها بأنها بلد مسلم تنتشر فيه المساجد للطائفتين الرئيسيتين، السُنة والشيعة. تضم المملكة الخليجية الصغيرة مئات المباني التي تُسمى بـ"المآتم الحسينية" التي تختص بالشيعة وفيها يحيي أبناء الطائفة مناسباتهم بدءاً بعاشوراء وليس انتهاءً بإحياء مناسبات وفيات أئمتهم الإثني عشر والرسول وفاطمة الزهراء وغيرها، بالإضافة لإحياء ذكرى ميلادهم بالفرح والأهازيج.
تعتبر عاشوراء المناسبة التي يتفرغ الشيعة لإحيائها، وتخصص البحرين عطلة لمدة يومين ليتمكن مئات الآلاف من الشيعة البحرينيين من ممارسة طقوسهم الجنائزية، من حزن وقراءة السيرة والدعاء واللطم والخروج في مواكب عزاء، والتطبير. تقام هذه الطقوس والعبادات حسب التوثيق منذ أكثر من ١٤٧ عاماً، وتطورت عبر الزمن لتتضمن جانباً سياسياً فنياً ثقافياً تاريخياً وصحياً إلى الجانب الديني.
تقام المعارض الفنية وتعرض الأفلام والصور التي تظهر هذه الواقعة ومشاركة الناس فيها، بالإضافة إلى المحاضرات والشعارات التي تأخذ طابعاً سياسياً، في بلد يتهم عدد كبير الشيعة فيها حكومتهم بالتمييز ضدهم، فيما تقام حملات للتبرع بالدم ترفد بنك الدم المركز بمخزون جيد طوال العام.
غياب النساء من "الصورة"
في الوقت الذي تجتمع فيه حشود من عشرات الآلاف لإحياء هذه الذكرى، تعرض العديد من الصور التي توثق هذا الإحياء، من فعاليات مختلفة على مدار السنوات من مصورين بحرينيين زاد عددهم عبر السنوات أضعافاً مضاعفة لسهولة الوصول إلى أجهزة التصوير، فالكاميرات وتوفر الهواتف الذكية منحت الجميع فرصة المشاركة في هذا توثيق طقوس عاشوراء، ولكن بقى الجانب النسائي من هذا الإحياء غائباً أو مغيباً، في الوقت الذي تحيي النساء هذه المناسبة كما يحييها الرجال، بكل جوارحهن.مؤخراً بدأ عدد من المصورات والمدونات البحرينيات في تغطية هذا النقص، فتعمد عدد من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي نشر صور من مآتم ومساجد النساء، وما يدور فيها من قصص وصور وطقوس، منهن زينب الزين من قرية كرزكان على الساحل الغربي لجزيرة البحرين.
الكاميرات وتوفر الهواتف الذكية منحت الجميع فرصة المشاركة في توثيق عاشوراء، ولكن بقى الجانب النسائي غائباً أو مغيباً، في الوقت الذي تحيي النساء هذه المناسبة كما يحييها الرجال، بكل جوارحهن
بدأت التوثيق في العام 2012، تقول لرصيف22: "النساء مليئات بالقصص في كل مكان، مليئات بالأسرار، رغبة التوثيق كانت موجودة لدي منذ صغري، لكنها كانت عامة وتتعلق بالتاريخ والتراث، إلا أن وفاة جدتي جعلتني أتيقظ لمسألة التوثيق لحياة النساء بشكل خاص ولا سيما أنها كانت قارئة حسينية ومعلمة قرآن. غمرني الأسف لأن هذه الرغبة بدأت بعد وفاتها ورأيت الكثير من القصص المشابهة التي بدأت في الانتشار. هذا الأمر حرّكني وجعلني أرغب أكثر في التوثيق".
منع الذاكرة من الاندثار
وتوضح الزين: "معظم قراءاتي في التوثيق كانت لأسماء ذكور وكأن النساء لا نصيب لهن من الاسم، منسيات بالرغم من دورهن الكبير في المجتمع، رغم أنهن وراء كل مشهد على هذا المسرح الكبير. شعرت بأن من واجبي أن أوثق الأدوار النسائية في الحياة، وأن تلك الفروض التي وضعها الدين على لباسهم وظهورهن في المجتمع ليست بالقيد الذي يمنع التوثيق والنشر".زينب الزين في الخامسة والعشرين من عمرها، موظفة في القطاع الخاص، إلا إنها تهتم بالتصوير وتحب الكتابة والشعر والرسم أحياناً، يغطي حسابها على الانستغرام أنشطة النساء في القرى الشيعية ومنها الدينية في المآتم والمساجد، وفي كل مرة تنشر الصور تروي قصة ما يحدث، تقول: "الهدف هو نقل الأحداث والمشاهد التي قد أراها بشكل روتيني جداً، لأناس قد تكون هذه المشاهد جديدة عليهم أو موجودة في حياتهم بصورة مختلفة، وأيضاً ممارسة هوايتي في قنص هذه الأطر من الأحداث".
الزين: الهدف هو نقل الأحداث والمشاهد التي قد أراها بشكل روتيني جداً، لأناس قد تكون هذه المشاهد جديدة عليهم أو موجودة في حياتهم بصورة مختلفة
وتواصل: "التصوير يخدم التوثيق في المشروع فهو الهدف الأساسي بالمقام الأول، ليس لديّ خطّة مدروسة أو منهجية توثيق واحدة، فمن الممكن أن أخلق من أي مشهد يدور أمامي موضوعاً توثيقياً وسرداً يساعد على توضيح الحدث، وحتى وإن كانت بعض الصور لا تدور حول حدث مميز أو واضح فهي تروي الحياة بمحيطي وتنقل صورة منه ومن بيئتي".
تعبّر الزين عن رغبتها في أن تنقل مشاهد من حياة القرى لمكان أوسع وعيون أكثر، بالإضافة لتعديل وتوضيح الصورة النمطية أو الذهنية الموجودة لدى الناس عن أهل القرى ، وذلك من خلال نقل القرية بشخوصها وأحداثها وشوارعها وطرقها الداخلية الضيقة ومؤسساتها ومنازلها وبيوتها لخارج محيط القرية والبحرين، فالحساب موجه لعامة الناس، دون أي تصنيف عمري أو عرقي أو جنسي.
تقول الزين إنها تعيش تجربة التوثيق بمتعة، وتضيف: "أشعر أحياناً بأني أسرق الأطر من المشهد نفسه، أحتفل بالصورة التي تخرج بمعناها الذي أراه قبل نقله ودون أن يسقط منها شيء في النقل والتصوير والنشر، أن يشعر المشاهد بنفس المشاعر التي شعرت بها حين التقطتها دون إخلال بخصوصية ورغبة المرأة التي سمحت لي بالصورة. أكثر ما يفرحني حين يقول أحدهم إنه كان في نفس المكان المصوّر لكنه لم يره مسبقاً بعيني، وكأنه مكان جديد بالرغم من زيارته اليومية له".
يشارك الزين عدد من المدونات والمصورات ممن ينقلن الأجواء الدينية الشيعية من الجانب النسائي في البحرين، مثل حساب زينب دكيومنتس، ومعصومة العالي، وغيرهما، عن ذلك تعلق الزين: "بصراحة، سعيدة لوجود نماذج أخرى تمارس نفس النشاط الذي أمارسه وتحمل نفس الهدف، على الأقل الفكرة بدأت بالانتشار وهذا يعني أنها مقبولة، أشجعهن على ذلك".
لا بد من بعض الصعوبات
وعن الصعوبات التي تواجهها خلال عملية التصوير داخل الأماكن النسائية، قالت: "من الصعب جداً زرع فكرة التوثيق بالنشر عند أهل القرية بشكل عام والنساء بشكل خاص، هنالك اعتبارات كثيرة تحد من حركة العدسة وخصوصاً أنني في مجتمع يعني فيه اللباس الذي هو من الفروض الدينية الكثير، فمن المقبول تصوير الكفوف والهيئات البشرية أكثر من إظهار الوجه نفسه وهو الذي يحمل التعابير الأهم في الصورة والمشهد والمسؤول عن نقل المشاعر العامة".
وتواصل: "أكبر تحدٍ أواجهه بشكل دوري هو كيفية نقل الفكرة المراد تصويرها من خلال إطار صغير وعناصر محدودة وقيود كثيرة ، مثلاً: تصوير عملية الطبخ في شهر محرم دون إظهار وجوه النساء ولا أيديهن أو أطراف الجسم التي قد تكون واضحة في المشهد بشكل كبير، كيف أنقل هذا المشهد مع الحفاظ على خصوصيتهن واحترام الضوابط الدينية الموضوعة؟ لم اجتز هذا التحدي، ولكني ما زلت أحاول".
من المقبول تصوير الكفوف والهيئات البشرية أكثر من إظهار الوجه نفسه وهو الذي يحمل التعابير الأهم في الصورة والمشهد والمسؤول عن نقل المشاعر العامة
وتقول الزين إن أكثر المفاجآت المتكررة التي تواجهها خلال التصوير هي الرفض اللاذع من قبل الناس بشكل عام حتى قبل طرح فكرة النشر، "وممكن قد يصفك البعض بالخارج عن العرف وغير المنضبط".
تغير وجود زينب الزين بين حضورها هذه الطقوس وبين تدوينها لها، توضح: "أصبح حضوري مُلاحظاً وأكثر من مشاركة فقط في هذه الأحداث والطقوس، ولا أنكر أنه كان لي حضوري في السابق، لكن الصامت، لم أكن أحمل أي فكرة جدية بنقل ما يلاحظ في صور أو في سرد توثيقي".
وتضيف: "حضوري كمصورة أو مدونة للحدث يسرق مني الكثير من الحالة الشعورية الواجب حضورها في الشخص حين يحضر مثل هذه المجالس أو الفعاليات خصوصاً أنها فعاليات دينية غالباً ما تحتاج حضور الروح والبال والعاطفة، ومن الصعب جداً ان أوفق بين الأمرين، يجب أن أستغني عن أحد الشعورين وأوضح هدفي قبل ذهابي: هل أنا اليوم هنا لأمارس دوري كجزء من الحضور والفعالية كمشاركة؟ أم أنني شخص يحضر لأول مرة هذا النوع من الطقوس ويحاول ان أنتبه لأي سلوك ولأي كلام يُقال كالمشارك؟".
وعما تحتاجه لاستكمال مشروع التدوين، قالت: "أحتاج دعم الفكرة بقبول النساء والرجال من المحيط والمنطقة، أرى أن فكرة التوثيق مقبولة لكنها لا تكون كذلك حين تكون المرأة ذاتها هي الموضوع الموثق وهي الصورة، والأمر قد يستغرق الكثير للوصول إلى فكرة التقبل، ونشر صورة تحوي وجوههن بشكل واضح وتروي عنهن بذكر الهوية، إذا حصلت على دعم وثقة ستكون النتائج أفضل بكثير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...