كسيدة في العقد الرابع من العمر، ليس غريباً أن أكون تربيت على قيم، وفي مجتمع، لا يُشبهان كثيراً ما هو واقع الآن.
لكن أن يصل الأمر إلى حد الشعور بالغربة في وطنك، وعدم الانسجام التام، هو مؤشر خطير على أن ما يحدث ليس تطوراً زمنياً طبيعياً، وإنما قد يكون أقرب إلى انسلاخ تام من الجذور وانفصال حاد عن الهوية المجتمعية والثقافية.
أتساءل هنا تحديداً عن مصر التي بات صوت البذاءة والتحريض والعنف والكراهية فيها هو الأعلى، والبلطجة يُفاخر بها علنا ويُمجد من يتصف بها بلفظ "الأسد".
من أجيال ترى في مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك، صورة "نموذجية" لرجل فاعل في الوسط الرياضي بذريعة أنه "بيجيب حق النادي" و"محدش يقدر يقف قصاده"، وتعتبر أن عبد الله رشدي "رجل دين قوي ومقدّر" أتعجب.
الحقيقة الواضحة بالنسبة لي أن مجتمعاً يعتبر #مرتضى_منصور و#عبدالله_رشدي "أسدين"، ويدافع عن قاتل #نيرة_أشرف ويعتبره ضحيّةً هو مجتمع لا يشبهني ولا أنتمي إليه
منصور، الذي صدر بحقه أخيراً حكم نهائي بالسجن شهراً لإدانته بـ"سب وقذف وخدش سمعة عائلة" أسطورة كرة القدم المصرية محمود الخطيب رئيس النادي الأهلي، معروف بألفاظه البذيئة وهجومه على خصومه من منطلق "العرض والسمعة" والحياة الخاصة والتخوين. للمرأة قصة طويلة معه من انتهاك الكرامة والتحقير.
رشدي هو الآخر محرض دائم ضد المرأة، بذيء في ردوده وتعليقاته على السيدات اللاتي ينتقدن تزييفه وتحريضه لكل ما يخص المرأة بتعابير مثل "رخيصة" و"شرشوحة".
يُوصف مرتضى من أنصاره بالأسد، وكذا الأمر بالنسبة لرشدي. والسند هنا هو صوتهما العالي الذي بات معياراً للقوة المزعومة. لا أنكر أنها قوة طالما لا يوجد ما يستطيع أن يوقفها ولا قوة القانون.
ما يشغلني بشدة هو وجود "شعبية واسعة" لهذه النماذج منذ سنوات. ولا أجد في نفسي إجابة أو تحليلاً معقولاً لذلك.
تزايدت حيرتي وغضبي حينما رأيت المجاهرين بالدفاع عن قاتل طالبة جامعة المنصورة نيرة أشرف، المدعو محمد عادل، والمطالبة بتخفيف عقوبة الإعدام بحقه بل اعتباره ضحية. متى وكيف ولم ظهر هؤلاء بيننا؟
لست هنا باحثة أين ذهب "المجتمع المتدين بطبعه"، ولا كنت مؤمنة يوماً بمثل هذه الأحكام المطلقة والفضفاضة. لكن بالتأكيد لم يكن مجتمعنا بهذه الحالة من الانحدار والانحياز لكل ما هو سيىء كما يحصل اليوم #مصر
بلغ الأمر ذروته الاثنين 21 آب/ أغسطس 2022، مع عشرات التعليقات الشامتة والساخرة من ضحايا مجزرة بورسعيد، تلك التي راح ضحيتها 74 من جمهور النادي الأهلي المصري، بعضهم قُصّر، عقب مباراة كرة قدم مع فريق المصري البورسعيدي.
لهذه المذبحة أثر مرعب في نفسي. شاهدت الأحداث على الهواء مباشرة في حينه قبل قطع البث. كنت في غرفة نومي وقد اضطررت لغلق الأنوار لأن طفلتي (لم تكمل عامها الأول آنذاك) كانت نائمة. بدأ الاعتداء بالضرب وإلقاء المشجعين من أعلى المدرجات وأنا لا أصدق عينيّ. اقتربت من الشاشة أكثر، شعرت حينها بأنني قريبة للغاية، وكأنني في الاستاد. رغم الرعب لم أقوَ على الابتعاد أو إطفاء التلفزيون، كان أقوى شعور بالتورط والحصار عشته.
ما إن توقف البث، حتى عدت لسريري، وأشعلت الأنوار، ودخلت في موجة بكاء ونحيب لا أتذكر متى وكيف انتهت.
قد يلتمس البعض العذر لأجيال لم تعاصر المجزرة في عدم الشعور بجسامة ما حدث. لكن السخرية أو الشماتة في 74 روحاً أُزهقت خلال مباراة كرة قدم لا يمكن أن يكون متفهماً في اعتقادي، ولا يبرره أي تعصب مهما بلغ.
ما نبش ذكرى المذبحة هو فعل تعصّب آخر يُنذر بخطر - اعتداء عدد من مشجعي نادي الإسماعيلي على حافلات تُقلّ مشجعي الأهلي قبل مباراة تجمع الفريقين في مدينة الإسكندرية. اللافت أن جماهير الكرة في مصر طالما شتمت و"حفّلت" (سخرت) من الخصوم، ولم يصل الأمر بها إلى ما وصلنا إليه الآن من التبرير لقتل المشجعين و/ أو التحريض عليهم علناً وأحياناً من شخصيات عامة. هنا خلل واضح في المعايير والقيم والإنسانية. وما يندرج على جماهير الكرة يندرج على المجتمع كله.
لست هنا باحثة أين ذهب "المجتمع المتدين بطبعه"، ولا كنت مؤمنة يوماً بمثل هذه الأحكام المطلقة والفضفاضة. لكن بالتأكيد لم يكن مجتمعنا بهذه الحالة من الانحدار والانحياز لكل ما هو سيىء كما يحصل اليوم.
أخشى أن مناخ التحريض والتخوين السام المنتشر في مختلف المجالات أصبح خانقاً لدرجة لا يتوقع أن ينتهي إلا بما هو أسوأ مما نحن عليه
لن أتطرق أيضاً للجهة التي تحمي نماذج، لا يمكن نفي جرائم التحريض ونشر الجهل والترويج للبلطجة عنها، مثل مرتضى أو رشدي.
أتساءل هنا عن الشعب المصري تحديداً، متى بات الانحياز وحتى الدفاع "الأهوج" عن هذه النماذج رائجاً إلى هذا الحد؟
أما عن الأسباب، فهي ربما ليست محيرة. في مجتمع تغيب فيه المساءلة، ويلمّع إعلامه وأعماله الدرامية من يقومون بالبلطجة والتنمر وتحقير النساء، ويوصف فيه الترفع عن رد الإساءة بأنه ضعف، لا يُستغرب أن يؤول لهذه الحال.
الحقيقة الواضحة بالنسبة لي أن مجتمعاً يعتبر مرتضى منصور وعبد الله رشدي "أسدين"، ويدافع عن قاتل نيرة أشرف هو مجتمع لا يشبهني ولا أنتمي إليه.
كما أخشى أن مناخ التحريض والتخوين السام المنتشر في مختلف المجالات أصبح خانقاً لدرجة لا يتوقع أن ينتهي إلا بما هو أسوأ مما نحن عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...