خلال أحد عروضه الكوميدية، تناول الكوميديان الأمريكي كريس روك -نعم هو ذاك الذي صفعه ويل سميث في حفلة الأوسكار- تصريحات أحد مسؤولي الشرطة في الولايات المتحدة الأمريكية. كان المسؤول يقول، تعليقاً على تكرار حوادث قتل الأمريكيين من أصل إفريقي برصاص البوليس، إن مرتكبي الأخطاء والتجاوزات من بين رجال الشرطة ليسوا إلا أقلية صغيرة، أما الغالبية الكبرى من رجال الشرطة فيقومون بواجبهم بشرف والتزام.
لم يشكك كريس روك في صدق تصريحات مسؤول الشرطة، بل قال إنه يوافق عليها تماماً، ولكنه أضاف أن بعض المهن والوظائف في هذا العالم، لا تحتمل وجود تلك الأقلية الصغيرة من مرتكبي الأخطاء. في بعض المهن يجب أن يكون الجميع ممتازين.
ينتمي هادي مطر إذاً إلى ما يمكن أن نسمّيه "أقلية الأقلية". إنه جزء من نسبة عربية إلى عدد مسلمين لا يزيد إجمالاً عن واحد في المئة من السكان.
ويتابع روك، وسط ضحكات الجمهور وتصفيقه، قائلاً إنه لا يمكن لشركة الخطوط الجوية الأمريكية على سبيل المثال، أن تقول في دعاياتها: إن "معظم" طيّارينا يهبطون بسلام. سوف يكون ذلك دليلاً على فشل الشركة، مهما بلغ صغر حجم "الأقلية" التي لا تجيد الهبوط بالطائرة.
وبالطبع فإن روك، الفنان اللماح، يسخر بذكاء وتورية من تصريحات مسؤول الشرطة. إنه يبيّن له وللجمهور مدى تهافت منطقه وسخافته، فتلك الأقلية المزعومة من "المخطئين"، لا تستهدف أبداً، أو تقريباً، سوى أبناء أقلية أخرى، مما يخرج بالأمر من بوابة الخطأ والصدفة، ويدخل به عبر بوابة العنصرية العرقية والطبقية.
أتذكر إحساس المفاجأة الذي شعرت به حين عرفت أن نسبة السكان السود من أصل إفريقي في الولايات المتحدة لا تزيد عن 12% من إجمالي عدد السكان. كان انطباعي، بسبب الأفلام والأخبار وحوادث القتل، أن عدد ذوي الأصل الإفريقي أكبر من ذلك بكثير. كنت أتصور أن الأمريكيين مكونون من "أبيض وأسود"، تقريباً بالتساوي، أو 60% مقابل 40%، أو 70% مقابل 30%. أما وقد عرفت الرقم الحقيقي، فقد أدركت أنهم أقلية حقاً بكل المعاني، وتصخمت فوراً في ذهني نسب كل الأرقام التي أقرأها عن نسبتهم من عدد المساجين، ونسبتهم بين عدد القتلى برصاص الشرطة، ونسبة البطالة... إلخ. جعلني الرقم الحقيقي أرى كل شيء بصورة أوضح، وصحح لي انطباعاً آخر بخصوص انتماء الكثير من "الأمريكيين الأفارقة" إلى الإسلام، إذ بينما يبلغ عدد ذوي الأصل الإفريقي إجمالاً نحو 40 مليون أمريكي من إجمالي تعداد 330 مليون أمريكي، فإن عدد جميع المسلمين -من كل الأعراق- في الولايات المتحدة، لا يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة، بنسبة تبلغ نحو 1 في المئة من السكان، 20% منهم فقط من أصل إفريقي، أي أن الأغلبية الساحقة من أصحاب الأصل الإفريقي يعتنقون المسيحية، أما معظم المسلمين الأمريكيين فهم من أصل عربي، ومنهم جاء هادي مطر، الذي طعن سلمان رشدي في أثناء محاضرته في نيويورك.
بالطبع فإن مسألة الإرهاب قضية متشعبة، يتداخل فيها الدين بالسياسة، أو السياسة بالدين، لكن لبّ القلق الاجتماعي، أو ما يجعل تلك "الأقلية المسلمة" مصدر خوف وحيرة، هو ذاته ما يمثّله الشاب هادي مطر، الذي وُلد في نيوجرسي، قبل 24 عاماً
ينتمي هادي مطر إذاً إلى ما يمكن أن نسمّيه "أقلية الأقلية". إنه جزء من نسبة عربية إلى عدد مسلمين لا يزيد إجمالاً عن واحد في المئة من السكان. بالرغم من هذه النسبة الضئيلة للغاية، التي عادةً ما تُهمَل في حالات وبلدان أخرى، إلا أننا أيضاً، إزاء تلك الأقلية البالغة الصغر، ومن دون معرفة الأرقام التي تمثلها في المجتمع، قد نُخدع -بسبب "أخبارها"- ونظن أنها تشكّل ما هو أكبر من أرقامها الحقيقية، لكن الأسباب هذه المرة تختلف، فهي ليست "البطالة والسجون والعنصرية ورصاص الشرطة" كما هو الحال مع الأمريكيين من أصل إفريقي، وإنما، كما تعلم، هناك سبب رئيسي هو "الإرهاب"، سواء ما وقع منه فعلاً، أو ما يجري التخوّف من وقوعه قياساً إلى ما يبديه ترمومتر التطرف.
وبالطبع فإن مسألة الإرهاب قضية متشعبة، يتداخل فيها الدين بالسياسة، أو السياسة بالدين، لكن لبّ القلق الاجتماعي، أو ما يجعل تلك "الأقلية المسلمة" مصدر خوف وحيرة، هو ذاته ما يمثّله الشاب هادي مطر، الذي وُلد في نيوجرسي، قبل 24 عاماً، بعد سنوات من فتوى قتل رشدي. إنه تماماً كالشاب الذي طعن نجيب محفوظ؛ توجه بالسكين إلى عنق رجل لم يكن يمكن أن يكون والده فحسب، بل كان يمكن بسهولة أن يكون جدّه. في الحالتين، بدا الأمر كأنه رسالة دموية يوجهها أبناء الإسلام الحديث، إسلام الميلينيالز، إلى أجدادهم من مسلمي كوزموبوليتانية القرن العشرين، مسلمي زمن التعددية والاستعمار. إنها رسالة غضب فاشي، رسالة فشل وعطب ذهني، لكنها قبل ذلك رسالة تجدُّد الخوف، وفضح "الإسلاموفوبيا" كمصطلح مضلل، لأن الخوف من الإسلام/ المسلمين يصعب حشره في خانة الرعب غير المبرر الذي تصفه كلمة "فوبيا".
إن قابلية تحوّل أي شاب مسلم إلى هادي مطر، في أي مكان وزمان، بعد سنة أو بعد أربعين سنةً، هي ما سوف يظل يثير القلق من الجاليات المسلمة مهما بلغ صغر حجمها كأقلية
إن قابلية تحوّل أي شاب مسلم إلى هادي مطر، في أي مكان وزمان، بعد سنة أو بعد أربعين سنةً، هي ما سوف يظل يثير القلق من الجاليات المسلمة مهما بلغ صغر حجمها كأقلية. إن طعن أديب أو مفكر لم يعد أمراً يمكن تفهمه -ولا تفهّم تأييده- في العالم المعاصر، وإذا لم يكن ذلك هو موقف الغالبية الساحقة من أبناء العالم الإسلامي، فإن أي أقليّة منهم سوف تمثل مشكلةً لا يمكن التجاوز عنها، تماماً كأقلية رجال الشرطة الذين سخر منهم كريس روك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...