كنت عائداً للتو من بيروت، سنة 2009، مهرباً كتباً ممنوعة وأخرى ملعونة، "بورقيبة، سيرة شبه محرمة" للصافي سعيد، و"الغضب" و"أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي، وكتباً أخرى مشبوهة سياسياً، حسب نظام بن علي البوليسي.
بعد يومين من وصولي أخذت روايتيْ سلمان رشدي، ونزلت إلى العاصمة لأعير الكتب لصديق. دخلت مقهى باريس، معقل المثقفين في السبعينيات والثمانينيات، كان وقتها فقد دوره الثقافي وصارت تحتله بعض الكائنات الأسطورية.
دخلت لأن الصديق هاتفني يخبرني أنه هناك. وما إن خطوت خطوتين حتى رأيت واحداً من تلك الكائنات الأسطورية يلوح لي بيده. كان ناقداً معروفاً بنزعته العروبية وانتمائه للبعث العراقي، يلف رقبته بكشكول أحمر، صيفاً شتاء. سألني: "ماذا تفعل؟ هل وجدت عملاً؟"، فأجبت: "لا ليس بعد. لم أقض إلا عشرة أعوام معطّلاً عن العمل". فغيّر الموضوع لصلته الوثيقة بنظام بن علي، حتى أنه كان يطلق على حزب التجمع الدستوري عبارة "الحزب"، لأنه لا يؤمن بغيره حزباً بالبلاد، وسألني عن الكتب التي أحملها، فقلت له إنهما روايتان لسلمان رشدي، فإذا به يستشيط غضباً ويصرخ:
"كيف تقرأ لهذا اللعين الذي شتم زوجات الرسول؟ أليس هذا صاحب رواية آيات شيطانية؟". سألته: "هل قرأت أنت الرواية؟". فأجاب: "لا". قلت: "أنا قرأتها ولم أجد فيها ما تقول". فتطاير الزبد من شدقيه: "هل تعرف أنت أكثر من الإمام الخميني؟ اذهب اللعنة عليك". أجبته: "طبعاً أعرف أكثر منه ومنك، ما دمتُ قرأتُ، ولم تقرأ أنت الرواية".
"كيف تقرأ لهذا اللعين الذي شتم زوجات الرسول؟ أليس هذا صاحب رواية آيات شيطانية؟". سألته: "هل قرأت أنت الرواية؟". أجاب: "لا". فقلت: "أنا قرأتها ولم أجد فيها ما تقول"
تركته وخرجت. اعترضني صديقي في الباب، فلعنته، وذهبنا إلى مقهى آخر نتحدث فيه عن سلمان رشدي، وكيف لناقد لم يقرأ له شيئاً يصدر فيه فتوى على فتوى الخميني بإهدار دمه.
تذكّرت الحادثة اليوم وأنا أتابع تعليقات العرب المسلمين تحت خبر محاولة اغتيال سلمان رشدي بعد أكثر من ثلاثين سنة من صدور الرواية وصدور الفتوى. كان الآلاف يهللون ويباركون العملية، هؤلاء المسلمون العرب أنفسهم الذين ينكرون أن يكون الإرهاب له علاقة بهم.
نصر حامد أبو زيد الوجه العربي لسلمان رشدي
بعد أيام رحلتُ إلى الجزائر حيث قضيت عاماً كاملاً بعيداً عن تونس، أنهيت فيه يوميات دارت حول العنف الجديد والقديم الذي عاشته الجزائر، وأنجزتُ فيه كتاباً مع المفكر نصر حامد أبو زيد، بعنوان "نصر حامد أبو زيد: التفكير في وجه التكفير"، وكان نصر الوجه العربي لسلمان رشدي، حيث كُفّر واضطر لترك مصر إلى هولندا ليعيش هناك عشرين عاماً، وفي آخر العام، وبعد أن أنهينا الكتاب، اختفت رسائل نصر التي كانت تصلني كل أسبوع وأحياناً كل يوم، لأكتشف أنه توفي، وعندما بحثت عن سبب الوفاة قالوا إنه فيروس غريب ضرب خلايا المخ.
لا يمكن أن أصدق ذلك، فقد دار حوارنا حول الموت والخوف من الموت والمطاردة والتهديد بالقتل، وكان يبدي شجاعة كبيرة وهو يجيبني، بينما كنت كمن يستشعر بخطر يحوم حول الرجل، حتى أنني أنهيت الكتاب الحواري بسؤال لا أدري كيف سألته: "لو طلبنا منك طلباً غريباً كأن تكتب وصيتك في سطور بماذا توصي العالم؟"، ليجيبني: "من أنا حتى أوصي العالم؟ حدود وصيتي لا تتعدى الأسرة، وزوجتي –شريكتي في كل الآلام والمتاعب– على وجه الخصوص أن اكتبوا على قبري: هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم!".
النقاد العرب الذي استباحوا دم سلمان رشدي ولم يقرؤوه
كما صاحب الكشكول الأحمر في مقهى باريس، جرّد النقاد العرب سيوفهم وخناجرهم وانطلقوا يمزقون جثة الكاتب الهندي سنة 1989، موافقين آية الله الخميني الذي أهدر دمه، ويؤكدون أن للخيال حدوداً، وأنه أخطأ خطأً فادحاً في روايته "آيات شيطانية".
لم تكن الرواية قد ترجمت للعربية آنذاك، ولا أي لغة أجنبية أخرى، ولا كان النقاد الذين كتبوا ضده يتقنون غيرها، إنما كتبوا ما كتبوا استناداً إلى فتوى الخميني، وما تناقلوه عن جهل بالمصدر والنص. وقد فضحهم الناقد والمفكر صادق جلال العظم في مؤلفه "ذهنية التحريم"، والذي خصص لسلمان رشدي وقضيته فصلاً كاملاً وضعه تحت عنوان "سلمان رشدي وحقيقة الأدب"، وأنهي الكتاب بـ"بيان دفاع عن حق الكاتب في الحياة" وقائمة بالكتاب العرب الذين ساندوا سلمان رشدي.
يبدأ الكاتب القسم المخصص لقضية سلمان رشدي بحيرته من المثقفين العرب الذين أدانوا مثله اغتيال حسين مروة، وأدانوا مثله اغتيال مهدي عامل، وبكوا معه على اغتيال الرسام الفلسطيني ناجي العلي، و"استنكروا بأقوى العبارات عملية اغتيال المفكرين والمثقفين والكتاب العزل التي بدأت تمارسها قوى الاستبداد السياسي ونزعات الانغلاق الديني وحركات التعبئة الأيديولوجية الظلامية، القروسطية وقيادات الشحن الطائفي المذهبي الضيق في العالم الإسلامي عموماً، وفي عالمنا العربي خصوصاً"، "و"تجد حرجاً في الحديث عن سلمان رشدي" ويصيبهم "الارتباك والتلعثم والإحراج عند الحديث معه عن سلمان رشدي وروايته والحكم العابر للقارات الذي أصدره آية الله الخميني بقتل المؤلف الشاب مقابل جوائز مالية سخية لا تدفع إلا بالدولار".
"اكتبوا على قبري: هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم!"... هكذا أوصى نصر حامد أبو زيد
يفكك صادق جلال العظم كارثة "ذهنية التحريم" في الثقافة العربية أنها قائمة على السماع في إصدار إحكامها ومواقفها، ويعطي مثالاً عن الدكتور أحمد برقاوي، الذي ورغم اعترافه أنه لم يقرأ الرواية، إلا أنه يكتب بالعدد 953 من مجلة "الهدف" بكل ثقة: "تنطوي الرواية على الكثير من السوقية والابتذال والسفاهة والوقاحة، مما يدفع بالإنسان العربي، ملحداً أو مؤمناً، أن يقف منها موقفا نقدياً وعدائياً"، ويصف كتابة سلمان رشدي "بالصبيانية والجهل وضيق الأفق والغباء".
وصبّ العظم وابلاً من السخرية من هذا الناقد الجامعي الفلسطيني الذي مازال، حسب رأيه، يرى الأدب الحقيقي هو الذي يدافع عن "الحقيقة والمساواة والشعب والاشتراكية والبطولة والإنسان"، كما قال الجامعي، ويتخيل العظم خطورة الأمر لو عين هذا الجامعي وزيراً للثقافة الفلسطينية وما سيفعل بالأدب.
كما التفت العظم لما كتبه الهادي العلوي، والذي يصفه بالصديق، ويعتبر أن اتهام العلوي لسلمان رشدي بالتورط في عمل للصهيونية يعتبر سقطة كبيرة للناقد والمفكر؛ فيقول: "ما زلت أحب أن أعتقد أن مفكراً نقدياً تقدمياً وجريئاً من عيار الهادي العلوي يظل في مستوى أرقى من أن يسلك الطريق الديماغوجية السهلة التي تعزو كل ما لا يعجبنا في العالم إلى المؤامرة الصهيونية"،
ويعتبر كتاب "ذهنية التحريم" مصدراً أساسياً لا لفهم قضية سلمان رشدي والآيات الشيطانية فقط، بل لفهم ذهنية الناقد العربي في عصور الانحطاط الحديثة والمعاصرة اليوم، التي تعيد إنتاج نفس الخطاب المؤامراتي والذين يقيسون الأدب بمقياس الفقهاء، ولا يفرقون بين الواقعة التاريخية والواقعة التخييلية، حتى يندفع الكاتب للقول: "إن نقادنا القدامى أكثر معاصرة في فهمهم لمعنى الأدب، وفي استيعابهم جدلية الصدق والكذب في الفن، وفي تحديدهم للخصائص المميزة للإبداع الشعري والفني عموماً من نقادنا المعاصرين".
الدكتور أحمد برقاوي، ورغم اعترافه أنه لم يقرأ رواية آيات شيطانية، إلا أنه كتب بكل ثقة: "تنطوي الرواية على الكثير من السوقية والابتذال والسفاهة والوقاحة، مما يدفع بالإنسان العربي، ملحداً أو مؤمناً، أن يقف منها موقفا نقدياً وعدائياً"
ويسخر العظم منهم ويعتبر موقفهم مما سموه فحشاً وبذاءة في رواية سلمان رشدي بالعذارى الصغيرات: "إن نقادنا يتصرفون وكأن حياءهم هو حياء العذارى الشرقيات ذوات الخمسة عشر ربيعاً".
لم يقع التطرق لرواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي بشكل علمي ونقدي إلا مع صادق جلال العظم في هذا المؤلف، ومع التونسي فتحي بن سلامة في كتابيه "الإسلام والتحليل النفسي" و"تخييل الأصول".
يقول فتحي بن سلامة: "إن القراءة المتأنية لهذه الرواية يمكن أن تبين قيامها على عملية تمزيق للجسد النصي للأب في التقليد، وهي عملية مقصودة تهدف بوضوح إلى جعل الإسلاميين يواجهون بطلان عودتهم إلى الأصول. فالحقيقة والقداسة والخلاص الأصليان حلت مكانها القهقهة واللهو الطفولي بيدي خيال لا إيمان له ولا مآل".
"إن نقادنا يتصرفون وكأن حياءهم هو حياء العذارى الشرقيات ذوات الخمسة عشر ربيعا" صادق العظم
ويمضي فتحي بن سلامة في تحليل أطروحته حول الرواية، باعتبار أن سلمان رشدي كان يحاول عبر الرواية إعطاء الأدب الحق في رواية الأصول أو القصة الدينية وفق رؤيته الخاصة، وأن "قصة هذا الأصل ينبغي أن لا تبقى مخزونة في أرشيف جماعي لا أحد يمكنه الاقتراب منه، أو لا يخول الاقتراب منه إلا لمن يحق له ذلك"، ويورد نصاً لسلمان رشدي ضمن فيه رده على الحملة التي أثيرت ضده وطالبت برأسه وكفرته، نشره بجريدة ليبيراسيون الفرنسية بتاريخ 13 شباط/فبراير 1992 بعنوان "ألف يوم في منطاد":
"يتفق (المسلمون) على الاعتراف بأن الضجة التي أُثيرت حول "آيات شيطانية" لا تهدف في العمق إلا إلى غاية واحدة: معرفة من الذي له السلطة على القصة الكبرى، قصة تاريخ الإسلام. وربما اتفقوا على الاعتراف بأن هذه السلطة يجب أن يتقاسمها الجميع على قدم المساواة، وبأن روايتي، وإن لم تكن ذات كفاءة في الموضوع، فإنها تمثل محاولة لإعادة قص هذه الحكاية لا تقل أهمية عن المحاولات، وربما اعترفوا بأنني، وإن فشلت، فهناك آخرون سينجحون، لأن العاجزين عن إعادة قص الحكاية التي تهيمن على حياتهم، وعن التفكير في تفكيكها والتندّر بها، وتغييرها بتغيّر الأزمان، هم عاجزون حقاً، فهم لا يستطيعون التفكير بطريقة جديدة".
بول أوستر وسلمان رشدي
ظل بعض المثقفين العرب يتابعون صور سلمان رشدي لسنوات، ويحسدونه على أناقته وعلى الجميلات اللاتي يظهرن من حوله، ويردد أكثرهم تسامحاً: "لقد جعل منه الخميني نجماً عالمياً، لو بقي في الهند لما سمع به أحد".
كل هذا كان ممكناً، لكن موهبة سلمان رشدي كان يمكن أن تظهر حتى لو بقي في الهند، ولولا موهبته لما وصل صدى الرواية إلى الخميني، فقد سبق لسلمان رشدي أن فاز بجوائز ومنها في إيران تحديداً عن روايات سابقة. لكن ما لا يعرفه هؤلاء الذين يحسدونه على إطلالته أنه عاش لأربعين سنة مهدداً بالقتل، والمهدد بالقتل لا يمكن أن يستبعد في إمكانية أن يصفى، وفي أي لحظة. وها هو سلمان رشدي يتعرض للطعن ومحاولة اغتيال صريحة بعد كل هذه العقود، ورغم أن إيران أسقطت ملاحقتها له.
"لقد جعل منه الخميني نجماً عالمياً، لو بقي في الهند لما سمع به أحد"
لم يقدر كاتب/ة على تفكيك معاناة سلمان رشدي والنفاذ إلى وجعه الإنساني إلا صديقه الروائي الأمريكي بول أوستر، الذي كتب تشخيصاً مرعباً في دفتره الأحمر بعنوان "صلاة لأجل سلمان رشدي" يفتتحه بقوله: "عندما جلستُ لأكتبَ هذا الصّباح، أوّل ما فعلته أنّي فكّرتُ في سلمان رشدي. فعلتُ ذلك كلّ صباحٍ لمدّة تقارب أربعة أعوام ونصف العام، وحتّى الآن يشكّل الأمر جزءاً أساسياً من روتيني اليوميّ. ألتقط قلمي، وقبل أن أشرع في الكتابة، أفكر في زميلي الروائيّ في الجانب الآخر من العالَم.
أصلّي بأن يبقى على قيد الحياة لأربع وعشرين ساعة أخرى. أصلّي بأن يبقيه حُماتُه الإنكليز محجوباً عن الأشخاص الّذين يرومونَ قتله -هم نفس الأشخاص الذين سبق وَقَتَلوا أحد مُترجميه وأصابوا آخر-. أكثر من هذا وذاك، أصلّي كي يَحين الوقت الذي لا تعود فيه هذه الصلوات لازمة، وقت يملك فيه سلمان رشدي حرية المشي في شوارع العالم مثلي".
يربط بول أوستر في هذه التدوينة فعل الكتابة بالمغامرة بالحياة، ويكشف أن الكاتب المهدد بالقتل، مهما تجندت الدول وأعتى المؤسسات الأمنية لحمايته، هو شخص سرقت أبسط تفاصيل حياته حتى المشي بحرية.
ويعود أوستر إلى تأمل الوضع الذي يعيش فيه سلمان رشدي، ووصف العبثية التي شيدت هذه الحياة المريرة بوضعها موضع خطر، بالتذكير أن تهمة هذا الرجل أنه ألف كتاباً. ويعتبر أن هذا ما يجعل من الخطر لا يهدد سلمان رشدي فقط، بل يهدد كل من يمتهن الكتابة ويمارسها على أي نحو، وأن كل كاتب يمكن أن يكون مكانه:
"أصلّي لأجل الرّجل كلّ صباحٍ، لكن في قرارة نفسي، أدرك أنّي أصلّي أيضاً لأجل نَفسي. حياته مهدّدة بالخطر لأنّه ألّف كتاباً. تأليف الكتب صنعتي أنا أيضاً، وأدرك أنّه لولا منعطف التاريخ والحظّ الأعمى الخالص، لكُنت مكانه. إن لم يكن اليوم، فربّما غداً. إننا ننتمي إلى نفس الرابطة: الأخوّة السريّة في حالات العزلة، الانقطاع، التقلّب، نقضي، رجالاً ونساء، أفضل أوقاتنا حبيسين في حجراتٍ صغيرة نُصارع كي نضَع الكلمات على صفحة واحدة.
إنّها طريقة غريبة ليعيش المرء حياته، ووحده المرء الذي لم يكن مخيّراً في الأمر سيختارها بصفتها حِرفة. إنّها مضنية للغاية، بخسة للغاية، طافحة بالخيبات أكثر من أن تناسبَ أيّ شخصٍ آخر. المواهب تتنوّع، الطموحات تتنوّع، لكنّ كلّ كاتب جدير سيخبرك الأمر ذاته: كي يكتب المرء عملاً قصصياً، عليه أن يكون حراً ليقول ما يريدُ قوله. لقد مارستُ ذلك مع كلّ كلمة كتبتها وكذلك فعل سلمان رشدي. هذا ما يجعلنا شقيقَين، وهذا ما يجعل مأزقه مأزقي أنا أيضاً".
علّمنا رشدي أن الذين يهدرون دماء المبدعين والمفكرين جهلة وأن الجهلة الذين كلفوهم بذلك ينفذون وصاياهم ولو بعد قرن
غير أن بول أوستر يرى أن الخطر الرمزي يهدد الكتاب كلهم، لكن المحنة الحقيقية يعيشها سلمان وحده، ولذلك يغبطه على شجاعته وتحمله كل هذه السنين العيش في مرمى القناص، فقد ظل سلمان رشدي يقاوم ويكتب، ولم يتخل عن الكتابة التي شكلت لعنته، بل ذهب يطور نفسه من كتاب إلى آخر، بل إن سلمان رشدي لم يكتف بالكتابة بل كان يأخذ بأيدي الكتاب الآخرين الصغار والمغمورين، مقدّماً للعالم نموذجاً غير مسبوق للعطاء الإنساني، كما لو أنه يهدر نفسه من أجل الآخرين.
يقول بول أوستر: "لا أدري كيف يمكنني أن أتصرّف مكانه، لكن يمكنني أن أتصور ذلك، أو على الأقل يمكنني محاولة التصوّر. بكل صراحة، لست على يقين إن كنت مؤهلاً للشجاعة التي أبداها هو. لقد طال الدّمار حياة الرجل، ورغم ذلك واصل فعل الشيء الذي خُلق من أجله، منقولاً من بيتٍ آمن إلى آخر، مفصولاً عن نجله، مطوّقاً بقوات الأمن، ظلّ يذهب إلى مكتبه يومياً ويكتب".
وينهي بول أوستر تدوينته بالكثير من اليأس، فليس في يديه شيء أمام مهنة صديقه إلا الصلاة، ولكنه يعترف أن سلمان رشدي علمه أن الحرية ليست مسألة بديهية وأنها معرضة للخطر في أي وقت، وأن الكتابة في وجه من وجوهها نضال، وفي إمكانها أن تتحوّل هي ذاتها تهمة تهدد حياة مرتكبها.
علمنا سلمان رشدي أن الكتابة ليست سياحة وعلينا أن نتسلح بالشجاعة ونضع حياتنا موضع الخطر إذا اخترنا أن نكون كتّاباً
يقول: "يناضل سلمان رشدي من أجل حياته. تواصل النّضال قرابة نصف عقد من الزمن، ولم نقترب من حلّ منذ إعلان الفتوى. مثل آخرين عديدين، أتمنّى لو كان ثمّة شيء في مقدوري فعلُه لأساعد. الإحباط يتراكم، اليأس يثبت، لكن، وحيث أنّي لا أملك القوة ولا النفوذ للتأثير على قرارات الحكومات الأجنبية، فإنّ أقصى ما في وسعي فعله هو أن أصلّي لأجله. إنّه يحمل عبئنا جميعاً، ولم يعد في مقدوري التفكير في ما أقوم به دون أن أفكّر فيه.
لقد ركّزت محنته من تركيزي، جعلتني أعيد مراجعة معتقداتي، علّمتني ألاّ أتعامل مع الحريّة التي أتمتّع بها كمسألة بديهيّة. إنّني أدعم سلمان رشدي في نضاله من أجل الظّفر بحياته، لكن الحقيقة أنّه هو أيضاً دعمني. بودّي أن أشكره على ذلك. في كلّ مرّة أرفع فيها قلمي، بودّي أن أشكره".
ماذا يمكن أن نتعلم من سلمان رشدي؟
علمنا سلمان رشدي أن الكتابة ليست سياحة وعلينا أن نتسلح بالشجاعة ونضع حياتنا موضع الخطر إذا اخترنا أن نكون كتاباً.
علمنا رشدي أن الفنان لا يتنازل عن حريته حتى لو غرست في عنقه الخناجر ولا يهلل لطاغية.
علمنا رشدي أن الأدب الحقيقي مرعب للجهل وقادته، وأنه يهز عرش الطغاة.
علمنا رشدي أن الذين يهدرون دماء المبدعين والمفكرين جهلة، وأن الجهلة الذين كلفوهم بذلك ينفذون وصاياهم ولو بعد قرن.
علمنا رشدي أن نموت أحراراً على أن نعيش عبيداً للأنظمة وللجهلة والإرهابيين.
علمنا رشدي أن الكتابة أكبر من التحبير، ولا يقدر على محوها التكبير.
علمنا رشدي أن التفكير أعظم من التكفير.
علمنا رشدي أن المبدع الحقيقي لا ترهبه جيوش العالم ولا حشوده المجنونة، وأن الموت حدث بسيط من الحياة المعقدة التي نحياها إذا كنا أحراراً.
علمنا رشدي أن الكتابة حرية حتى الموت، وأن القلم إذا رفع تشرئب معه الرقبة لسكاكين الذبح وخناجر الغرس دون خوف.
علمنا رشدي كما نجيب محفوظ أن القاتل بسكينه يسكن تحت أذن الكاتب، يصغي إلى نبض الكلمات والكاتب الحقيقي وحده الذي يتلقى الطعنة ويسامح.
علمنا رشدي أنه من الغباء أن نتصور أن من أراد اغتياله في لندن سنة 1989، والذي طعنه في نيويورك هذه الأيام، والذي قتل بختي بن عودة والطاهر جلوت وعلولة في الجزائر، وفرج فودة في مصر، والذي غرز سكيناً في رقبة محفوظ، والذي لاحق نصر حامد أبو زيد سنيناً، أشخاص مختلفون، فكلهم واحد، كما آلة التكفير والتحريض واحدة جاءت من الخميني أو من صدام حسين، وجاءت من هتلر أو من ستالين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين