شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"هل ارتاح الخميني في قبره"... سلمان رشدي في دمائه وردود الفعل العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

السبت 13 أغسطس 202201:13 م

كيف هي لحظة تحول الخوف الكبير إلى واقع؟ اللحظة التي تتحقق بها أكبر هواجس الإنسان التي عاشها لأكثر من ثلاثين عاماً.

منذ العام 1989 أي منذ كان في الـ42 من عمره عاش الروائي البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي أيّامه وهو يتلفت إلى الوراء؛ حين أصدر آية الله الخميني فتوى هدر دمه مشفوعة بمكافأة مالية تقارب ثلاثة ملايين دولار للقاتل. في عامهِ الـ75 تحول الكابوس إلى حقيقة، ونظر الرجل في عيني قاتله.

واليوم هو متواجد تحت العناية الطبية الحثيثة، ويخضع للتنفس الاصطناعي بعدما أعلن مدير أعماله أن "حالته الصحية ليست جيدة، وقد يفقد إحدى عينية إضافة إلى إصابة في الكبد قد تتسبب بتلفه نسبياً". 

لعل رشدي عانى من نوبات الذعر، أو من جنون الارتياب في الأماكن العامة، أو من الجاثوم والكوابيس، من يعرف كيف هي حياة إنسان مهدّد بالقتل في كل لحظة ومن أي شخص وفي أي مكان، ومن سوى رشدي يعلم إن كان تخيّلاته لطريقة اغتياله تشبه ما عاشه لحظتها.

حياة من الخوف

عن حياة من الذعر كتب عدي الزعبي قائلاً:

"عاش الرجل وحيداً مختفياً خفياً: بدون أصدقاء، بدون عائلة، بدون أهل، بدون بلد، بدون وجه. عقود مضت وهو يكتب ويعبر عن نفسه، بدون أن يظهر. في العنق، بسكين: بالضبط مثل نجيب محفوظ. ولم يتغير رشدي: بقي مصراً على موقفه الواضح والصارم: نقد الغرب بعنف والتراث الذي يثقلنا. نقد الهندوسية والإسلام- لا فرق عنده. ولم يتحول رشدي إلى اليمين المتطرف، لم يتحول إلى بوق ضد الإسلام، كأنه قديس"

مذ كان في الـ42 من عمره عاش الروائي الهندي سلمان رشدي أيّامه وهو يتلفت إلى الوراء، في الـ75 تحول الكابوس إلى حقيقة، ونظر الرجل في عيني قاتله

الصحافي رافد الجبوري تحدث عن الأرجحة بين الأمان واللاأمان في الحياة اليومية لرشدي، فكتب:

"عاش سلمان رشدي متخفيا وتحت حماية مشددة من الشرطة البريطانية لأكثر من عشر سنين. قُتل أحد ناشري الرواية لكن رشدي لم يتعرض لهجوم مباشر، وبعد أن تعهدت إيران لبريطانيا نهاية التسعينيات بأنها لن تتابع دعم تنفيذ فتوى خميني خفت الإجراءات الأمنية حول رشدي، انتقل للعيش في نيويورك في السنوات العشرين الماضية وبدا أن الأمور قد هدأت عدا مواسم معينة، لكن شبح التهديد بحدوث هجوم عليه كان دائماً حاضراً".

انتقل للعيش في نيويورك في السنوات العشرين الماضية وبدا أن الأمور قد هدأت عدا مواسم معينة، لكن شبح التهديد بحدوث هجوم عليه كان دائماً حاضراً"

كثير من الكتاب العرب الذين قرّروا الإعلان صراحةً أو تلميحاً عن مواقفهم من الدين أو من التطرف الديني وصلتهم عدوى الذعر ليلة الجمعة 12 آب/ أغسطس 2022 مع إعلان الخبر، لعلهم تخيّلوا أنفسهم مكان رشدي، فما حدث مع الرجل يقول ببساطة إن فتوى هدر الدم لا تموت وإن مات من أصدرها، وإن الديكتاتور قادر على القتل حتى وهو ميت.

والأسوأ.. إذا لم يكن رشدي آمناً وهو تحت الحماية في بلد كالولايات المتحدة، هل سيكون الكاتب التنويري العربي آمناً في بلده الأم وبدون حماية؟ 

من الذي ارتاح في قبره؟ 

كثيرة هي التعليقات على الخبر التي أشارت إلى أن الخميني قد ارتاح في قبره، يقابلها إرجاع المدافعين عن رشدي ممن أدانوا الحادثة القتل إلى نفس الإسم، نشر الكاتب اليمني علي المقري على صفحته:

"هذا سلوك يجب أن يدان، فهو لم يعد مقبولاً في عالم يقدّس حرّية التفكير والتعبير، ولا يدل إلاّ على همجية فاعله وهمجية الأدبيات الدينية التي يتبعها هذا المعتوه وتحرّض على قتل كل من ينتقد أو يختلف في الرأي، لتتوقف هذه الجرائم بحق الفكر والتفكير والتي بدأها الخميني بفتواه وامتدت مع القاعدة وداعش والسلطات العربية التي صمتت على محاكمة وسجن وقتل المفكرين والأدباء".

إذا لم يكن رشدي آمناً وهو تحت الحماية في بلد كالولايات المتحدة، هل سيكون الكاتب التنويري العربي آمناً في بلده الأم وبدون حماية؟

أما المفكر الفلسطيني حسن خضر فأشار في صفحته إلى المفارقة التي تحدث حين يصبح الراوي نفسه هو الرواية، وإلى خاتمة الأحداث التي تليق بقصة كقصة رشدي، يقول:

"يُعيد رشدي الأدب إلى مصادره الأولى، ويفسّر قدرته على البقاء، وما قد يعتري الحكايات من عطب، أو يتجلى، أحياناً، في صورة إبداع رفيع على يد ميكانيكي ماهر، ابتكر قطعة غيار جديدة، وأعاد الحياة إلى حكاية فسدت، في الاعتداء عليه ما يُفسّر كيف تفسد الحكايات، ولماذا يجف الماء في عروق الحياة، وكيف يصير الكاتب نفسه قطعة غيار في حكاية أقدم منه، ويمنح بحرها بعض ما فيه من ماء لتعوم".

لتتوقف هذه الجرائم بحق الفكر والتفكير والتي بدأها الخميني بفتواه وامتدت مع القاعدة وداعش والسلطات العربية التي صمتت على محاكمة وسجن وقتل المفكرين والأدباء

توالت ردود الفعل العربية والإسلامية، فرق شاسع ويكاد يكون متناقضاً ما بين أحاديث النخب وأحاديث العامّة، بين القلة التي نشرت الخبر على صفحاتها مندّدة ومستنكرة وبين الآلاف ممن علّقوا على مواقع الأخبار العربية الأكثر متابعة بأسمائهم الصريحة محتفين بالقتل مباركين للقاتل محرضين على المزيد ومرددين "ولو بعد حين".

الثأر... العاقبة... القصاص

الروائية المصرية ميرال الطحاوي أشارت فيما كتبته إلى حالة الهيجان التي رافقت المسلمين ضد رشدي منذ نشر الرواية، والتي من الواضح أنها لم تخفت مع الزمن، قالت: "دخلت رواية سلمان رشدي التاريخ من عدة أبواب على نحو يبعد أنه كان بحسبان كاتبها، وإلا ما كان كتبها، وإن كتبها ما كان نشرها، أو أنه كان يوصي أن تنشر بعد مماته. دخلت الرواية التاريخ باعتبارها العمل الأدبي الذي أثار حفيظة مسلمي العالم بما لم يسبق له مثيل، جاعلا بسطاء المؤمنين منهم في عديد من البلاد يخرجون في تظاهرات عنيفة ويتعرضون لرصاصات قاتلة من أجل كتاب نُشر على بعد آلاف الأميال منهم في لغة لا يفهمونها ولا يقرؤنها".

على صفحات الفيسبوك للمواقع الإخبارية الأكثر انتشاراً والتابعة للفضائيات الإخبارية جاءت الجمل والآيات والمقولات التالية لتتربع على عرش الأكثر ترديداً: "يمهل ولا يهمل"، "تسلم الأيادي"، "الله أكبر"، "الصلاة والسلام على سيد المرسلين"، "إلا رسول الله"، "اللهّم أنصر الإسلام والمسلمين"، "فَإِنَّ حِزْبَ اللَّه هُم الْغالبون"، "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"، بالإضافة إلى الآلاف من ردود الفعل الضاحكة على الخبر.

لكن اللافت حقاً هو عدد التعليقات المصرية التي تتمنى لخالد منتصر، إسلام البحيري، وبالأخص وأكثر من سواه إبراهيم عيسى ذات "العاقبة" و"القصاص" وبنفَس ثأري واضح.

اللافت حقاً هو عدد التعليقات المصرية التي تتمنى لخالد منتصر، إسلام البحيري، وبالأخص وأكثر من سواه إبراهيم عيسى ذات "العاقبة" و"القصاص" 

بينما ظهرت التعليقات على المواقع الفرنسية والبريطانية التي تبث بالعربية أقل اتفاقاً وإن كانت الشماتة والسعادة قد غلبتا على الطابع العام، حيث برزت بعض التعليقات القليلة المستنكرة والتي جوبهَ أصحابها بالتنديد والتنمر في الردود.

حين يتفق السنة والشيعة

الغريب أن فتوى القتل التي أصدرها الخميني في العام 1989 لم تأخذ طابعاً شيعياً، بل إسلامياً واسعاً، إذ يبدو أن الاتفاق على منع الرواية وصاحبها من الوجود ارتفعا فوق الحالة الطائفية، وهو ما لفتت إليه الشاعرة السورية رشا عمران، وما بدا جلياً كذلك في التعليقات المباركة بالخبر على مواقع الأخبار، قالت:

"المذهبان السني والشيعي يتفقان على موضع السكين: الرقبة، لقطع شرايين الدم التي تغذي الدماغ حيث تكمن الخطورة".

الكاتب اليمني حسين الوادعي نشر على صفحته عن رواية "آيات شيطانية" وعن رشدي: "رواية متعددة المستويات ومتعددة الأزمان، وتحفة فنية في نقد المقدس والسخرية منه ونزع القداسة عن المقدس التاريخي والديني. ليست عن الإسلام ، لكنها عن شخص مسلم يحاول تصفية حساباته مع جذور شرقية إسلامية تكبحه، وتحديات غربية حديثة تفقده فرديته وشخصيته... رشدي هو احد رموز رواية "ما بعد الاستعمار" بنقده الحاد للغرب وتناقضاته، ونقده الذي لا  يكل للأصولية الدينية الإسلامية".

حين تسيل الدماء تعطي الحالة الدرامية العامة غطاءً شرعياً للأفكار المتطرفة، لا تبدو هذه الأفكار حينها راديكالية كما لو كانت نُشرت في أوقات هادئة؛ بل عاطفية وبمستويات انفعالية تقارب مستوى الحدث نفسه، لكن إن كان لا بد من كلمة لوصف رد الفعل الإسلامي الشعبي على السوشال ميديا في غالبيته فهي ليست "الانفعال" بل "الشماتة".   

أما صفحة كلنا فرج فودة والتي يتابعها حوالي ربع مليون شخص، فنقلت عن الكاتب المصري محمود قاسم قوله: "رجل في السبعين من عمره لا يملك إلا القلم والرأي وفقط، استخدم ذلك فيما تراه ضدّ دينك كيف ترد عليه؟ هل ترد بنفس سلاحه وبنفس القلم وبنفس الرأي؟ أم ترد عليه بالسيف والدم ؟ أي رسالة ترسل عن الدين عندما تنتشر في العالم صورة كاتب غارق في الدماء بعدما طعنه شخص مسلم؟ الإسلام دين عملاق لن يهدمه أو يؤثر عليه كتاب أو رواية أو رأي، لو كان للدين أعداء حقا فهم هؤلاء الزاعقين الناعقين التكفيريين اللذين جعلوا من الدين مطية لتنفيذ رغباتهم الغير سوية وجعل كل من في العالم يعاني من  تلك الأوهام النفسية".

فرج فودة، نجيب محفوظ، مهدي عامل، حسين مروة، شكري بلعيد، ناهض حتر، 12 شخصاً من شارل إبدو... هؤلاء تم اغتيالهم أو محاولة اغتيالهم لأسباب دينية، تكفيرية أو بسبب فتاوى بهدر الدم

فرج فودة، نجيب محفوظ، حسين مروة، مهدي عامل، شكري بلعيد، ناهض حتر، 12 شخصاً من شارل إبدو، هؤلاء وغيرهم الكثير في الجزائر وسوريا والبلاد العربية تم اغتيالهم أو محاولة اغتيالهم لأسباب دينية، تكفيرية أو بسبب فتاوى بهدر الدم.

الرسالة المختصرة والمكتوبة بالدم تقول إن ثمن حرية الرأي والتعبير حين تُمارس في تفكيك الخطاب الديني أو تجديده أو استخدامه _كما في حالة رشدي_ قد يكون باهظاً، وقد يصل في بعض الأحيان إلى تقييد حياة كاملة بالخوف قبل إنهائها بالقتل.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image