شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
اعترافات مرسال الغرام... الصغير الذي كان ينقل رسائل الحب وأزاحه الموبايل عن عرشه

اعترافات مرسال الغرام... الصغير الذي كان ينقل رسائل الحب وأزاحه الموبايل عن عرشه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 15 أغسطس 202201:45 م

من الستينيات حتى أواخر التسعينيات راج تبادل الرسائل المكتوبة بين العشاق، الذين كانوا يتبارون في ابتكار أفضل الوسائل للتعبير عن اللطف والحب والرقة كاستخدام القلم المُعطّر والخط الجميل والورق المزركش بقلوب الحب. وكثيراً ما لجأ العاشق لاحقاً إلى صديقه الشاعر ليزوده أجمل الكلمات، وإلى صديقه صاحب الخط الجميل ليكتبها قبل إغلاق مغلف الرسالة مع رشة من العطر، لتأتي اللحظة الأخطر وهي تسليم المغلف إلى مرسال الغرام.

وهذه بعض اعترافاته

صغير ذكي وكتوم

مرسال الغرام هو صبي فطن في الحيّ مفعم بالحركة والحنكة، وقادر على حفظ الأسرار وعبور بوابات المنازل دون أن يثير ريبة الأخ والأب والأم ليعطي الرسالة للحبيبة ويغادر. 

كان بريد العشاق يشعل ثلاث حواس هي الشم واللمس والبصر، وفي بعض الرسائل يتضمن المغلف "شريط كاسيت" يحوي أغنيات جمعها العاشق بنفسه لتُعبّر عن حالته العاطفية. رسالة الحب هذه كانت وراء إفراز أدرينالين الخوف والشوق، وكان الاحتفاظ بها تحصيلاً حاصلاً. ولو أفرجت أمهاتنا وآباؤنا عن رسائلهم لشاهدنا كلاماً عذباً وروائحاً زكية يحتفظون بها حتى اليوم. 

مرسال الغرام هو صبي فطن في الحيّ مفعم بالحركة والحنكة، وقادر على حفظ الأسرار وعبور بوابات المنازل دون أن يثير ريبة الأخ والأب والأم ليعطي الرسالة للحبيبة ويغادر

يظهر حضور الرسالة في تلك الفترة بتغنيّ أشهر فنانين العالم العربي بها مثل فيروز في "يا مرسال المراسيل"، وصباح فخري برائعته "ابعتلي جواب"، و"تلك الرسائل" لطلال مدّاح.

افتتان بمرحلة ما بعد محو الأمية

كانت رسائل الحب في الأردن افتتاناً مباشراً بالتعليم الذي انتشر في مجتمعات عانت طويلاً من الأمية. كان السحر في الرسالة هو استطاعة طرفي العلاقة قراءة الحروف، والإبصار بعد ظلام الاحتلال العثماني الذي أخّر شعوب المنطقة عن فك حروف الحب.

جيل الستينيات والسبعينيات هم من تبادل الرسائل بكل أريحية لأن الأم والأب في تلك المرحلة كانا أميين وهم من أصبحوا لاحقاً حراس القلوب الذين أحرقوا العديد من رسائل جيل الثمانينيات والتسعينيات على وقع الكرباج وفرض الحجاب ولبس الجلباب، بل وصل الأمر بالبعض إلى حرمان الفتيات من الدراسة.

بريد العُشاق كان حِكراً على جيل فتي عبّر عن حُبّه بالقلم والورقة، فكانوا أكثر من عشاق، كانوا عنواناً لمرحلة التعليم وبداية عصر جديد.

سقوط الرومانسية وانتقال الرسالة من الورق إلى الموبايل

كنت من المحظوظين الذين عايشوا تفاصيل حب التسعينيات أو بعبارة أدق حب ما قبل الثورة التكنولوجية. كنتُ مرسال الغرام في ثلاث قصص حب في قريتي، وبعد أن كبرت قليلاً وبحكم خبرتي أشرفتُ على كتابة قصائد ورسائل حب لبعض الأصدقاء، فقد كان العاشق أقرب لكونه عريس "الشلّة" التي تتحول كلّها لجواسيس يعملون لصالحه ويرصدون تحركات الفتاة وعائلتها. 

عندما بدأ تنافس شركات الاتصالات انخفضت تعرفة الاتصال في الأردن، حينها تحول الهاتف الخلوي من جهاز يستخدمه الأثرياء إلى جهاز ضروري لكل فرد في العائلة. في هذه المرحلة من بداية الألفية الثالثة توقّف البحث في الحي عن شاعر الحي إلى البحث عن موظف أمن وقائي يأتي برقم الفتاة. كانت هذه انعطافة الحب الأكبر في الأردن. وتحول العاشق من شاب لطيف إلى شخص من جهة مهمة قادر على إحضار أرقام الفتيات. 

في بداية الألفية الثالثة توقّف البحث عن شاعر إلى البحث عن موظف أمن وقائي يأتي برقم الفتاة

انتشرت مكالمات الإزعاج، وصرنا كلّما تمكن صديق من شراء موبايل ننتظر مكالمته التي يخبرنا فيها أنه "مسؤول أمني كبير"، لعلّ السبب هو أن "الموبايل" بات يتجول معنا ويدخل غرفنا دون أن يكون له أي استخدام، فصارت مهمته أن يملأ أوقات فراغنا. لذا انتشرت المكالمات التي لا تحتوي إلا على الكلام الفارغ  "كيفك، طمني عنك، حواليك ارقام بنات...." ثم انتشرت المعايدات الجاهزة ومحاولات زركشة الرسائل وإضافة الزهور والإطارات.

في هذه المرحلة كانت هناك ظواهر تنتشر لم نكن ننتبه لها مثل ممارسة الجنس على الهاتف، ودعارة الهاتف، والجنس مقابل بطاقة خلوية. والحقيقة أن هذا الجيل كان يتحضّر لاقتحام زمن الحب عبر الإنترنت، فبدأنا نسمع عن حالات زواج عبر الإنترنت. في ذلك الزمن كانت صدمة للمجتمع "فلان تعرف على وحدة على النت وتجوزها".

 صارت وسائل الاتصال والتواصل تقترب أكثر فأكثر من علاقاتنا الحميمة فتبعدنا خطوة أكبر عن واقعنا، وفي العام 2003 سمعنا للمرة الأولى أن "العالم قرية صغيرة".

كانت رسائل الحب في الأردن افتتاناً مباشراً بالتعليم الذي انتشر في مجتمعات عانت طويلاً من الأمية، كان السحر في الرسالة هو استطاعة طرفي العلاقة قراءة الحروف

في نفس الفترة كان الأردن يشهد بداية "عصر الدغيتال" من قيادات أعلنت ثورتها لتطوير الاردن عبر عولمة المؤسسات وخصخصتها واتباع كل الشروط الدولية المفروضة عليه.

كانت الشروط تحتم حوسبة التعليم في الأردن وبدأت منذ العام 2003 إنشاء صفوف باسم "مختبرات حاسوب" في المدارس  الحكومية وتم إدخال مادة الحاسوب في المناهج التعليمية، وفي العام 2005 دخلت هذه المادة في اختبارات الثانوية العامة وقبلها بعام تأسس فرع تعليمي يعلم مهارات استخدام الحاسب الآلي وسمي بـ"الإدارة المعلوماتية" .

تم ترويج الحاسوب حينها على أنه محاربة للأمية الجديدة، وفعلاً أنفقت الملايين على تلقين المعلمين والموظفين الحكوميين مهارات استخدام الحاسوب، ونتيجة لهذا أصبح اقتناء كمبيوتر في المنازل مظهر رقي وتقدّم، ولا غرابة أن العديد من العائلات كانت في البداية تضعه في غرف الضيوف.

كان العاشق أقرب لكونه عريس "الشلّة" التي تتحول كلّها لجواسيس يعملون لصالحه ويرصدون تحركات الفتاة وعائلتها

أشبعونا حديثاً عن الكمبيوتر وعن دوره في دخول المستقبل، وفعلاً اشترينا هذا الجهاز وفجأة وجدناه لا يفيد بأي شيء سوى في ألعاب الكمبيوتر. 

صرنا إذا أُغلقت هواتفنا نتيجة فراغ البطارية نشعر بضياع وانقطاع، ينشغل بال الأم التي تحمل هاتفها وتحاول الاتصال بابنها دون جدوى "وينو الولد"، كما انتشرت فكرة تفتيش الهواتف بحثاً عن أفلام إباحية وصور عارية أو رسائل غرامية بدلاً من تفتيش جيوبنا كما في السابق بحثاً عن علب سجائر أو شم أصابعنا. آنذاك كنا نستخدم أسماءً وهمية لتخزين أرقام الصديقات.

هذه البلاستيكة أمست مخزن أسرارنا، لهذا انتشر تنزيل البرامج التي تشفر الأرقام وتخفي الصور والأفلام. ومع انتشار الهواتف الحديثة بالمسميات القديمة "الدب، الدمعة، الهمر، الشيخ زايد... إلخ" بتنا ننسى أن الهاتف للتواصل بعد أن تحوّل لمظهر اجتماعي، وصار الشباب والفتيات يتجولون في الأسواق وهم يحملون هواتفهم وهي تصدح بالأغاني التي تعبر عن حالتهم العاطفية، وراجت في بداية الألفية أغنيات مصطفى كامل عن الخيانة، والسبب هو موضوعها عن انتشار الخيانات العاطفية في علاقات الهواتف.

انتشرت فكرة تفتيش الهواتف بحثاً عن أفلام إباحية أو رسائل غرامية بدلاً من تفتيش جيوبنا كما في السابق بحثاً عن علب سجائر.

على الهاتف كان لا بد أن تكون النغمة إمّا آية قرآنية أو نشيداً دينياً وربما أغنية أجنبية أو لمصطفى كامل، هي فوضى المشاعر وضياع البوصلة التي دخلنا بها في العام 2008 وكانت بشائر عصر فيسبوك بدأت بالظهور. 

غرف شات، فضائح ممثلات، فيديوهات صدام حسين

بعد أن كان استخدام الإنترنت محصوراً في جهاز الكمبيوتر الذي كان وجوده في المنزل عبارة عن نكبة مالية للعائلة، انتشرت مقاهي الإنترنت بنصف دينار للساعة بين طلاب مصروفهم اليومي لا يتجاوز الدينار (1.4 دولار) في أفضل الحالات. 

ليت هناك دراسة تخبرنا كم كان عدد الهواتف التي تحتوي على صور صدام حسين وأغنية "روحي نخله بتكريت". لم تكن الشعوب العربية قد استوعبت مشهد إعدام صدام، وكان لانتشار مقطع فيديو مسرب دور في شحن الخطاب الطائفي مما أعطى صدام حسين هالة في ذهنية بعض العرب "السُنة" حينذاك.

مع إعدام صدام حسين سقطت قداسة الحاكم العربي، فالصورة الأسطورية التي أنفق هذا "البطل المغوار" ملايين الدولارات في بنائها سقطت مع سقوط تمثاله وضربه بالنعال، وبعدها تم تداول فيديو على الموبايلات يخرج فيه صدام من حفرة بمنظر رث كثيف اللحية، وصورة أخرى له وهو يغسل ثيابه في مشهد يدعو للبؤس. كان هذا القائد ذو الهندام الرائع وصاحب البذلات العسكرية ذات النياشين العديدة والبطل الذي يطلق النار بيد واحدة.

احتجنا الإنترنت في هذه الفترة بقوة لنشاهد فضائح القادة، فهذا الصندوق يحتوي على العديد من الفضائح عن العائلات الحاكمة ويحتوي أيضاً على مواقع إباحية لا يُرى محتواها في أي إعلام، بالإضافة  إلى غرف الدردشة، ورواج ما سمي أفلاماً "جنسية" للفنانين والفنانات.

ثم يبدأ عصر فيسبوك، وتويتر، وانستغرام وتكاثر منصات التواصل الاجتماعي، ولنشهد قوة لم نعرف بوجودها من إسقاط الأنظمة إلى اغتيال الشخصيات أو خنق المؤثرين.

عودٌ على بدء، يمكن القول إن الفضائحي سواء الجنسي أو التلصصي أو مشاهدة الزعماء حلّ محل الهوس الرومانسي ونشوة الكتابة اللذين سادا في هذه البلاد منذ نصف قرن. فرق كبير بين أثر محو الأمية بالقراءة ومحو الأمية بتعليم الكمبيوتر. فرق أخلاقي بالأساس.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image