منذ بضعة أشهر، أضاعت صديقتي (27 عاماً) هاتفها الذكي، وأذكر يومها كيف انفجرت في موجة بكاء بعدما سئمت البحث عليه من دون جدوى، حاولت أمها تهدئتها إلا أنها كانت منهارة كمن فقد أقرب الأقرباء إلى قلبه، وعندما انزعج شقيقها الذي يكبرها في السنّ من تصرفاتها "الطفولية" على حدّ قوله، صاح بها: "لا داعي لكل هذه الهستيريا...إنه مجرّد هاتف"، غير أنها أجابته بنبرةٍ حازمة: "قد يكون مجرّد هاتف بالنسبة لك إلا أنه العالم بالنسبة لي...أشعر الآن بالفراغ وبأنني منعزلة عن العالم".
قد يبدو جواب جودي (اسم مستعار) مبالغٌ به بعض الشيء إلا أن من يعرفها جيداً كان يدرك مدى تعلّقها بهاتفها، إذ كانت بالفعل تقضي معظم وقتها على هذا الجهاز، وحتى خلال جلساتنا مع الأصدقاء لطالما قلنا لها من باب الدعابة: "إنتي دايماً مش معنا...عايشي بغير عالم".
قد لا تكون صديقتي الوحيدة التي تشعر بالضياع والفراغ في حال أضاعت هاتفها الذكي، إذ إنه في هذا الزمن قد يكون من الصعب العثور على شخصٍ يتجوّل من دون هاتفه والذي بات يحلّ مكان عدة أمور: فهو يُستخدم كمنبّه، كآلة حاسبة، كوسيلة فعّالة للتواصل، لتدوين الملاحظات، لتتبع الدورة الشهرية، لالتقاط الصور، للردّ على البريد الإلكتروني، وغيرها من الاستخدامات التي تجعل معظم الناس غير قادرين على الاستغناء عنه لا بل مدمنين عليه.
معجزة في عالم التكنولوجيا
تذكرون الأيام التي ضربت فيها الهواتف المحمولة السوق لأول مرة؟ تذكرون كيف كان يُنظر إلى هذا الجهاز الصغير على أنه "معجزة" في عالم التكنولوجيا، لكونه جعل الناس غير مضطرين للمكوث في المنزل من أجل انتظار مكالمةٍ من أحد على الخط الثابت، إذ بات بوسعهم التنقل والتحدث على الهاتف المحمول في أيّ مكانٍ من العالم وفي أيّ وقت.
في السابق كان استخدام الهواتف المحمولة يقتصر على الاتصال وإرسال الرسائل النصية، إلا أنه بعد فترةٍ وجيزةٍ حدثت تطورات سريعة في عالم التكنولوجيا، وتم طرح هواتف ذكية تتميز بالعديد من الخصائص والخدمات، الأمر الذي جعلنا نعتمد عليها لدرجةٍ بات من الصعب تخيّل العالم الحديث من دونها، فبحسب Statista يوجد اليوم 2.71 مليار مستخدم للهواتف الذكية في العالم، هذه البيانات تعني أنه في عالم الشبكات اللاسلكية يمتلك 35.13% من سكان العالم هاتفاً ذكياً، هذا وتمتلك الإمارات العربية المتحدة أعلى نسبة انتشار للهواتف الذكية (82.2% من سكانها لديهم هاتف ذكي)، في حين أن بنغلادش تسجل أدنى نسبة (5.40%)، وفق ما ذكره موقع bank my cell.
الإدمان على الهواتف الذكية
بمعزل عن الأرقام والإحصاءات، حاولنا في موقع رصيف22 معرفة العلاقة الوثيقة التي تجمع البعض بهاتفه الذكي، فطرحنا على عددٍ من الأشخاص السؤال التالي: ماذا تشعرون في حال فقدتم فجأة هاتفكم الذكي؟ فكانت الإجابات بمعظمها متوقعة.
"بحس إني بضيع وأكيد رح روح دغري واشتري هاتف جديد"، هذا ما قالته آمال التي تعمل في حقل الهندسة لرصيف22، مشيرةً إلى أنها بحكم عملها تعتمد كثيراً على الهاتف الذكي، كما أنها تستخدمه بكثرةٍ للإطمئنان على طفلها الصغير عندما يكون برفقة المربية في المنزل، هذا وكشفت أن هاتفها موصول بكاميرات مزروعة في المنزل لكي تراقب تحركات طفلها أثناء وجودها في الخارج.
بدورها أكدت غنوة، التي تعمل في مجال الطب، أنها لا تتخيل نفسها للحظة من دون الهاتف: "ما بفهم كيف كانوا الناس عايشين من قبل بلا موبايل...انا أول شي بعملوا وقتا أخرج من بيتي إنو إتأكد إني ما نسيتو، لأنو صارت مرة معي وما بقدر خبر قديه حسيت النهار طويل وما عم يخلص" وتضيف لرصيف22: "أنا ما بعتبر حالي مدمنة على الmobile بس كمان ما فيي إنكر إنو صار جزء رئيسي من حياتي متلو متل أي شي مهم ما فينا نستغني عنّو بالأخص وقتا نكون برات البيت...تخايلي إضهر مثلاً من بيتي بلا ما ألبس!".
قد تبدو الحياة من دون الهاتف الذكي مستحيلة لدى الكثير من الأشخاص والذين يعتبرون أن الهواتف الذكية جعلت حياتهم أسهل وأفضل، غير أن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا قد يصل أحياناً لحدّ الإدمان، وهو حال روني (اسم مستعار) والذي يعترف لرصيف22 بأنه مدمن على شراء آخر إصدارات الهاتف الذكي، فيقول:"عندي هوس بالموبايل، أول ما ينزل موديل جديد دغري بشتري لو كان سعرو نار"، أما بالنسبة إلى الوقت الذي يبذله على الجهاز، فيقول: "بصراحة بقعد ساعات على الهاتف، بعرف كل التفاصيل التقنية الموجودة فيه، وحتى صرت لاحظ قديه أوقات بزيدها وقتها نكون قاعدين مع أصحابي لأنو ما بكون مركز على أحاديثهم وعم بكبّس ودردش على واتساب، فبصيروا ينكتوا ويقولوا "ارحم اصابيعك بقا"، وإيام بيعصبوا وبياخذو الموبايل مني بس القصة مش بإيدي".
مخاطر
في عصرنا هذا بات الهاتف الذكي كالصديق الحميم الذي يرافقنا منذ لحظة استيقاظنا من النوم لحين نغمض عيوننا في الليل، وفق ما قاله خبير تقنية المعلومات إليوت نون، لموقع رصيف22، مشيراً إلى أنه في السابق كان الناس مندهشين لوجود جهاز لاسلكي في يدهم قادر على أن يحلّ مكان الآلة الحاسبة والكاميرا والمنبه....واعتقدوا حينها أن التكنولوجيا ستقف عند هذا الحدّ، إلا أنه في كل يوم يبرز اختراع جديد وتعديلات تطرأ على شكل الهاتف وخصائصه، هذا ورجّح نون أن تستمر التطورات التكنولوجية في إبهارنا لحدّ مثلاً أن يتم الاستغناء عن الهاتف الذكي الذي نحمله في يدنا ويصبح جزءاً من جسمنا.
قد تبدو الحياة من دون الهاتف الذكي مستحيلة لدى الكثير من الأشخاص والذين يعتبرون أن الهواتف الذكية جعلت حياتهم أسهل وأفضل، غير أن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا قد يصل أحياناً لحدّ الإدمان
بالرغم من الخدمات الكثيرة التي قدمتها التكنولوجيا وتأثيرها الإيجابي في حياة البشر لجهة تقريب المسافات وتسهيل عملية التواصل، إلا أن إليوت حذر في المقابل من مخاطر استخدام الأجهزة الذكية بشكلٍ مفرط، ما يرتب مشاكل جسدية ونفسية، من بينها الاكتئاب، خفض معدل التركيز لدى الإنسان وحتى إحداث تغييرات في شكل الجسم، مستنداً إلى إحدى الدراسات التي تحدثت عن تأثير الهواتف الذكية على شكل الرقبة والأذرع ووضعيات الجلوس والوقوف.
شكل الحياة عندما تختفي الهواتف الذكية
هل تقرأ هذه السطور من خلال هاتفك المحمول؟ على الأرجح أنك تفعل ذلك والآن حاول أن تتخيل كيف سيبدو الأمر في حال اختفى هذا الجهاز من يدك بصورةٍ مفاجئة، هل ستشعر حينها بالوحدة؟ بالفراغ؟ بالكآبة؟ بنوبةٍ من الجنون؟
بهدف تسليط الضوء على الإدمان الإلكتروني الذي نعانيه بعد إقدام الأجهزة الذكية على اجتياح عالمنا، قام المصور الأميركي إيريك بيكرسغيل بالعمل على سلسلةٍ من الصور بعنوان Removed، لتذكيرنا بغرابة الواقع الذي نعيشه، وكيف يؤثر الهاتف الذكي بشكلٍ سلبي على حياتنا وعلى علاقاتنا بمن حولنا.
في كل صورةٍ من هذه السلسلة تم "تحرير" الأجهزة الإلكترونية (إزالتها قبل التقاط الصورة من الأشخاص الذين كانوا يستخدمونها) بحيث بات هؤلاء الأفراد يحدقون في كفوف أيديهم أو في المساحات الفارغة بين أيديهم، وغالباً ما يتجاهلون الاشخاص الذين يجلسون معهم.
وعليه ترفع الأجهزة الناقصة الستار على الوضع الغريب والحزين الذي وصل إليه البشر، بحيث بات كلّ فرد منفصلاً عن الشخص الآخر الذي يجلس بجانبه، وأضحت اللقاءات الفعلية شبه معدومة والأحاديث مجتزأة بسبب المكالمات والرسائل النصية التي تصلنا في كل حين، كما أن بعض التطبيقات تسيطر على أدمغتنا وتهدر وقتنا وتجعلنا نفقد القدرة على التركيز، فقد كشفت العديد من الأبحاث أن الهواتف الذكية تجعلنا أكثر قلقاً واكتئاباً، وتؤثر سلباً على جودة حياتنا وعلى علاقاتنا الاجتماعية، بحيث تغرقنا في عالمٍ افتراضي، وتجعلنا في الكثير من الأحيان ننسى كيفية إجراء محادثاتٍ مباشرة، فيكفي أن تذهبوا إلى أي مكانٍ عام حتى تلاحظوا الرؤوس المنحنية وعدد الأشخاص الذين يحدقون في أجهزتهم بدلاً من التحدث مع بعضهم البعض، أما في حال صادفت أعينكم شخصاً ما يحتسي فنجان قهوة وهو يحدق في النافذة، فعلى الأرجح أن يكون هاتفه بحاجةٍ إلى الشحن.
بات كلّ فرد منفصلاً عن الشخص الآخر الذي يجلس بجانبه، وأضحت اللقاءات الفعلية شبه معدومة والأحاديث مجتزأة بسبب المكالمات والرسائل النصية التي تصلنا في كل حين، كما أن بعض التطبيقات تسيطر على أدمغتنا
في الختام لا نريد أن نبدو كأشخاص حالمين ومنفصلين عن واقعنا ونطالب بضرورة التخلي عن الهواتف الذكية والعيش من دونها، بخاصة وأن الهدف من وراء هذه الأجهزة هي جعل حياتنا أسهل وأكثر عملية، إنما يجب علينا أن نبقي في أذهاننا أن هذه الهواتف الذكية هي مجرد أدوات وُجدت لمساعدتنا، وبالتالي يجب علينا أن نُجيد التحكم بها حتى لا نقع في أفخاخها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...