"القرد داخلنا"، "عصر التعاطف"، "القرد والملحد"، "العناق الأخير للإنسان" هذه قائمة مختصرة لعناوين كتب فرانس دو فال-Frans de Waal، عالم القرديات الهولندي، ذي الـ73 عاماً، التي قضى منها عشرات السنين متأملاً سلوك القرديات العليا في الغابات والمحميات وحدائق الحيوان، ليدرس سلوك أقاربنا البعيدين، ونظامهم الحياتي وأسلوب تنظيمهم لأنفسهم، لكن آخر مؤلفاته ذو عنوان ملفت وجدليّ "الاختلاف: الجندر بعيني عالم قرديات"، الكتاب الصادر هذا العام، بغلاف يحمل لوحة "رقص" لهنري ماتيس، بعكس كتبه السابقة التي تحوي صور فوتوغرافيّة لقردة بوضعيات مختلفة.
لا يمكن تجاهل مثل هذا العنوان، خصوصاً حين نقرأ في مقدمته عن تسلل مصطلحات التطور ومقارباته إلى النظريات الثقافية، مصطلحات كـ"الرجل الألفا"، و"غريزة العنف"، و"المرأة القائدة"، وغيرها من المفاهيم التطورية والطبيعيّة التي تستخدم لوصف سلوك البشر الجندري والعلاقة بين الذكور والإناث، ليأتي الكتاب في محاولة لتحليل أثر التراث التطوري والطبيعيّ على نظرية الجندر والنسوية، لا في سبيل تهديمها أو تفكيكها، بل للإشارة إلى المبالغات والإجحاف الممارس من قبل الطرفين، في سبيل الوقوف أمام الظاهرة البشرية الجندريّة بعيداً عن التعميمات، والأهم لطرح فرضية مفادها: إن أردنا فهم أنفسنا، لنلجأ إلى الكائنات الأقرب لنا على الأقل، أي القرديات العليا، لا إلى الذئاب والحشرات والقطط.
يثير الكتاب غضب المتعصبين لنظرية الجندر، ففرانس، وحسب ما يقول، رجل أبيض ذو امتياز، يتربع في مؤسسة أكاديميّة، ويمتلك كلَّ ما يجعله نموذج الرجولة التي تنتج المعرفة المتحيّزة، لكنه لا يقيم لهذا اعتباراً، وينوه له فاصلاً "العلميّ" عن "الشخصي"، خصوصاً أن الامتيازات السابقة لا تعني بالضرورة الكذب أو التلفيق، أو أن يكون الباحث أسير تحديقته الذكورية؛ التهمة التي استفزت فرانس، والتي سبق أن أطلقتها النسوية الشهيرة دونا هارواي في قراءتها لتاريخ التطور وأدبياته، قائلة إن "العلماء" أسرى تحديقتهم وانحيازاتهم الشخصية.
استفادت النظريات الجندرية من العلوم الطبيعية والتطورية، لكنها أجحفت في الاقتباس وحوّلت الرجال إلى حيوانات عنيفة، مغتصبة، قضيبها بيدها سلاح لا يمكن التنازل عنه
يكتب فرانس بثقة العارف والمراقب العلمي الدقيق، لا تعميمات، بل اعتماد على التراث العلميّ، ذاك القائم على المراقبة المحايدة من بعيد، دون تدخل أو تفاعل (دون أدائيّة)، إذ يرى أن أكبر مشكلة واجهت العلوم الإنسانية والاجتماعيّة هي الاستبيانات والمقابلة الشخصية، إذ لا يمكن الثقة بنتائجها، بصورة أدق، لا يمكن الثقة بما يقوله الفرد عن نفسه، بعكس المراقبة من بعيد، أي مراقبة الأطفال وهم يلعبون، البشر وهم يعملون، وهذا ما نتلمسه في كيفية وصفه للـ"إنسان"، يتعامل معه ككائن حيّ، يراقبه لوصف سلوكه ومقارنته لا لتفسيره، متفادياً التحيزات والعصبيات الجندرية، ويؤكد أنه لا يهدف إلى مقارنتنا مع أسلافنا القردة، أو اعتبار سلوكنا انعكاساً لها، بل مقارنة الحقيقة الطبيعيّة، مع المتخيل الجندري عن الحقيقة العلميّة، وأيضاً الإجحاف الطبيعي في التعامل مع الظاهرة الجندريّة، وكأن كلاهما أخطأ بحق الآخر.
يشير فرانس مثلاً أن المقاربة التطورية-الطبيعيّة لا تسلم بتساوي الجنسين، هناك شؤون لا يتساوى بها الذكور والإناث، تلك التي تتعلق بالشكل والوظائف الطبيعيّة وتاريخ التطور، حجم الذكور أكبر لأجل القتال ضد الذكور الآخرين، لا فقط لضرب الإناث والهيمنة عليهنّ. النساء ذوات أحجام أقل، لا لتفادي القتال أو لأنهن أضعف، لكن هذا لا يعني أنهن لسن قادةً في بعض مجتمعات القردة.
هذه الحقائق التطورية خضعت لقراءة مجحفة، إذ اختارت المقاربات الجندرية ما يوافق فرضية الرجال المهيمنين والنساء الضعيفات من التراث الطبيعيّ، لترسيخ حقائق ثقافيّة على أنها ذات أساس تطوري، وهنا يظهر تعصب الثقافة، في أسلوب اختيار النتيجة الطبيعيّة و تعميمها.
يشير فرانس إلى المشكلة السابقة (الاختيار الانتقائي للمعلومات) شارحاً مغالطتها عبر عدة أمثلة، إذ يخبرنا أن مجتمع الشامبانزي الذي يحوي قرداً قائداً، والنساء فيه تابعات، ليس مجتمعاً متحيزاً جنسياً (بعكس ما اتهمته مجموعةٌ من المحاميات في إحدى المحاضرات)، بل تطور بهذا الشكل نتيجة الشروط الطبيعية. ولكن هذه ليست الحقيقة الوحيدة، ففي مجتمعات البونوبوس (أحد أنواع القردة) النساء هن المسيطرات، والعنف أقل، ويُستبدل بالممارسات الجنسية العلنيّة، وهنا المشكلة، فالقراءة الثقافية للتطور أهملت فئاتٍ من القردة، واعتمدت الشامبانزي، واقتبست من سلوكه لتبرير سلوك البشر، في تجاهل للسلالات الأخرى.
الانتقائية السابقة لا تقتصر فقط على الأكاديمية، فالوثائقيات المختلفة التجارية والجدية، تركز على الأنواع التي يظهر فيها العنف بين القردة الذكور بشكل واضح، وتستثني الأنواع التي "تحكم" فيها الإناث، لماذا؟ لأنه من المعيب بثُّ تسجيلات الممارسة الجنسية المتعويّة، والأفضل والأكثر تشويقاً هو نشر تسجيلات القردة الذكور وهي تتشاجر وتقتل بعضها بعضاً.
"الجندر ليس حقيقة، بل ممارسة"؛ هذه العبارة الباتليرية لا تنفي الأثر الطبيعي والتطوري في رسم الاختلاف بين الجنسين، ولكن أعيد إنتاجها في عوالم الثقافة الشعبيّة إلى حدّ خلق اختلاف جوهري بين الاثنين، إذ يسخر فرانس من الكتب التي تدّعي أن الرجال من كوكب والنساء من آخر، وينتقد المقولات التي تروج للاختلاف بين الجنسين بوصفه شأناً ثقافيّاً بحتاً، وأن البيئة هي التي تحدد من نحن، في تجاهلٍ تامٍّ للمكونات الطبيعيّة البشريّة.
ويشير أيضاً إلى سذاجة بعض المقاربات الجندرية وعدم مواكبتها للتراث الطبيعيّ؛ مثلاً مصطلح "الذكر ألفا" قادم من دراسة أنجزت في الأربعينيات على الذئاب، وتحول المصطلح إلى أسلوب لوصف الرجل العنيف، وكيفية تقسيم الرجال لأنفسهم ضمن الجماعة. المغالطة في هذه المقاربة أننا أولاً لا نشبه الذئاب، ثانياً أنه لدى أقربائنا القردة، الموضوع مختلف والتقسيمات أشد اتساعاً، وفي الكثير من مجتمعات القردة هناك "الأنثى ألفا".
ساهمت الممارسات الذكورية الثقافية في تهميش العديد من الحقائق الطبيعية المرتبطة بدور الأنثى وفاعليتها في اختيار الشريك ودفع عجلة التطور وقيادة المجتمع
يشير الكتاب أيضاً إلى أسطورة غريزة العنف لدى الرجال، وكيف تسللت إلى الثقافة الشعبية كما في رواية "ملك الذباب" لوليم غولدينج، وينتقد توظيف هذا المفهوم في عالم البشر والدراسات الجندريّة دون أي أساس علمي. ذات الأمر مع أبراهام ماسلو، عالم النفس الذي استوحى من مشاهدات قليلة لعالم القردة نظريته أو هرمه الذي يفترض أن تحقيق الذات لا يتم إلا بعد إشباع الرغبات الأولية، وهذا خاطئ. في عالم القردة، هناك قادة ومهيمنون رجال ونساء، لكنهم يعتمدون على "الآخرين" بشكل كليّ لتأمين حاجاتهم الأولية.
لا يحاول الكتاب مهاجمة النظريات النسوية بلغته الواثقة والساخرة أحياناً، لكنه يحاول فض التشويش بين قطاعي العلوم التطورية و النظرية الجندريّة، إذ يستعيد دور المرأة التطوري في اختيار شريكها، ونقصد هنا الاختيار الجمالي، وفعالية الإناث في عالم الحيوان ودورهن في اختيار الشريك الذكر، هذه الفاعلية التي لا تظهر بوضوح في المقاربة الجندرية، التي ترى أن الرجال مهيمنون على خيارات النساء المحرومات من المتعة والقوة.
لا ينفي ما سبق دور الرجال السيئ وأثرهم على العلوم الطبيعية، فرجل واحد فقط، سيغموند فرويد، كبح الدراسات حول البظر وتجاهله. وهنا يظهر أثر الثقافة المجحف على العلم الطبيعي، ذات الأثر وظفته بإجحاف بعض النسويات اللاتي يرين أن الاغتصاب غريزة لدى الرجال وشأن تطوري تحول إثره القضيب إلى سلاح بيد الرجل، دون أي إثبات علميّ على هذه النظرية، فإن كان القضيب فعلاً سلاحاً، لما فقد العظمة فيه، ولكان أقل إمتاعاً وأشدَّ إيلاماً كما لدى القطط، وهنا إشارة وانتقاد إلى الكتاب الشهير "التاريخ الطبيعي للاغتصاب" الصادر عام 2000.
الجندر في الدرجة صفر
التوتر السابق بين العلمي والثقافيّ يدفعنا للسؤال، في أي لحظة يبدأ التكوين الجندريّ، ما هو العمر الذي تبدأ فيه سلوكيات الجندر بـ"الترسخ" ويبدأ الدور بالتكون؟ والأهم هل قبلها نحن صفحات بيضاء غير مجندرين؟ لا إجابة عن هذه الأسئلة، إذ لا نعلم بدقة ما هي اللحظة التي تبدأ فيها عملية الجندرة، لكن هذا لا يعني أننا متساوون قبلها، طينة بلا شكل بانتظار أن تنحت، هناك تراث وأثر تطوري في جيناتنا لا يمكن إنكاره، وهذا ما يفسر رؤية الباحث لسلكونا بأنه بسيط، أقل حدية وفرادة مما نظنه نحن، هو يصف ويقارن ويتأكد من التراث العلميّ الإنساني، دون إفراط وتحيز.
مفاهيم "الرجل ألفا" و "الأنثى المظلومة" و"غريزة الاغتصاب"، تنتمي إلى مفاهيم طبيعية غير دقيقة لا يجب تعميمها على عالم البشر
ويضرب مثالاً من اللعب وتجاربه، إذ يعيد النظر في التعميمات التي تقول إن الدمى للبنات والسيارات للفتيان، ويرى أن الأثر الثقافيّ غير منطقي، التفضيل الشخصي وحرية اللعب هي التفسير الأشد يقيناً، بل ويقولها ببساطة، التجارب العلمية حتى الآن (تلك التي تقوم على المراقبة المحايدة جداً) أثبتت أن الفتيات يفضلن الدُّمى، والفتيان يفضلون السيارات مثلاً (ذات الأمر بالمناسبة في عالم القردة)، أما المتخيل الذي تقدمه الدراسات الجندريّة عن كيفية تهيئة الأطفال حسب التربية ليكونوا رجالاً أو نساءً، فليس فيه الدقة الكافية أو إنه لا يكفي للتعميم الصارم.
هناك ما هو مريب في تحديقة "العلم" ذي النتائج الباردة، المنطقيّة جداً، والأحكام التجريبية القطعية التي تعاكس ضجيج وغضب القراءات الجندريّة. فالموضوعات التي يتناولها الكتاب، أي الأفراد، كالقردة، لا يتحدثون عن "أنفسهم"، بل يخضعون للمراقبة واليقين العلميّ، وهذا بالضبط ما يشير إليه فرانس لاحقاً. التعاون بين المقاربة الطبيعية والثقافية قد يغير من أسلوب مقاربتنا للجندر، وتحريره من الإرث التطوري المغلوط أو غير المثبت، ما يفتح المجال أمام مساحات جديدة للذة، وأشكال مختلفة من التنظيم الاجتماعيّ، بعيداً عن أسطورة المجتمع النسويّ السابق على البطريركية، وفي ذات الوقت خارج عنف الذكورة التي لا ترحم رجالاً ولا نساءً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...