شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"يوميات مطلقة"... صرخة احتجاج ضد ظلم القوانين المسيحية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 8 أغسطس 202202:13 م


كتبتُ روايتي الأولى يوميات مطلقة عام 1994، وهي عبارة عن سيرة ذاتية ناقصة ومجللة بالخوف الاجتماعي والديني. لكنها كانت أشبه بصرخة احتجاج ضد ظلم القوانين المسيحية التي تحكم بالهجر لسنوات بين الزوج وزوجته حتى يتم الطلاق. لقد رفعت دعوى الطلاق بعمر 27 سنة وتطلقت بعمر 34! ولم أعش مع زوجي سوى سنة.


حكمت علي المحاكم الروحية المسيحية بالهجر سبع سنوات، عشتها كأنني مُعلقة في فراغ، أي لست متزوجة ولا مُطلقة، وطبعاً كانت حضانة طفلتي لي. عشت هذه السنوات السبع بمشاعر قوية من الإحساس بالغضب وانتهاك الكرامة والظلم، خاصة أن المجتمع الذي أعيش فيه (مدينة اللاذقية) مجتمع محافظ وعقليته متخلفة، إذ ينظرون إلى المطلقة كما لو أنها مُعاقة أو فاشلة، سيئة الحظ ولقمة سائغة لمن يريد اللهو والتسلية.

وتدفّقت على الورق

كنت في بداية عملي كطبيبة اختصاصية في طب العيون، وأملك طموح أن أكون طبيبة ناجحة، لكن لم تكن لدي أيه فكرة أنني سأكون كاتبة، إذ إن دراسة الطب والاختصاص استنزفت جهدي ووقتي، لكنني وجدت نفسي ذات يوم وأنا في السنة الرابعة من الهجر (لست معلقة ولا مطلقة) وابنتي في سنتها الرابعة، أستيقظ مع إحساس فظيع بالاختناق، ولم تكن لدي أيه فكرة ماذا سأفعل بيومي، كان يوماً "ربيعياً" من شهر نيسان/ أبريل، وجدتني بعفوية أحمل أحد دفاتر ابنتي المدرسية، وأذهب إلى شاليه على البحر يملكها والدي، طبعاً في ذلك الزمن لم يكن هناك موبايل وإنترنيت ولا وسائط اتصال حديثة. وجلست من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة بعد الظهر، أتدفق على الورق.

رفعت دعوى الطلاق بعمر 27 سنة وتطلقت بعمر 34! ولم أعش مع زوجي سوى سنة واحدة. حكمت علي المحاكم الروحية المسيحية بالهجر سبع سنوات، عشتها خلالها كأنني مُعلقة في فراغ

كنت أكتب كمن ينهل من بحر، كما لو أن ما أكتبه مسجلاً كله في عقلي، وعملية الكتابة تُشبه تحميض الصورة. كان كل موقف وكل لقطة مُختزناً في عقلي وما الكتابة سوى تظهير للوحة. كنت أشعر بآلام النساء جميعاً وأنا أكتب، وبظلم القوانين وبالنظرة الدونية للمرأة، خاصة المطلقة، وكنت مصممة أن أقاوم هذا الظلم الفظيع لكن دون أن أعرف كيف، فالمجتمع حولي يثرثر وينشر إشاعات ويتسلى بمشاكل وآلام الناس، وكانت هذه الثرثرة تؤلمني جداً، إذ لم تكن لدي خبرة حياتية كافية لأسخر من التافهين.

لم أكن أعرف أن ما كتبته على دفتر ابنتي هو روايتي الأولى، حتى أن الكثيرين لا يصدقون أنني كتبتها في يوم واحد، وكنت قد وضعت لها عنواناً أولياً "أوراق على الجبين"، أي تخيلت أنني جمعت سنوات عمري في علبة تحوي قصاصات ورق، وكل ورقة تروي ما حصل معي خلال عام، لكنني، وحسب رأي الناشر حسين العودات، صاحب دار الأهالي، نصحني أن يكون العنوان "يوميات مطلقة".

قررت أن شعاري في الحياة سيكون: "لا ولاء إلا للحقيقة"، وبأن الكتابة إن لم تكن عملاً ثورياً وهادفاً لتطوير المجتمع ونشر غسيله الوسخ فهي كتابة ناقصة

كنت قد تحديت نفسي بجرأة لم أتوقع أنني أملكها وبشجاعة لا أعرف أين كانت مختبئة في داخلي، لقد انتقدت بحرية كاملة ظلم المحاكم الروحية المسيحية التي تحكم بالهجر لسنوات بين الزوجين، ولا إنسانية هذا الوضع، وحكيت فصلاً أثار الدنيا في اللاذقية ولم يقعدها عن لقاءاتي مع المطران (صاحب الغبطة) الذي كان يعارض الطلاق، مستنداً لعبارة في الإنجيل: "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان"، وكان يسألني ما الذي ينقصك، مهنتك ممتازة كطبيبة عيون وابنتك معك؟ وكم كان يخطر ببالي أن أرد عليه بطريقة مستفزة ووقحة بطريقة تفضح ساديته. كنت ألاحظ أن رجال الدين يتعاملون بسادية وتلذذ مع مصائب النساء.

بين الإذعان لرأي أبي ونشر الرواية

بعد ستة أشهر من النجاح اللافت للرواية، حيث أن كل النساء كن يوقفنني في الطريق ويقلن أنت تتحدثين عنا لكننا لا نملك جرأتك، بعد ستة أشهر صالحني أبي وقرأ في عيني ما قررته مدى حياتي: لا ولاء إلا للحقيقة

ولكن المشكلة التي آلمتني أكثر هي تلك القطيعة التي حلت بيني وبين أبي، أستاذ اللغة العربية الذي كان أول من نبهني أنني أملك موهبة الكتابة، لقد رفض تماماً نشر روايتي "يوميات مطلقة"، فمن الصعب على رجل وأب متصالح مع المجتمع وعلاقته جيدة مع المؤسسة الدينية المسيحية أن تكون لديه ابنة متمردة، وعشت صراعاً قاسياً بين الإذعان لرأي أبي وعدم نشر الرواية وبين نشرها، لكنني قررت أخيراً أن شعاري في الحياة سيكون: "لا ولاء إلا للحقيقة"، وبأن الكتابة إن لم تكن عملاً ثورياً وهادفاً لتطوير المجتمع ونشر غسيله الوسخ فهي كتابة ناقصة.

أذكر ذلك اليوم حين كنت في الباص مسافرة إلى دمشق، وروايتي الأولى في حضني، ونظارتي الشمسية السوداء تخفي دموعي بأنني عصيت أوامر أبي، لكنني كنت سعيدة إذ كنت أحقق ذاتي، وأضع حجر الأساس في بناء شخصيتي، وقد تبينت طريق الخلاص الذي سينقذني من التفاهة والتخلف: الكتابة.

لقد نقلتني الكتابة من ضفة التفاهة واللامعنى والثرثرة إلى عالم غني بالقيم والعدالة والرقي والفن، وكم كنت سعيدة حين تحدث صاحب السيادة في إحدى مواعظ يوم الأحد بألا تقرؤوا "يوميات مطلقة" لهيفاء بيطار، يومها أحسست بالفخر بأن الكنيسة نبذتني كما نبذت جبران خليل جبران وكزانتزاكي.

بعد ستة أشهر من النجاح اللافت للرواية، حيث أن كل النساء كن يوقفنني في الطريق ويقلن أنت تتحدثين عنا لكننا لا نملك جرأتك، بعد ستة أشهر صالحني أبي وقرأ في عيني ما قررته مدى حياتي: لا ولاء إلا للحقيقة.

نُشرت نسخة أولى من هذا المقال في موقع جريدة مراجعات الإلكترونية عام 2020


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image