لطالما كانت علاقتي مع الكنيسة إشكالية، الكنيسة كمؤسسة، بالأساس لأسباب سياسية، مرتبطة بالبيئة التي نشأت فيها، وما شغلني في مراهقتي وشبابي المستمر (هذا للتأكيد أنّي ما زالت شابة)، وما زال يشغلني.
لم تكن الكنيسة حاضرة في البيت، كما كانت حاضرة في بيت إحدى صديقات الطفولة، على الرغم من أن جدّي لأبي كان مواظباً على الذهاب للكنيسة أيام الآحاد، هذا إلى جانب عمله السياسي الذي خفّ مع تقدمه في العمر.
جدّي الذي أذكره كثيراً، كان قريباً من الكنيسة أكثر من السياسة، خلافاً لتاريخه الذي رواه هو وآخرون باستمرار. ندمت لاحقاً لأني لم أسأله عن أسبابه.
كانت الكنيسة حاضرة في حياتي في الأعياد فقط، أي كطقس اجتماعي وعائلي، إذ كانت الأعياد مناسبة جيّدة لشراء ثياب واللعب مع أبناء وبنات الأعمام، العمّات والخالات والأخوال، ومن ثم الذهاب لتناول الغداء مع العائلة الكبيرة.
بعدما ترك جدّي مدينة عكّا، عائداً إلى مسقط رأسه، قرية كفرياسيف، سكن إلى جانب كنيسة البروتستانت فيها. كان المدخل إلى باحة البيوت المجاورة، هو مدخل الكنيسة أيضاً. تخيّل أنك تقود سيارة، تصل تقريباً عند أوّل القرية، أوّل ميدان في الشارع الرئيسي، تأخذ المدخل اليميني، من ثم تقودها إلى أن تصعد في الطريق إلى أعلى، وعند منتصف الطلعة، تدخل بالسيارة إلى اليمين، تجد في وجهك الكنيسة وعلى يسارك عدداً من البيوت، كان بيت جدي مطلاً على الحديقة، شرفة تحاصر واجهة البيت، بعض الشبابيك، بابان، واحد يأخذ إلى الصالة، والثاني إلى غرفة تستخدم أحياناً كغرفة نوم، وأحياناً أخرى تتسع لطاولة عشاء لعائلة كبيرة، وأمامه شجرة أسكدنيا. لا ذاكرة لي من هذا البيت، إلّا أنه كالربيع.
ترانيم صوت الأم الحزين، أكثر ما يربطني بالديانة المسيحية.
على فكرة، كنيسة البروتستانت التي كانت تذهب إليها العائلة، هي في كفرياسيف، لأن الكنيسة التي في عكّا، كانت مهجورة منذ نكبة العام 1948، وهي الكنيسة الوحيدة التي بُنيت خارج أسوار المدينة، قبل سنوات قليلة من تهجير الفلسطينيين/ات، وكان جدّي، ومن ثم والدي، قد عملا لسنوات طويلة محاولين استرجاعها لخدمة الطائفة في عكّا. لم تنجح مساعيهما لأسباب لا علاقة لها بهما، إنما بأصحاب القرار. المهم، هذا موضوع آخر يغضبني، لكني سأعود إليه يوماً ما.
بالعودة إلى الكنيسة. لم أنتمِ لها. دائماً انتقدت أداء عدد من رجال الدين المسيحيين في فلسطين، تجاه علاقتهم مع القضية أو انقطاعهم عنها، دائماً انتقدت أداء عدد من رجال الدين من كل الطوائف تجاه فلسطين وقضايا عديدة أخرى. هذا الانتقاد زاد قليلاً، عندما سمعت من عمتي الكبيرة، أوديت، قصصاً عن عكّا في ستينيات القرن الماضي، عن النشاط السياسي للمسيحيّين الفلسطينيّين في المدينة، الذين كانوا يذهبون أيام الأحد للصلاة ومن ثم إلى اجتماع سياسي لمقاومة الاستعمار… للأسف، هذا الماضي غير حاضر اليوم.
بالتأكيد للحاضر الذي نعيشه أسباب عديدة يجب البحث فيها، منها الخيارات الفردية للأشخاص وإيمانهم الذي لم يناقض عملهم السياسي، لكن أيضاً لا يمكنني تجاهل فكرة الدور الإيجابي الذي لعبته الكنيسة آنذاك تجاه فلسطين، فيما يتعلّق بدورها السياسي، الذي ما زال حاضراً في بعض الكنائس اليوم بالتأكيد، وفي بعض رجال الدين، لكن الخيبة ما زالت أكبر.
مع هذا، كانت المسيحية حاضرة بتفاصيل ما في حياتي، وما زالت. لكني لم أكن قريبة منها، حتّى عندما حاولت أن أقلّد صديقتي أيام المراهقة، وذهبت معها مرات معدودة إلى كنيسة الموارنة في عكّا، فشلت بالارتباط بالموضوع وابتعدت أكثر. حتى أني أذكر سعادتي كمراهقة بأن اسمي واسم عائلتي لا يحمل أي "إشارة" إلى الديانة التي تنتمي لها العائلة، وعندي أصدقاء لم يعرفوا أني وُلدت لبيت مسيحي، إلا عندما توفي والدي جورج.
لم تكن هذه السعادة خجلاً من شيء، بل تفادياً لأن يتم تأطيري بأي شكل من الأشكال.
كنت دائماً أسأل أمي وأبي: "ما قيمة أن يصلي الإنسان كل يوم أحد، وبالمقابل يسرق الآخرين؟ ما قيمة أن يصلي الإنسان كل الآحاد والأعياد، ويضرب زوجته مثلاً، أو يبيع أرضاً؟".
بالتأكيد لم أكن أقصد الجميع، لكن أسئلتي النقدية هذه كانت باباً لقناعتي أن أخلاقي وقيمي الإنسانية تجاه بلادي وناسها، هي بوصلتي، وبالتأكيد ليست الكنيسة من يحق لها محاسبتي.
دائماً انتقدت أداء بعض رجال الدين تجاه فلسطين وقضايا عديدة أخرى. هذا الانتقاد زاد قليلاً، عندما سمعت من عمتي الكبيرة، قصصاً عن عكّا في ستينيات القرن الماضي، عن النشاط السياسي للمسيحيّين الفلسطينيّين في المدينة، الذين كانوا يذهبون أيام الأحد للصلاة ومن ثم إلى اجتماع سياسي لمقاومة الاستعمار
لكن، رغم كل ما ذكرته أعلاه، إلا أني أحبّ جداً يوم الجمعة العظيمة أو الجمعة الحزينة، إذا انتمى شيء مني للمسيحية، فهو من خلال هذا اليوم.
اليوم الجمعة، بداية الربيع في فلسطين. كان أبي عادة يذهب إلى العمل في مهنته كحدّاد، أيام الجمعة، لكن الجمعة العظيمة كانت إجازة بالنسبة له.
نستيقظ على صوت ترانيم فيروز في البيت، أبي يجهز وجبة الفطور، كانت غالباً "الشكشوكة"، التي عرفت عندما كبرت أنها بالأصل أكلة أمازيغية، وصلت مقاديرها إلينا مع مجيء اليهود من تونس والمغرب إلى الداخل الفلسطيني. حتى أني عرفت "الهريسة المغربية" في عكّا قبل أن أزور المغرب في أواخر العشرينيات من عمري، وعندما تعرّفت إلى "الهريسة التونسية" في تونس، والتي تختلف عن المغربية، عدت إلى عكّا أبحث عن محلات تبيعها، ووجدت مُنتجاً تصنعه امرأة يهودية تونسية في البيت، وتبيعه في محلات قليلة.
حكاية أخيرة عن الهريسة المغربية، قبل أن أعود إلى يوم الجمعة الحزينة: في الشتاء، عندما كانت أمي تحضر مرطبان الزيتون الأسود إلى البيت، والتي أعطتها إياها صديقتها في قرية ساجور، التي تعمل فيها أمّي كممرضة منذ أكثر من 30 عاماً. تشتري أمي نبتة الفيجن، وتضعها على الزيتون داخل المرطبان. وفي الليالي الباردة، كان والدي يخرج صحناً مقعراً، يضع فيه حبّات الزيتون والفيجن، وملعقة كبيرة - أو أكثر - من الهريسة المغربية، يعصر القليل من الليمون عليها، وإلى جانب هذا الصحن الملوكي، يضع صحناً من اللبنة، ويأكل اللبنة مع الزيتون والخبز ويشرب الشاي.
إذن، سنعود إلى صباح يوم الجمعة العظيمة الربيعي.
أثناء تحضير والدي للشكشوكة، كان يسمع الترانيم بصوت فيروز. أذكر صوته وهو يغنّي معها، صوته الجميل الذي تدمر بفعل التدخين وأشياء أخرى لن أعرفها. يغنّي معها: أنا الأمّ الحزينة. لم تكن هذه الترنيمة حاضرة في صلاة الجمعة الحزينة لكنيسة البروتستانت، حيث أن الكنيسة البروتستانتية لا تؤمن بدور مريم العذراء. فلم أكن معجبة كثيراً بصلاة الجمعة الحزينة فيها. لذلك، عندما كان لي مزاج الذهاب إلى الكنيسة في هذا اليوم، اخترت الذهاب إلى كنيسة الموارنة بالقرب من حيّ الفاخورة، أو الروم الأرثوذوكس في ساحة عبود، لسماع الترانيم التي أحبّها.
نزور أمواتنا عند صباح كل يوم جمعة عظيمة/ حزينة. لا أحد سيزور أمواته اليوم بسبب حظر التجول الذي فرضته إسرائيل. لكني، أضأت شمعة لك يا أبي، واستمعت إلى "وا حبيبي" كثيراً. لا أحبّ الخرافات، لكني أشعر بك كثيراً في هذا اليوم، وأشم رائحة الشكشوكة والربيع الذي كان يوماً ما بلا كورونا
ترانيم صوت الأم الحزين، أكثر ما يربطني بالديانة المسيحية.
ربما لأني ترعرعت في بيت فقدت جدّتي لأمي فيه أخيها وهو في السابعة عشر من عمره. الغضب على "القدر" الذي تحوّل إلى حزن. جدّتي اللاجئة، صاحبة الصوت الجميل والحنون، التي لم أسمع صوتها إلّا في رثاء الأموات، وعادت إلى مسقط رأسها، القرية المهجورة، في تابوتها.
أحبّ ترانيم الجمعة العظيمة جميعها. قبل سنوات، وبفضل الإنترنت، اكتشفنا تسجيلاً لنور الهدى لترنيمة "اليوم عُلّق على خشبة". ما زالت الترنيمة حزينة، لكنها تعرّفنا إلى نوع آخر من الحزن، غير مألوف وفي طبقات صوتية أخرى... اليوم، استيقظ كل صباح جمعة عظيمة أستمع إلى نور الهدى، ومن ثم أعود إلى فيروز. لم أعد أسمع فيروز في الصباحات العادية، لكنها تعود إلى هذا الطقس فقط مع "أنا الأمّ الحزينة"... ومن ثم ترنيمة "وا حبيبي".
لربما هي أكثر ما يُذكرني بأبي. فيها من الأسئلة الحقيقية التي يقتلها كل ما ومن يمنعنا اليوم من طرح الأسئلة، حتّى على كل ما ومن هو مُقدّس.
"شجر الزيتون يبكي
وتناديه الشفاء
يا حبيبي كيف تمضي؟
أترى ضاع الوفاء؟"
كأن الجمعة العظيمة هي المساحة الوحيدة لغضب الأم، لصوت عتابها، ولرفض واقع فُرض عليها باسم شيء ما. مساحة لأن تقول كم هي حزينة وغير راضية بـ "مشيئة الله". هو صوت المرأة في وجه كل الرجال الذي ما زالوا يتملكون الحكاية وحدهم.
نزور أمواتنا عند صباح كل يوم جمعة عظيمة/ حزينة. لا أحد سيزور أمواته اليوم بسبب حظر التجول الذي فرضته إسرائيل. لكني، أضأت شمعة لك يا أبي هذا الصباح، واستمعت إلى "وا حبيبي" كثيراً. لا أحبّ الخرافات، لكني أشعر بك كثيراً في هذا اليوم، وأشم رائحة الشكشوكة والربيع الذي كان يوماً ما بلا كورونا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...