ماذا لو سألني ابني رام، في المقبل من الأيام، عن انفجار مرفأ بيروت؟ لم أفكّر في الاحتمال يوماً خلال السنتين الماضيتين. اعتقدت لوهلة أن ذاكرتهما، هو وآزاد، ستبقى صغيرةً ولن تنهمك بهذا النوع من الأسئلة. يومها، كان عمر الأول ست سنوات، والثاني أربع سنوات، وبقيت الفكرة المهيمنة على لا وعيي أن ذاكرتهما لن تبقى إلا في سنتيهما هاتين، في ذلك المساء المشؤوم.
حتى البارحة، ظل هذا الأمر مسيطراً على عقلي. لكن ما أن خطر السؤال على بالي حتى ارتعبت. جدياً ارتعبت. سيمر رام في يوم من الأيام القادمة، إن حالفني الحظ وكنت ما زلت حياً، على صورة تحمل كل هذا الويل والألم والمأساة. سيتوقف عند كمية الدمار الموجودة. سيتوقف مطولاً وهو شارد في الصور. آآآه، هذه بيروت العاصمة، عاصمتنا، عاصمة لبنان. لقد كنت حياً في ذلك التاريخ. كنت في لبنان. كيف نجوت؟ كيف بقيت حياً بعد انفجار كهذا؟ كيف أن أمي وأبي لم يموتا، ولماذا لم يقصّا علينا تفاصيل هذا الدمار بأكمله؟
هذا السيلان من الأسئلة لن يبقى حبيس جدل عقل رام ولسانه، بل سيجد طريقه مباشرةً إلى أذنيّ، أو أذنيّ والدته. من الممكن أن يعرّج، قبل ذلك، على أخيه آزاد في غرفته ليسأله إن كان على علم بالأمر.
- رام: كيف نجونا من هذا التفجير؟ هل لديك أدنى فكرة؟
- آزاد: لا، لم أكن أعلم أي شيء عن الموضوع. أنت نبّهتني الآن. هل سألت أمي وأبي؟
- رام: لا حتى اللحظة. هيا بنا نسألهما.
ثوانٍ عدة هي مدة تلك الرحلة من نية رام في السؤال، إلى السؤال الفعلي. سيجد السؤال طريقه إلى أذنيّ، وسأقع عندها في كل أنواع الحيرة وأشكالها. سآخذ نفساً عميقاً وأجيب: حسناً، لقد كنا نسكن في مكان بعيد نسبياً، وسمعنا الصوت حينما كانت أمكما تضعكما في السيارة، قبل أن تتجه بكما إلى بيروت لتناما عند جدتكما. وضعناكما في السيارة وأدارتها مع إحدى أغانيكما المفضلة، وعادت إلى المنزل للإتيان بأغطية كانت تنوي غسلها في المصبغة. ما أن عادت إلى السيارة، ووضعنا الأغطية في الصندوق، حتى صعدت وبدأت بالرجوع إلى الخلف. أمتار عديدة من بداية الرحلة، حتى دوّى صوت ضخم جداً، وكأنه في شارع قريب. ارتجت الأشياء والبيت ومحيطه. عدة ثوانٍ مرّت وعاد الهدوء ليخيم على المكان. أوقفت أمكما السيارة، ونزلنا نتسمّر على الشاشة لنفهم ما الذي جرى. وبدأت الأخبار تتحدث عن استهداف سعد الحريري في وسط بيروت. لكن سرعان ما تم نفي الخبر وبدأ الكلام عن تفجير بالقرب من المرفأ. لاحقًا المرفأ نفسه. وأخذت الصور تردنا بشكل متتابع. فقدنا يومها أي إمكانية للاتصال لعدة دقائق، قبل أن تعلم جدتكما أنكما بخير، وأنكما ستزورانها بعد قليل. وهذا ما حدث.
نزلنا إلى الشارع وبدأنا بسد فراغ الدولة، وسد فراغ من قاموا بالتفجير بشكل من الأشكال، وسد فراغ من اكتفوا بالمشاهدة بعد التفجير. اجتحنا الشوارع لمساعدة الناس، ولإزالة الركام، وللبحث عن أي حياة
سيتبرم رام قليلاً، كعادته في رحلات التحري عن الأشياء. لن تعجبه الإجابة. هناك المزيد، حتماً. هناك دائماً ما هو خفي في الألعاب والقصص. هناك ما هو خفي في تفاصيل الرواية، ليجعلها على هذا القدر من المأساوية. حسناً، يسأل رام: ماذا جرى بعد ذلك؟
لا أعلم يا بابا، في تلك الليلة المشؤومة خاف الجميع. يمكن القول "إنها الليلة التي خاف فيها الناس". الليلة التي شعرنا فيها بالهلع وبهول الفاجعة. وشعرنا، فوق كل هذا، بأن المكان لم يعد صالحاً للعيش. أو ربما تأكدنا من هذا الأمر. لعله مكان خصب لعيش الذاكرة، ولعيش أفكار المقت والخوف والهلع والكبت والفراغ، ولعيش كل مشاعر الغضب والغثيان، لكن ليس للحياة، ليس هذه المرة وليس بعد الآن.
نزلنا نحن الذين نشارك دائماً في كل احتجاج أو تظاهرة، في اليوم الثاني، إلى الشارع. وبدأت رحلة المساعدة في تغطية آثار الجريمة، أو إزالتها. كان القرار خطأً، بالتأكيد. قرار نفّس كل الغضب والحنق الذي شعرت به الناس، خصوصاً أهل المنطقة. لكنه كان قراراً لا بد منه. نزلنا إلى الشارع وبدأنا بسد فراغ الدولة، وسد فراغ من قاموا بالتفجير بشكل من الأشكال، وسد فراغ من اكتفوا بالمشاهدة بعد التفجير. اجتحنا الشوارع لمساعدة الناس، ولإزالة الركام، وللبحث عن أي حياة، وللبحث عن دور لنا يساعد في تخفيف هول الكارثة.
كنا في تلك اللحظة نحمي المجرمين. كانت المساعدة ضروريةً، لكن عدم المساعدة كان ضرورياً أيضاً. وقعنا في أحجية. كنا على يقين بأن من عليه القيام بالمساعدة وبالتحقيق وبإزالة الركام هو الدولة وأجهزتها. لكنّا كنّا على يقين مماثل بأن أياً من هذا لن يحدث. يجب أن تقوم الدولة وأجهزتها بما يجب القيام به، ولو لمرة واحدة، وأن تغمّس يديها ولو لمرة واحدة في دماء من قتلتهم، أو أن تكتفي بالمشاهدة فينقلب السحر على الساحر. هذا كله لم يحدث، بل عملت الأجهزة، وبكل طاقاتها، على ترك المكان مفتوحاً، وأصبح مسرح الجريمة عرضةً لكل أنواع التلاعب والمس. كان هذا الأمر مقصوداً، وكنا نقع في شباكه.
لا أعلم يا بابا، في تلك الليلة المشؤومة خاف الجميع. يمكن القول "إنها الليلة التي خاف فيها الناس". الليلة التي شعرنا فيها بالهلع وبهول الفاجعة. وشعرنا، فوق كل هذا، بأن المكان لم يعد صالحاً للعيش
لا أنكر أننا ساعدنا الناس يومها. ليس هناك من شرف أكبر من هذا، وليس هناك من فخر أكبر من هذا، يمكنكما أن تحملاه معكما في الحياة. ساعدنا الناس بكل الطرق الممكنة، ولو بزجاجة مياه. خففنا حمولة ضمائرنا من الذنوب لأيام عدة متتالية. تحولت بيروت بهمّتنا، وبهمّة الناس، ناسها، وليس بهمّة الأجهزة والعسكر، إلى خلية نحل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. حوّلنا كل الأشياء، ومسحنا الجزء الأكبر من الغبار على مدى أيام. كان الخوف يساعدنا ويرافقنا في كل خطوة، الخوف من سؤال واحد وحيد: ماذا لو عصف انفجار ثانٍ؟
بعدها بأيام، بدأت تتحول الحادثة إلى ذكرى، وبدأنا نستذكر ما جرى بشكل من الأشكال. بدأنا نتعامل مع التفجير وكأنه انتهى. وقعنا في أحجية أن نبقى نعيش في لحظة الانفجار بكل ما لها وما عليها، أو أن نضطر إلى الخوض في النسيان لكي نستطيع أن نستمر. وحدهم أهل الشهداء بقوا هناك، في ذلك الشارع، يبحثون عن روح شاردة تخصّهم. وحدهم بقوا يهيمون في المكان بحثاً عن أي شيء حي يمكن أن يطفئ ذلك اللهب في دواخلهم.
أيام وليالٍ مرت، كانت كفيلةً بأن يتحول الأمر إلى ذكرى. لم نحاسب أي أحد. لم نكشف عن التوحش الكامن فينا، بل بقينا محافظين على الهدوء وردّات الفعل الممكنة والمدروسة. وفي كل لحظة كان جزء جديد من تلك الليلة يتحول إلى ذكرى، جزء ما يموت، أقله بالنسبة إلينا، بعيداً عن كل الشعارات والعناوين العريضة والكلام الشاعري. بعضهم حوّل المناسبة إلى مشهد، إلى احتمال للتمويل، إلى مسرح، إلى منصة لتبادل الخدمات. لكن الأكيد أننا استطعنا أن نكمل حياتنا، بأشكال مختلفة. استطعنا أن نتواءم مع الخوف الذي بدأ منذ ليلتها بالظهور بأشكال وأحجام وأماكن مختلفة. لكننا تأقلمنا معه. لم يعد الخوف يشعرنا بغربته عنا، ومع مرور الوقت بتنا نفتقده حينما لا يكون.
كان لا بد للتوحش من أن يظهر. لكن المكان كان متروكاً للخوف، والخوف لا يقبل أن يشاركه أي شعور آخر
ماذا سأقول لرام وآزاد يومها؟ هل سأقول أكثر مما قلته أعلاه؟ أو حتى، هل سأقصّ عليهما هذه القصة لا غيرها؟ لا أعرف. لربما هذا كل ما يمكن أن يُقال. لربما سأكتفي بالقول: لا أعرف، هذا كل ما تسمح لي ذاكرتي بأن أقوله. لربما سأستطرد قليلاً وأقول: كان من المفترض أن نحاسبهم في تلك الليلة. الحساب الذي تأجل منذ الليلة الأولى في الانتفاضة، كان يجب أن يظهر في ليلة انفجار 4 آب/ أغسطس، لكن هذا ما لم يحدث.
كانت لنا فرصة التعويض في التحركات اللاحقة، حينما أطلقوا النار علينا من أسلحة الصيد التي اقتلعت عيوناً وفتحت صدوراً. كان علينا أن "نقبعهم". بالتأكيد. بدءاً من حرس المجلس، ذلك الجهاز غير القانوني، مروراً بالمجلس برمّته، وصولاً إلى النواب والوزراء والرؤساء في بيوتهم.
كان لا بد للتوحش من أن يظهر. لكن المكان كان متروكاً للخوف، والخوف لا يقبل أن يشاركه أي شعور آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين