تحت سفح جبل المقطم في القاهرة، وخلف أدخنة متصاعدة لا تتوقف على مدار اليوم، تستقبلك مبانٍ عشوائية وشوارع ضيقة أشبه بالأزقة غير المرصوفة، تنتشر فيها عشرات آلاف حاويات القمامة أسفل العقارات العشوائية، وتتطاير منها الأكياس البلاستيكية وتتصاعد منها الروائح الكريهة. كلاب ضالة تجري خلف الزائرين ولا يتوقف نباحها، إلا أن أهالي المنطقة اعتادوا عليها. تتزاحم عربات "الكارو" الخشبية والمحملة بالقمامة مع السيارات الفارهة، وتختلط وجوه المارة الشاحبة وأصحاب الأيدي المتسخة بالأخرى الناعمة.
هنا حي "الزبّالين" في منشية ناصر، أحد الأحياء العشوائية في العاصمة المصرية.
مع بزوغ أول ضوء لأشعة الشمس، تبدأ الحياة داخل حي الزبّالين. حالة من التكتم والخصوصية يفرضها الأهالي على حياتهم الشخصية وطبيعة عملهم. ليس من السهل الحديث معهم أو اقتحام عملهم، فهم يرفضون التواصل مع الآخرين أو الحديث عن مهنتهم.
تصوير: محمود الخواص
لا يخجل كرولس، الشاب العشريني وأحد جامعي القمامة، من ملابسه البالية وحذائه المهترئ، فقد اعتاد على ارتداء هذه الملابس منذ نعومة أظافره في أثناء رحلة عمله في جمع القمامة من الأحياء الراقية في وسط القاهرة، ولم يعد يهتم بنظرات الآخرين من المارة وتأففهم من رائحة الأكياس التي يحملها على ظهره، وما يشغل باله الفوز بجمع أكبر كمية من البلاستيك والزجاج والكرتون.
نحمل زبالة الغني والفقير ونوفر على الدولة ملايين الدولارات، لكن لا يهتم بنا أحد.
مهمة صعبة
يستقل كرولس عربةً خشبيةً يقودها حمار، وتعلوها مجموعة من الأكياس الرمادية اللون، وتتصاعد منها الروائح الكريهة. يضرب الحمار من وقت إلى آخر، لإجباره على صعود مطلع جبل المقطم المرتفع. يصل إلى أحد العقارات في حي مدينة نصر شرق العاصمة، ويمر على كل شقة داخل البناية الضخمة ويصعد ثمانية أدوار على قدميه، لأنه غير مسموح له استخدام المصعد.
يصف كرولس، لرصيف22، جامعي القمامة بأنهم مواطنون من الدرجة الثالثة، قائلاً: "لا مستقبل لنا. الأيام جميعها واحدة. اليوم مثل الأمس مثل الغد. لم يمثلنا أحد في الحكومة أو البرلمان. يستطيع أي شخص أن يعمل مدرّساً أو طبيباً أو في أي مهنة أخرى، ولكن من الصعب أن يشتغل زبّالاً. نحمل زبالة الغني والفقير ونوفر على الدولة ملايين الدولارات بإعادة تدوير مخلفات البلاستيك والزجاج والكرتون، لكن لا يهتم بنا أحد، بالعكس يشمئزون منّا".
يومية لا تكفي للعيش
لا أحد داخل حي "الزبالين" يمتلك رفاهية التوقف عن العمل، فالجميع يشتغلون مثل خلية النحل المقسمة إلى مجموعات، ويدير كل مجموعة "معلّم"، وهو الشخص المسؤول عنهم، ويحدد أجرةً يوميةً للزبّالين تبدأ من 50 وتصل إلى 120 جنيهاً (3 دولارات إلى 15 دولاراً)، حسب طبيعة عملهم في جمع قمامة من الأحياء السكنية أو في فصل المعادن عن البلاستيك والكرتون. والجميع يعملون لحساب شركات نظافة مصرية تتبع للقطاع الخاص.
تصوير: محمود الخواص
ربما تكون مرحلة فرز القمامة شاقّةً، إلا أنها ليست أكثر صعوبةً من جوع صغار حنان رؤوف (35 عاماً)، وهي إحدى العاملات، وقد أوضحت خلال حديثها إلى رصيف22، أنه من غير مسموح للسيدات في حي "الزبّالين" العمل في جمع القمامة من الأحياء السكنية، إنما يقتصر عملهن على فرز المخلّفات مقابل يومية تبلغ 100 جنيه (نحو 6 دولارات).
واعتادت العاملات في فرز المخلفات على التعرض للإصابة بشكل يومي، بسبب اختلاط المخلفات العضوية بتلك الحادة، من الزجاج والألمنيوم، لكن ذلك لا يشغل بالهن بقدر حرصهن على إنجاز مهمتهن قبل غروب الشمس، للعودة إلى منازلهن وإتمام واجباتهن الأسرية.
لا مستقبل لنا. الأيام جميعها واحدة. اليوم مثل الأمس مثل الغد. لم يمثلنا أحد في الحكومة أو البرلمان. يستطيع أي شخص أن يعمل مدرّساً أو طبيباً أو في أي مهنة أخرى، ولكن من الصعب أن يشتغل زبّالاً
كما أن جامعي القمامة هم عبارة عن عمال مياومين، بلا تأمين صحي ولا يوجد أمامهم سبيل للعلاج سوى الوحدة الصحية التابعة لحي منشية ناصر، وشراء الدواء والمستلزمات الطبية على نفقاتهم الخاصة، وهو ما عدّته حنان إهداراً لحق الزبّال في تلقي العلاج أسوة بموظفي الدولة.
بالرغم من عدم تجاوزه الثانية عشرة من عمره، إلا أنه استحق لقب "أفضل نبّاش" في حي الزرايب، وهو واحد من أكبر التجمعات السكنية لجامعي القمامة شرق القاهرة. استطاع بيشوي ميخائيل، اكتساب خبرة كبيرة من عمله مع والده، ويركز على جمع خردة الألمنيوم والبلاستيك والكرتون.
يقول بيشوي لرصيف22: "أعمل في جمع العبوات المعدنية والبلاستيك والكرتون، ويصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى 10 جنيهات (أقل من دولار)، وأجمع فى بعض الأحيان 12 كيلوغراماً وأسلمها إلى المعلم الكبير، الذي يقوم بضغطها ثم توريدها إلى مصنع 15 أيار/ مايو حيث يتم صهرها وإعادة تصنيعها".
تصوير: محمود الخواص
مضايقات حكومية
طوال ثماني ساعات متواصلة، ينحني ظهر اعتدال رفيق، السيدة الخمسينية، لفرز أكوام من القمامة أسفل العقار الذي تسكن فيه في حي "الزبالين". تفصل بين فضلات الطعام والبلاستيك والزجاج، ولا ترتدي كمامةً لحجز رائحة القمامة التي تزكم الأنف على مسافات بعيدة، ويظهر على كفها الأيمن جرح غائر من عمليات الفرز التي تقوم بها من دون ارتداء قفازات.
حالة الرضا التي حاولت اعتدال إظهارها خلال حديثها إلى رصيف22، لم تدم طويلاً. عند سؤالها عن مستقبل أحفادها أجابت بسرعة: "لا أتمنى لهم العمل في الزبالة، وعاوزاهم يخرجوا للنور".
تصوير: محمود الخواص
لا تعلم اعتدال أي معلومة عن قانون المخلّفات الجديد، الذي يشمل تحقيق مزايا للعاملين في منظومة المخلفات ويساهم في تحسين أوضاعهم الاقتصادية والصحية وتوفير سبل الحماية اللازمة لهم، فهي سيدة أمية تقضي يومها أمام القمامة، وفي الليل تنشغل بتدبير أمور بيتها، إلا أنها ذكرت عبارة "يا ريت الحكومة تسيبنا في حالنا"، قاصدةً الخطة التي أعدّتها محافظة القاهرة لتهجير جامعي القمامة من حي منشأة ناصر تحت مسمى تطوير العشوائيات، مثلما حدث في منطقة الزبّالين في مدينة 15 أيار/ مايو، حين أُجبروا على ترك بيوتهم ومكان عملهم الذي انتقلوا إليه منذ ما يزيد على 70 عاماً.
وفى شهر شباط/ فبراير الماضي، وافق مجلس الوزراء المصري على اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم إدارة المخلفات رقم 202 لعام 2020، الذي صدر في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، لتنظيم عملية إدارة المخلفات على أنواعها، وتحديد الأدوار والمسؤوليات لجميع الجهات الفاعلة. وكشفت ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة المصرية آنذاك، أن القانون يهدف إلى تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص وقطاع الأعمال العام ومنظمات المجتمع المدني المرخص لها بإدارة أنشطة منظومة المخلفات، وإدراج القطاع غير الرسمي وتقنين وضعه ليكون شريكاً جديداً في المنظومة.
من حق الزبّال أن يعيش حياةً كريمةً وأن يكون له مسمّى وظيفي في بطاقته الشخصية، وأن يحصل على تأمين صحي، وهي أمور لم تحصل بعد
وقال ياسر محجوب، مدير إعادة هيكلة قطاع المخلّفات في وزارة البيئة، لرصيف22، إن القانون جاء لتحديد الأدوار في وزارة البيئة والمحليات والقطاع الخاص، بجانب وضع السياسات والاشتراطات ومنح رخص التشغيل.
وأكد أنه تم إدراج 4،130 شخصاً من جامعي القمامة على مستوى الجمهورية ضمن الغطاء التأميني ضد المخاطر، بعد تقدمهم لطلب بذلك، مع السعي إلى جذب الشباب إلى المهنة من خلال وضع رواتب مجزية، وهناك بعض العقود تصل قيمتها إلى 7 آلاف جنيه (437.5 دولارات) لعامل النظافة داخل بعض المناطق مثل العاصمة الإدارية. وأضاف: "سيتم تغيير المسمى الوظيفي في البطاقات الشخصية، وتوفير غطاء تأميني ضد المخاطر أو إصابة العمل أو الوفاة، وإلحاق جامعي القمامة بالعمل بشكل مباشر مع شركات النظافة من دون وسيط".
تصوير: محمود الخواص
مليون زبّال
"إحنا بنشيل الزبالة من الشوارع من سنة 1948، ومحدش سائل فينا"؛ كلمات بدأ بها شحاته المقدس، نقيب الزبّالين، حديثه إلى رصيف22، مضيفاً: "حكومة مبارك فرضت علينا شركات أجنبيةً أبرمت عقوداً بينها وبين محافظة القاهرة عام 2002، لكنها لم تلتزم بواجباتها، وربحت الملايين وخلّفت وراءها أطناناً من القمامة داخل القاهرة الكبرى، لأنهم كانوا يجمعون المخلّفات من صناديق القمامة في الشوارع فقط، وليس من الوحدات السكنية كما يفعل الزبّالون". وأضاف أن الحكومة أنهت تلك التعاقدات وعادت للزبالين التقليديين الذين نجحوا في تحقيق نظافة الشوارع بالرغم من أن معظم حقوقهم مهدورة.
تصوير: محمود الخواص
وذكر المقدس، أنه ناشد وزارتي الصحة والبيئة لصرف الكمامات والقفازات لجامعي القمامة في أثناء أزمة كورونا، من دون أي استجابة. وقال: "من دون جامعي القمامة، كانت العدوى انتشرت بين المواطنين، وقمنا حينها بشراء الكمامات والقفازات على نفقتنا الخاصة".
وبحسب نقيب الزبالين، يصل عدد جامعي القمامة إلى مليون مواطن يتمركزون في ست مناطق داخل القاهرة الكبرى، وهي منشية ناصر، وأرض اللواء، والبراجيل، ومنطقة مايو، والخصوص، والتبين.
لا أتمنى لأحفادي العمل في الزبالة، وعاوزاهم يخرجوا للنور.
وفي حديث إلى رصيف22، قالت الدكتورة ليلى إسكندر، وزيرة البيئة السابقة، إن مستوى النظافة تحسّن داخل عدد من الأحياء في القاهرة، لكن هناك أحياءً كثيرةً، خاصةً الشعبية، لم تصل إلى المستوى المطلوب، ويتطلب ذلك جمع القمامة من باب المسكن وذلك يحتاج إلى كتيبة كبيرة من الزبّالين. وأكدت على أنه من حق الزبّال أن يعيش حياةً كريمةً وأن يكون له مسمّى وظيفي في بطاقته الشخصية، وأن يحصل على تأمين صحي، وهي أمور لم تحصل بعد.
"الحكومة بتعتبرنا مش موجودين. ولادنا ما بيتعلّموش علشان فيه مدارس ما بتقبلهمش، واللي بيتعب فينا بيموت علشان ما معناش حق العلاج"؛ هكذا ختمت اعتدال رفيق حديثها وهي تبكي: "نفسي ولادي يكون حظهم أحسن مني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...