"تزوجت من قريبها، ولم تكن تعلم أن زواجها سيحوّل حياتها إلى علقم، وسيكون سبباً في إنجاب طفلين مصابين بأمراض نادرة لها صلة بالوراثة البشرية، وفي حين أن الطفل الأول فارق الحياة، فإن المولود الثاني يخوض حرباً ضروس بين الحياة والموت".
تسرد نصيرة (في العقد الثالث من عمرها من محافظة قسنطينة، على بعد 400 كلم شرق العاصمة الجزائرية) لرصيف22، معاناتها مع الأمراض الجينية والوراثية المعقدة، قائلة: "ظهرت على طفلي الأول، عندما كان في السنوات الأولى من عمره، أعراض توحي بإصابته بمرض معيّن، تتمثل في الغثيان والقيء والإسهال والصداع والدوخة، وكان يخطرني في كل مرة بشعوره بطعم معدني غريب في فمه، حينها قصدنا إحدى العيادات الخاصة، لنكتشف إصابته بمرض جيني ووراثي نادر يتمثل في ارتفاع النحاس في الجسم".
وتابعت نصيرة: "بعد رحلة علاج صعبة ومؤلمة، دامت قرابة خمسة أشهر كاملة، تبيّن أن هذا المرض يعود بالدرجة الأولى إلى زواج الأقارب، ولا أخفيكم أمراً أن معظم الأزواج الذين ينتمون إلى نفس العائلة، بالأخص بين أبناء العم أو الخال، لا يلجؤون إلى المراكز المتخصصة لإجراء تحاليل طبية مفصلة، للتعرف على التاريخ المرضي للعائلة، وعمّا إذا كان هذا الزواج سيسبب إصابة الأطفال بأمراض نادرة أو حدوث عيوب خلقية".
سلسلة تحاليل
تؤكد نصيرة، وقلبها يعتصره الألم بسبب فقدانها لابنها البكر، أن "أغلب الأزواج يكتفون بإجراء تحاليل ما قبل الزواج الثابتة، وهي نفس التحاليل التي يتقيّد بإجرائها الشخصان القريبان أو اللذان لا تربطهما صلة القرابة ولا علاقة لها بالجانب الوراثي، وتشمل ثلاثة أمراض، وهي تحليل خاص بمرضى السيدا، وتحليل ثان خاص بمرض التهاب الكبد الفيروسي، وتحليل ثالث خاص بمرض الزهري أو السفلس، وفقاً لما ينص عليه القرار الوزاري الوارد في الفقرة السابعة، المادة 84_11 من قانون الأسرة الصادر في 9 يونيو/ حزيران 1984، والذي شرع في تطبيقه منذ عام 2008".
"تزوجت من قريبها، ولم تكن تعلم أن زواجها سيحوّل حياتها إلى علقم، وسيكون سبباً في إنجاب طفلين مصابين بأمراض نادرة لها صلة بالوراثة البشرية، وفي حين أن الطفل الأول فارق الحياة، فإن المولود الثاني يخوض حرباً ضروس بين الحياة والموت"
وتتابع بالقول: "كان المرض سبباً في ضياع أحلامي، وفقداني للشغف الذي كان بمثابة الريشة التي لوّنت بها حياتي، احتجزت رفقة طفليّ الاثنين لفترات طويلة في المشافي، غيّب الموت ابني الأول بعد صراع طويل من المرض، والثاني طريح الفراش منذ مدة".
هذا وتختم حديثها بالقول: "دائما ألوم نفسي وأضع عليها الخطأ، لأنني لم أكترث قبل الزواج بزيارة طبيب مختص وإجراء الفحوصات الخاصة".
علاجات مكلفة ومفقودة
لا تختلف مأساة نصيرة كثيراً عن معاناة هاجر وبركاهم، شابتان في ريعان شبابهما، سيطر المرض اللعين على جسد إحداهما، وأصبحت رهينة الأدوية والإبر والضمادات والتحاليل الطبية.
تروي الشابة بركاهم، ذات العشرين عاماً، وهي ابنة بلدة "الناظورة"، حكايتها لرصيف22: "كان العام 2011 كابوساً بالنسبة لعائلتي، بعد أن احتجز المرض شقيقتي الصغرى في المشافي لفترات طويلة".
وتشير إلى أنه "في البداية، ظهرت عليها مؤشرات مخيفة، من بينها القيء المصحوب بالدم، وكانت تشعر بالإعياء والتعب المتواصل وانتفاخ البطن، بقينا لا نعلم لفترة سبب هذه الأعراض، إلى أن شخصت حالتها في إحدى مستشفيات العاصمة الجزائرية، وتبيّن إصابتها بداء ويلسون، وهو مرض وراثي سببه تجمّع النحاس في الكبد، الناتج أساساً عن التزاوج بين الأسر ضمن العائلة الواحدة".
"كان المرض سبباً في ضياع أحلامي، وفقداني للشغف الذي كان بمثابة الريشة التي لوّنت بها حياتي، احتجزت رفقة طفليّ الاثنين لفترات طويلة في المشافي، غيّب الموت ابني الأول بعد صراع طويل من المرض، والثاني طريح الفراش منذ مدة"
وتضيف بركاهم: "بعد اكتشاف إصابة شقيقتي الصغرى بأحد أمراض قرابة الدم من الدرجة الثانية، أي أولاد العم والخال، أخضع جميع أشقائي الثلاثة وأنا إلى تحقيق وبائي، حينها ثبتت إصابتي بنفس مرض شقيقتي لكن بدرجة أقل حدة، ومنذ تشخيص حالتنا فرض علينا، أنا وأختي، تعاطي الدواء مدى الحياة، وفي حالة التوقف المفاجئ عنه ستتدهور حالتنا الصحية".
ومن أصعب التحديات التي تعرض مسار علاج الشابتين، تذكر بركاهم عدم توفر الأدوية، إذ أصبح الحصول على دواء ترونوفول الذي يستخدم لعلاج التليف الكبدي صعباً جداً، فهو لا يتوفر لدى الموزعين، وغير موجود في الصيدليات كما أنه لا ينتج محلياً.
وتقول بركاهم: "في البداية، كنّا نستطيع تأمين الدواء من الصيدليات، كان متوفراً وبأسعار مقبولة، أما الآن فقد تضاعف سعره ويقدر بـ 8000 دينار جزائري، أي ما يعادل 40 دولاراً أميركياً، هذا إن وجد".
وتحولت حياة قرية بأكملها في محافظة المسيلة (مدينة جزائرية تقع شرق البلاد) إلى مأساة، لانتشار زواج الأقارب، ونتج عن هذه الزيجات انتشار مرض الضغط الرئوي، وهو أحد أخطر الأمراض التي قد يعاني منها الناس، بحيث يصيب الشرائيين التي تنقل الدم من القلب إلى الرئتين ويرفع ضغط الدم في هذه الأوعية الدموية.
والأخطر من هذا، تقول خديجة علي قاسم، رئيسة الجمعية الجزائرية لارتفاع ضغط الدم والشريان الرئوي لرصيف22، إن "أهالي هذه القرية، وبسبب عدم المعرفة ونقص العلم والتعليم، يرفضون تماماً الاستماع والتحاور، ويرفضون حتى التشخيص والإفصاح عن أية معلومات قد تفيد البحث".
ووفق الأرقام التي كشفت عنها خديجة علي قاسم، فإنه في عائلة واحدة فقط، يتراوح عدد الأشخاص المصابين بالأمراض الوراثية بين ثلاثة إلى خمسة أشخاص.
وكشفت إحصائيات قدمتها جمعية الأمراض النادرة والتوحد في البلاد، عن إحصاء أكثر من 270 مرضاً نادراً بعديد من المحافظات، وراجع بالدرجة الأولى إلى زواج الأقارب، وبحسب تقديرات رئيس جمعية الأمراض النادرة والتوحد، مولود موتشو، فإن محافظة تيزي وزو وبجاية وغرداية وجيجل تأتي على رأس المدن التي تنتشر فيها الأمراض النادرة وبنسبة تتعدى 35%.
نقص التثقيف العام
وفي قائمة الأمراض النادرة، نجد أمراض القلب الخلقي والأمراض الرئوية والداخلية وأمراض المناعة والدم وأمراض الكبد وأمراض نقص الأكسجين في الدماغ والأمراض الجلدية والوراثية.
وما يفاقم الوضع في الجزائر بالنسبة لخديحة على قاسم هو نقص التوعية والتثقيف العام، على حدّ قولها: "الوضع الحالي يتطلب تنظيم حملات توعوية ولقاءات تحسيسية من أجل الاهتمام بهذا المرض المميت والنادر، الذي تعاني منه شريحة كبيرة من المجتمع الجزائري، والتكفل الجدّي بالمرضى، بالأخص في ظل الصعوبات التي يواجهونها، كغياب المعدات الطبية المخصصة للتشخيص المبكر والدقيق، ونقص الأدوية وارتفاع تكلفتها وعدم تعويضها من طرف الضمان الاجتماعي (هيئة حكومية) ويضطر المرضى لشرائها رغم أنها باهظة الثمن".
"ارتفاع نسب الأمراض الوراثية تنتشر بكثرة في المناطق النائية لعدم التشخيص والتوعية والتوجيه، وحتى عدم توفر الأدوية التي تخفف أو توقف تطور المرض، ليصل إلى مرحلة عجز الكبد، وحتى زراعة الكبد"
والأمر الملفت للانتباه، وفقاً لرئيسة الجمعية الجزائرية لارتفاع ضغط الدم والشريان الرئوي، فإن هذا المرض غير مسجل ضمن الأمراض النادرة في سجل وزراي، رغم أنه معترف به في أنحاء العالم.
وبحسب الشروحات التي قدمتها خديجة على قاسم، فإن السلطات الصحية توفر للمصابين بهذا المرض النادر دوائين فقط من ضمن 14 دواء في العالم، رغم أن هذا المرض النادر تتفرع عنه 5 أنواع من الأمراض، وكل نوع تقف خلفه عدة أسباب ولديه 5 تطورات.
ومن جهتها، بيّنت رئيسة الجمعية الجزائرية لمساعدة مرضى الكبد، زهية بيكة، لرصيف22، أن "ارتفاع نسب الأمراض الوراثية تنتشر بكثرة في المناطق النائية لعدم التشخيص والتوعية والتوجيه، وحتى عدم توفر الأدوية التي تخفف أو توقف تطور المرض، ليصل إلى مرحلة عجز الكبد، وحتى زراعة الكبد التي لا تزال جد ضئيلة في البلاد مقارنة بزرع الأعضاء الأخرى، كالقرنية والكلى".
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قد أصدر تعليمات إلى وزارة الصحة تقضي بالتكفل المجاني من قبل الدولة، بـ 373 طفلاً مريضاً بالاستقلاب الخلوي ونقص المناعة، عبر 18 ولاية (محافظة)، عن طريق توفير المكملات الغذائية والأدوية، كما أمر تبون، بالتنسيق مع الجمعيات المتخصصة في الأمراض النادرة، بإبقاء هذه الأمراض تحت مجهر الدولة لكشفها مبكراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...