شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"العوز والحاجة"... هل تكون الشرارة التي تشعل الشارع الفلسطيني؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 30 يوليو 202203:46 م

لا يوجد سند تاريخي يشير إلى أن الشعب الفلسطيني في صراعه الطويل الممتد لأجيال يوحي بأنه خرج عن النسق العام أو حالة الدوغماتية في تحديد خياراته، إلا أن الظروف الآنية وانسداد الأفق السياسي وإطالة أمد الانقسام، قد تطيح الكثير من الأفكار لتجاوز الإرهاصات التي تفرضها شروط بقاء الحالة على استكانتها. هذا التحول الكبير في الفكر من شأنه أن يدفع إلى ابتكار معالجات بخلاف المعمول به، فالصراع الحالي يختلف جذرياً عما سبق، لأن منطقة الأحداث، قطاع غزّة، فلسطينية بامتياز تخلو من علاقة مباشرة مع الاحتلال الذي فضّل الابتعاد وترك المساحة لمن يخلفه للتعامل معها. هنا كان لا بد من اختراع وسيلة يمكن السيطرة عليها تعبر عن طموح الشارع دون أن تتطور إلى انتفاضة شعبية شاملة تجلب معها خسائر ثقيلة.

هام الشارع على نفسه في محاولة لابتداع وسيلة بعيدة عن العنف والمواجهات المباشرة، باعتبار أن الجميع يقبعون تحت سقف المعاناة ولا يمكن أن تلتقي بندقية فلسطينية مع شقيقتها الفلسطينية، فكان الدفع من الشارع الغزي بحركة ارتجالية تحت سقف مطالب بسيط يحمل شعار "بدنا نعيش"، وذلك عقب 15 عاماً من الحصار الخانق نتج عنه معدلات بطالة عالية وصلت إلى 47٪ وفق إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2022، مخلفًا ذلك 1.3 مليون من أصول 2.1 مليون فلسطيني في غزة (62٪) يعتمدون بشكل كامل على المساعدات الغذائية وفق تقرير أعده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

هذا التأصيل لهذه الظاهرة المتمردة على واقعها والمحتجة على رداءة أحوالها ليس حكراً على شعب بعينه، بل يمكننا أن ندّعي بأن معظم شعوب الأرض حاولت خلخلة بنيان أنظمتها السلطوية من خلال انتهاجها لهذا السلوك. فالشعوب الحرة لا يمكنها أن تتعايش مع الاستبداد وتغييب الكرامة وإبقاء الحال كما هو دون تغيير، إلا أن الحالة الفلسطينية مصابة باعوجاج، وفيها الكثير من التعقيد، حتى إنها تحاصر الباحث الذي يحاول دراسة العلاقة الجدلية بين الناس وحكامهم وقياس مدى التأثير الذي يولده كل طرف على الآخر.

رداءة الأحوال تستنهض الظاهرة المتمردة

هنا تولدت لدى العديد من الشباب طاقات مختلفة حاولت تنويع أفكارها وفق ما يتماشى مع واقع الشارع بعمومه، فكانت البداية في حراك 15 آذار/ مارس عام 2011 الذي كان يطالب بإنهاء حالة الانقسام، وحراك 29 نيسان/ أبريل عام 2015 للسبب ذاته، تلتهما حركات مطلبية آنية من عام 2016 حتى عام 2018 طالبت بمواجهة أزمات قائمة مثل الكهرباء وتحسين ظروف العيش، وكان أبرزها الوقفة الاحتجاجية عام 2017 التي خرجت من مخيم جباليا، وتجمع مؤيدوها بجوار الترنس، ورفع مطالبها وفق حدود الممكن والمتاح، فلم يكن شعارها يحمل في طياته مطالب لا يمكنها أن تتحقق، واختصرت مطالبها بحل أزمة الكهرباء. إلا أن هذا الأمر أزعج حركة حماس كما تفعل أشد الأنظمة قسوة، فأطلقت أذرعها العسكرية للتعامل بوحشية مع هذا التجمع واعتقال كل المشاركين باعتباره عملاً يناهض الفعل الثوري الذي يواجه الاحتلال، فكان الاعتقال والتعذيب والاختطاف، ومشاهد دامية سكنت في الوعي وأبعدت المسافة بين الناس ومقاومتها. وكان اللافت أن الحركة التي تدعي إسلاميتها اعتلت المنابر بغرض المساهمة في تثبيت الأكاذيب وأن هؤلاء الشباب هدفهم "اغتيال المقاومة" التي تحقق حسب ادعاءاتهم نجاحات في الميدان.

عاد الشعب عام 2019 تحت شعار "بدنا نعيش"، وخرج يصرخ بحنجرته من الحرمان الذي مس كرامته وعزته بعد حشره في إطار متين من اليأس والاغتراب عن وجوده الاجتماعي والإنساني، ووصل الحال بمصلحة السجون إلى أنّها لم تعد قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة ممن أوقعهم مصيرهم داخل الزنازين على ذمم مالية في بعض الأحيان لا تزيد عن مبلغ زهيد، ومن أُنيط بهم العمل دفع عجلة الاقتصاد من رجال أعمال قد تحوّلوا إلى شرائح رثة وعاجزة حتى عن تسديد ما عليها من ديون، وكأن مظلوميتنا مسلمات قدرية يحرم أن نقترب منها.

وقال عامر بعلوشة، أحد القائمين على حراك "بدنا نعيش" لرصيف22: "النجاح الذي استطعنا كناشطين تحقيقه، هو عمليّة استقطاب الجمهور للمشاركة في الوسم والاستجابة لدعوات التظاهر، والمشاركة في الدعوة التي وجّهها الحراك، إيماناً من شعبنا بأنّ الأزمات التي يعايشها أصبحت تفوق القدرة الإنسانيّة على التحمّل".

كان اللافت أن الحركة التي تدعي إسلاميتها اعتلت المنابر بغرض المساهمة في تثبيت الأكاذيب وأن هؤلاء الشباب هدفهم "اغتيال المقاومة" التي تحقق حسب ادعاءاتهم نجاحات في الميدان

وتابع بعلوشة: "نحن نأمّل تغيير الواقع في قطاع غزّة، ونتطلع إلى بثّ فكرة النضال من أجل الحقوق بين الناس. نحن نفهم أنّ الحراك كغيره من الحراكات المطلبية التي وُجدت في دول العالم الثالث سيتعرض لكثير من الصعوبات، في معظمها تتعلق بمزيد من القمع والاعتقال من القوى الأمنيّة في غزة، كما حدث في الحراكات التي حصلت في 2017 و2019، والتي استخدمت فيها حماس القوّة المفرطة ضد المتظاهرين في جميع مناطق القطاع ، لكن هذا لن يثنينا عن الاستمرار والنضال وصولًا لتحقيق الأهداف العادلة للحراك".

وأضاف: "بات من الواضح أن الشعب في غزة قد استُنفدت جميع معززات صموده، وأصبح لزاماً عليه أن يُعاد له اعتباره، وأن يأخذ حقوقه على كل الأصعدة؛ معيشياً وسياسياً وقانونياً، وجوانب أخرى كثيرة".

ورغم سلمية هذه الحركات المطلبية ككل منذ انطلاقتها، فإن فتاوى كهنوتية أنتجتها العقول الظلامية، كانت حاضرة لاستباحة وإراقة دم من يخرج على الحاكم، هذه العقلية التي تحكم لا يمكنها أن تفرض تعايشاً سليماً بين طبقات المجتمع، فهي ترى في نفسها صاحبة الحق الحصري في المقاومة ورئاسة البلدية والوزراء، وأن الحياة فصلت على مقاساتهم.

هذا التمييز في نسج العلاقات والتوظيف أوجد الحراك المُطالب بتحسين الأوضاع المتردية والابتعاد عن الفئوية التي تفقد الإنسان قيمته، والذي كان دوماً حاضراً في الأذهان، لأنّ الخلل والأسباب الموضوعية لا تزال دون حلول.

المعالجة الأمنية البوليسية لأصحاب شعار دولة المؤسسات

على صعيد الضفة الغربية، فإنّ السلطة تجرّأت هي الأخرى وسلكت مساراً مشابهاً، حين تحرّك أهل الخليل في حزيران/ يونيو 2022، رافعين الشعار ذاته "بدنا نعيش" منددين بارتفاع وغلاء أسعار السلع والوقود بفعل المساوئ التي تشترطها "اتفاقية باريس" السيئة الصيت والتضخم الاقتصادي التي خلّفته الأزمة الروسية - الأوكرانية. وعلى الرغم من أن حكومة محمد اشتية قد وافقت على المطالب نفسها من قبل في الحراك الشعبي في فبراير/شباط المنصرم، إلا أن هذا لم يمنع أن يكون لهم نصيب من القمع والاعتقال، ولا نستطيع تجاوز أن السلطة، ترعبها فكرة تصدير المشهد إلى الخارج الممول لموازنتها، والذي يرفض، ولا يمكنه تبرير العنف والعلاج الأمني لحراك سلمي، إلا أنها هي الأخرى أرادت أن توحي لعموم الناس أنّها صاحبة هيبة ولا يمكنها أن تسمح للناس بالخروج عليها، ولنا في قصة اغتيال نزار بنات عبرة، إذ خرج الناس للتعبير عن غضبهم لتقابلهم قوات أمن مدججة بالسلاح والغاز.

ورغم سلمية هذه الحركات المطلبية ككل منذ انطلاقتها، فإن فتاوى كهنوتية أنتجتها العقول الظلامية، كانت حاضرة لاستباحة وإراقة دم من يخرج على الحاكم، هذه العقلية التي تحكم لا يمكنها أن تفرض تعايشاً سليماً بين طبقات المجتمع، فهي ترى في نفسها صاحبة الحق الحصري في المقاومة

مع كل يوم، تزداد حالة الحنق لدى الناس، وصواعق التفجير كل يوم تقترب من أحداث انفجاراتها المدوية، المسألة برمتها تتعلق بالابتعاد عن شرح وممارسة حقيقية لمفهوم القضية الوطنية، فكلا الطرفين خرجت من قاموسه هذه اللغة، وأصبح يقاتل لأجل بقاء حالة السكون التي تلبي مصالحه وتسمح له بتمرير مخططاته، والشعب اطّلع على حقيقته، وتحت تفاقم العوز والحاجة، يصبح الانفجار أقرب شيئاً فشيئاً، في ظلّ العمى المزمن المصابة به القيادات الفلسطينية.

الفشل والهاوية

الاعتقاد الذي بدأ يسود داخل الأطر العامة للشارع يميل إلى تفسير أنّ طرفي الكارثة مصابان بالهوس نتيجة فشلهما في إنجاز المشروع السياسي الأهم، والذي أثبت التاريخ خلال عقود مضت، أن المفاوض الفلسطيني لا يمتلك الأدوات التي تؤهله ليجلس إلى طاولة مفاوضات نيابة عن شعب، أمّا حماس، التي سيطرت على غزّة بقوة السلاح، فهي الأخرى تنتقل من عجز إلى آخر، وكلّما قابلت أزمة ما، تركلها بعيداً دون حلول، استناداً لكونها صاحبة مشروع المقاومة المنزّه عن أيّ محاسبة ومساءلة. هذا الفشل الذريع على صعيد الساحة الفلسطينية، بشقيها السياسي والاجتماعي، كان السبب في إخراج طرفي الانقسام، اللذين لطالما تنكّر أحدهما ببدلة والآخر في جلّابيّة، يعلنان رفضهما، ولا ينصتان لصوت الشارع.

جميعهم لم يدركوا أن عليهم استغلال محطات التوقف للاستراحة والتفكير، وليس كمحطة فشل نهائي تتطلب رفع البنادق أمام كل ثورة احتجاجية، وكأنها تأبى أن تأتي بجديد، وتعيد فعل ما فشلت به الأنظمة في الإقليم، الذي كانت نتائجه كارثية؛ هروب جماعي من الوطن وتركه للمرتزقة لتقسيمه وفق ما يرسخ طموحاتهم، فما بالك ونحن على خط التماس الأول مع العدو الإسرائيلي.

حماس التي سيطرت على غزّة بقوة السلاح، فهي الأخرى تنتقل من عجز إلى آخر، وكلّما قابلت أزمة ما، تركلها بعيداً دون حلول، استناداً لكونها صاحبة مشروع المقاومة المنزّه عن أيّ محاسبة ومساءلة

الوطن تترسخ مفاهيمه في مثلث أضلاعه الثلاث شعب حر وقيادة حكيمة وأرض، وبمجرد انكسار ضلع تتشتت الخريطة، وكل ما سبق يمكن تجاوزه إذا عادت سلطتا الحكم إلى رشدها وردت الأمانة إلى أصحابها -أي الشعب- دون ليّ النصوص القانونية أو استخدام حيل قانونية لتبرير تعنتها وأنها صاحبة الولاية. فلا شرعيات يمكن التعامل معها ما بقي المشهد مرشحا للتصعيد، والوقائع تقول إن الأغلبيات الصامتة أو كما يحلو للبعض وصفها بحزب الكنبة لن تبقى على هذا الحال ما دامت الأوضاع باقية على ما هي عليه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard