بعيداً عن سرد ما وصلت إليه القضية الفلسطينية وفق واقع معرفي منحصر ضمن نطاق جغرافي محدد لأنه حديث قلِق نتيجة اختلاط التفسيرات والزوايا، تقتضي الحيادية في نقل أحداث تاريخية وعلاقتها المتشابكة بالحاضر موضوعية قد لا تتوفر في بعض الأحيان. ذلك لا يمكن تصويره على أنه إشارة مرور حمراء تلزمنا بالوقوف، فمسار الأحداث يوجب علينا تدخلاً علنياً ولو عن طريق الإمساك بسلك كهربائي عار.
لقد عاش الشارع الفلسطيني حالة من السبات قبل اندلاع انتفاضة عام 1987، إذ تم تخديره بمستحقات مالية ليست بالقليلة، والشاهد على ذلك العصر لا يمكنه أن يتوقع ثورة لهذا الشعب، فالأوضاع باتت في أحسن أحوالها في ذلك الوقت، وبدأت محاولات تغييب الشارع الفلسطيني عن حالته الثائرة، وهو ما جعل فكرة الثورة أمراً غير وارد حينذاك، واستمر ذلك حتى قبلت إسرائيل بعملية تبادل أسرى عام 1985. فالتقى الشارع الفلسطيني المغيّب مع نخبة جديدة ما زالت تحمل الهمّ الوطني الخالص. وهنا، على وجه التحديد، بدأ دور جديد لإعادة شحن الشباب وتفجير طاقاته وإشعال روح الثورة.
عام 1987 أشعلت حادثة الشاحنة الصهيونية التي دهست العمال الفلسطينيين الانتفاضة، وسرعان ما تشكّلت لها قيادة، لتكتشف أجهزة الأمن الإسرائيلية أنّها كانت واهمة حين اعتقدت أنّ الفلسطينيين قد رضخوا وقبلوا بحياة منقوصة، وأن فرحتهم بتلقي المال تفوق عشقهم لقضيتهم. وكان الرد الإسرائيلي هو الهجوم على المناطق الفلسطينية وتنفيذ الإعدامات والاعتقالات التي طالت الجميع، ما جعل شرارة الثورة تشتعل وتتمدد، ولم يستطع أحد إيقافها. وعادت للوطن قيمته في العاطفة والذهن الفلسطينيين، وبدأ كل حزب في رهانه على استقطاب الشارع وفق تضحياته. إلا أن الحركة الوطنية بفصائلها المتعددة كانت الأكثر تنظيماً، فالتفّ الشارع حولها، لكنّ التركيز الأمني الإسرائيلي صوبها قد حقق الكثير من أهدافه، مثل اغتيال المناضلين وزجّهم في السجون التي امتلأت بالآلاف منهم.
هذه الضربات فتحت الباب أمام حركات الإسلام السياسي لاستغلال "الحماس الديني" المُرافِق للوطني، في حركات استقطابيّة واسعة، بدأت بالإعلان عن نفسها ككيان آخر مواز للقوى الوطنية. وسرعان ما كشفت عن وجهها فعبّرت عن أيدلوجيتها التي تعشش فيها فكرة الخلافة، بالإضافة إلى بعض الأساطير والرموز الدينية، وأطلقت شعارات مبنية على تكفير من هم خارجها، بعد أن منحتها قوتها وتسليحها والأموال الضخمة التي تتلقاها شعوراً يفتقر إلى النداء الإنساني الذي يرفض كل شيء يبخس قيمة الوطن.
أولوية الفلسطيني بين فكرتي الدين - الوطن
الثابت أن إسرائيل لا تحترم مندوباً ولا حارس حدود، لأنها تجيد اللعب على المحاور، وسوابقها كثيرة في استغلال غفلاتنا. فمع مساهمتها في تسهيل خلق ورقة الإسلام السياسي لتفتيت القرار الفلسطيني، ولا يكون له عنوان واضح، وذلك منذ أوائل السبعينيات، حين أدركت قوة الثورة الفلسطينية وسهلت عملية ترخيص المجمع الإسلامي (البذرة الأساسية التي أدّت إلى ولادة حماس والإسلام السياسي) وقامت بالسماح بترخيصه - حسب تصريح الشيخ أحمد ياسين في مقابلة على قناة الجزيرة عام 1999.
دولة الكيان لا تريد الفلسطيني الذي يقاتل من أجل الوطن، بل تريد ذلك المفكّك الذي سيقاتل من أجل الدين، وربّما التحكّم في توجّهاته الدينيّة - مثل نداءات قتل المسلم المرتدّ وتطهير البلاد كأولويّة، وهو ما شهدناه في أحداث الانقسام عام 2007، وقبلها وبعدها في محطّات كثيرة، وإذا رفض الانخراط، يتمّ إرساله لقتال الكفّار على جبهات أخرى بعيدة، وينفّذ نداء الله والدعوات للقتال في أفغانستان في الوقت الذي كان فيه الشعب يخوض انتفاضته الثانية.
هذه الضربات فتحت الباب أمام حركات الإسلام السياسي لاستغلال "الحماس الديني" المُرافِق للوطني، في حركات استقطابيّة واسعة، بدأت بالإعلان عن نفسها ككيان آخر مواز للقوى الوطنية
المدين بفلسفة سيد قطب المستوردة من مكاتب الإرشاد خاوٍ، تمّ إفراغه من فكرة الوطن في مقابل فكرة الأمير والحزب. ولا يمكن لمفاوض أصولي أن يطالب بإزالة مستوطنة أو عودة لاجئ. ولأنه من الممكن مساومته على مبنى أو قطعة أرض صغيرة يؤمن بقدسيتها كنقطة انطلاق لمشروعه ، فهو الأكثر تفضيلاً للإسرائيلي في لقائه ومفاوضته، كما حدث في نتائج الحروب الأخيرة على غزة أعوام 2008، 2012، 2014 والتي خلت من الحديث عن أي مطالب وطنية تتعلق بالثوابت.
كيف تحول الواقع الفلسطيني؟
في الشق المقابل كانت منظمة التحرير تقوم بالتحضير لاتفاق إعلان المبادئ في أوسلو عام 1993، ببنوده السرية، وطلاسمه الغريبة، وتم التوقيع عليه في واشنطن. انتهت الانتفاضة باستقبال المناضلين ومحرّري السجون الأسرى والمطاردين الذين اعتقدوا أن معاناتهم قد انتهت، ليبدأ هذا المنعطف الجديد الذي تحول فيه المناضل والثائر إلى موظف وضابط أمن يخضع لقيود واشتراطات ورقابة أمنية تفرضها السلطة ونظامها الذي يتبنى طريق التفاوض والتنسيق الأمني. هذا الطريق الذي تركها في مواجهة مع حركة حماس ونشاطها المناوئ لاتفاق أوسلو. اغتيل عرفات قبل أن "تُرسي الدولة قواعدها"، وأُعلنت الانتخابات الفلسطينية عامي 2005 و 2006، ونجحت حماس في حصد أغلبية كاسحة في المجلس التشريعي لتتشكل حكومة برئاسة إسماعيل هنية وتبدأ أحداث الاقتتال ما بين حماس وفتح عام 2007، لينتج عنها السيطرة الكاملة لحركة حماس على قطاع غزة.
وإذ تكشف نتيجة الانتخابات عن مشروعين متناحرين شكلاً ومتفقين جوهراً ومضموناً ليجد الشعب الفلسطيني نفسه عاجزاً عن طرح مشروع جديد؛ خاصةً بعد تعثر ولادة مشروع حل الدولتين الذي تبنّاه مؤخراً الطرفان، وأصدرا شهادة وفاة بحقه في الوقت ذاته، وترفقها شهادة ميلاد لشكل جديد مرتقب من روابط القرى. لعلّها انتكاسة صاغتها هذه الحفنة التي أنبتت فلسطينياً جديداً مطوّعاً وطنياً وفق رغبات متطلباته المعيشية بشكل منفصل عن طموحاته التحررية، وبعيداً عن الاستعراضات الفارغة، إذ أصبحت مناقشة مسألة القدس واللاجئين أمراً مثيراً للغرابة، وسقطت من مخيّلة قيادات السلطة، حيث جعلوها تنغمس في مستنقع العوز والحاجة.
صراع التمثيل وبداية تأبين المطالب الوطنية
صراع التمثيل الذي تحوّل لصراع جدلي حول الأحق بقيادة المشروع، دفع الجميع إلى الهبوط والتجرؤ على القيم بتقديم عروض مجانية ، وفتح "أوكازيون" من التنازلات التي تخلو من النزق الثوري لنيل الرضى الأمريكي والإسرائيلي، كي تسمح لهما بالجلوس على كراسي لاعبي الاحتياط علّهما يحظيان بفرصة. فهذه الإرادة الفلسطينية الجديدة التي تشكلت كنتيجة حتمية لحالة الشبق إلى امتطاء السلطة الذي يخلق حياة موازية تراوح ما بين المال والامتيازات، دفع إسرائيل إلى إزاحة الستار عن مسار جديد في التعامل مع الفلسطينيين، وهو مسار يخلو من التفاوض والنقاش حول القضايا الوطنية المبدئية. أصبح الحال الآن يُختصر ويُجتزأ بالقضايا المعيشية والخدماتية التي لم يعد يجرؤ أحد أن يتحدث خلافاً لها.
تكشف نتيجة الانتخابات عن مشروعين متناحرين شكلاً ومتفقين جوهراً ومضموناً ليجد الشعب الفلسطيني نفسه عاجزاً عن طرح مشروع جديد؛ خاصةً بعد تعثر ولادة مشروع حل الدولتين الذي تبنّاه مؤخراً الطرفان، وأصدرا شهادة وفاة بحقه في الوقت ذاته
كل تلك العروض كانت متاحة أمامنا ولم تكن هناك حاجة لإدارة يترأسها وزير يعقد اجتماعات ويزف بشرى قدراته الخارقة في انتزاع بعض التصاريح وبطاقات لم الشمل، أو طرف آخر يسلك نفس المسار متنكراً خلف مشروع مقاومة كبير يستقطب الناس ويقبل المقايضة على حالة الهدوء مقابل أشياء يحسبها رخيصة وهو يعلن جهاراً أنه مشروع شهادة.
وبالرغم من جملة التنازلات الراهنة، لا يزال الجدل السفسطائي يشغل حيزاً كبيراً لأن نهايته تكتب انتهاء عصر ظلام طال أمده، لذا فالكل يتشبث بإحيائه في كل مناسبة مستغلاً أن الرأي العام مغيّب تجاه حالة الدفاع عن القيم والثوابت في المناطق المنكوبة.
وتبقى ألسنة الساسة في كل مناسبة متباهية بانسجامها التام مع مقترح حل الدولتين، على الرغم مما آلت إليه الوقائع التي تكشف عن استحالة تطبيقه؛ فالخارطة المتشذرة المتآكلة بفعل الاستيطان والطرق الالتفافية لم تعد تسمح بحيز متاح للتفاوض عليه. والسؤال هنا، هل نحن بحاجة لمشروع خارطة سياسية وجغرافية جديدة يعيد صياغة الوجود الفلسطيني وتثبيته على الأرض؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...