تقدم حكاية "الأميرة وحبة الفول" الشعبية منظوراً مختلفاً للتعاطي مع تناسخ الأجيال، أو ما يصطلح على تسميته بالتقمص، كناية عن ارتداء الروح للبوس بشري. إذ تحكي عن أميرة تشردت ولجأت إلى إحدى الأسر النبيلة، فاختبروا معدنها الأصيل من خلال جعلها تنام فوق طبقات من الفرش بلغت الأربعين، بعد أن وضعوا في أسفلها حبة فول، لتستفيق الأميرة، وهي تشعر بأثر الحبة، دون أن تعرف بأمرها.
طبقات الأسرار والحيوات المتراكمة
قد تبدو الفكرة على المستوى الظاهري ساذجة جداً، اذ ما المعنى الذي يمكن أن يقودنا إليه الشعور بأثر حبة توضع تحت طبقات الفرش الكثيرة، والتي هي عملياً غير ممكنة؟ إلا في حال ذكرتنا بطبقات الأسرار والحيوات المتراكمة، فوق بعضها البعض لدى كل إنسان، فتتجاوز "النبالة" هنا معناها الحرفي لتغدو تعبيراً رمزياً عن صلة الروح العميقة بأصل الأسرار وقدس الأقداس. وبالتالي، سيشكل اختفاء سر قديم تحت طيات "الأغلفة، القمصان"، وبقاء أثره في شكل إلحاح غامض، دعوة للخروج من شرنقة المخاوف، ومواجهة التحديات اليومية برؤية متجددة.
واذا استقرت الحبة تحت الطبقة الملاصقة للقميص الجديد، فإن ذكريات الحياة السابقة تنهض حية مذخّرة بتفاصيل الألم والمتعة والخذلان، بحيث تعيق الاستجابة إلى شرطية التجربة الحياتية الراهنة، فيحفز عدم تقبل النهاية المفاجئة لدى المفارق لجسده، والتي تتأتى غالباً عن الإنهاء القسري للحياة البحث عن العدالة، وعن الحب غير المحقق. وهو ما يمكن تلمسه في رواية "سرمدة" للكاتب السوري فادي عزام، من خلال شخصيتي هيلا منصور والراوي الباحث عن المغزى، من تداخل الحكايات ببعضها تحت ظلال قوانين النسخ والمسخ والرسخ والفسخ الصارمة التي تحكم حيوات أبناء الطوائف الباطنية.
قوانين النسخ والمسخ والفسخ الصارمة التي تحكم حيوات أبناء الطوائف الباطنية وتداخل المصائر والحكايات... رواية "سرمدة" للكاتب السوري فادي عزام
رواية سرمدة
يقارب عزام الحدود الوهمية بين مفهومي الـ"أنا" والـ"أنت" من خلال العنف الجنسي ضد المرأة المتلازم مع سطوة الرغبة في إخضاعها، ويوزع هواجسه وفق ثلاث شخصيات نسائية، تتداخل أقدارها، فتدشن هيلا مقطوعية الدم، حين تغرم بشاب أمازيغي من خارج الملة، وتهرب معه حقناً للدماء، فيما توسع فريدة نطاق ثنائية الموت والشهوة، لتضع بثينة قسوة القصاص موضع التنفيذ. وما بين الثلاثة يضجّ الجبل بأصداء الهمسات المكبوتة وسطوة الألم الذي تكرسه العزلة والتشدد الطائفي.
وتحت شعار الخيال أهم من المعرفة المحكومة بالمحدودية، يحول عزام الحقيقة إلى وهم ثابت، يتخلق بمقتل الشابة الدرزية هيلا على يد أشقائها الخمسة، لتتقمص من جديد في لبنان ويصبح اسمها عزة توفيق. ولأنها ناطقة، وبالتالي تحتفظ بذكريات حياتها السابقة، فإنها تعيش بين عالمين، وتتمزق بين الألم والكراهية والأمل بنيل الصفح والغفران من مجتمعها الذي وصمها بالعار. بالمقابل يشرع لقاء الراوي مع عزة في باريس رحلة التصالح مع الذات، فيدرك زخم الحياة والصخب والغضب في قريته سرمدة، ويلمس من خلاله الأسئلة الكبرى التي لازمته طوال ثلاثين عاماً. فيعيد تأمل كل شيء بذهن مفتوح، يمنح للحكايات الواقعة تحت قانوني الثواب والقصاص مغزاها، حتى وإن انتهكت قسوة الانتقام براءة الأطفال ودموع الأمهات الثكلى، وحزن بلد شرخته نكسة الأيام الستة.
تدشن هيلا مقطوعية الدم، حين تغرم بشاب أمازيغي من خارج الملة، وتهرب معه حقناً للدماء، فيما توسع فريدة نطاق ثنائية الموت والشهوة، لتضع بثينة قسوة القصاص موضع التنفيذ
تجسد الخروج عن الأعراف الطائفية في دمل ظهر على يد هيلا، واستعصى، خلال سنوات هروبها مع زوجها الأمازيعي، على العلاج، فترجمت رمزيته بالمجاهرة بالعودة إلى قريتها لتفقأه بنفسها. وبذلك أعرضت عن دوامة الحقد والكراهية، وقطعت على أهل سرمدة طريق الغيبة وشرف تداول حكاية سرية من فم لآخر، وبالتالي اختارت قدرها وتلقت نهايتها بتسليم فريد. ليلتقط الراوي شهوتهم إلى حكاية أخرى تتهيأ للحدوث من خلال شخصية فريدة، ورغبتهم في مسح آثار الموت الدامغ، التي يعزوها إلى حياة البلادة وعدم قدرة المكان على احتمال شعور طويل بالذنب.
تقدم حكاية فريدة نمطاً استثنائياً للفريسة الأنثى التي تنقلب على ذاتها لتصبح صائدة الفرائس الغضة في دوامة الشهوات المكبوتة، لتحبك انتقامها الصامت من القدر الذي اضطرها لكي تعرض نفسها كزوجة على رابح في القمار بقرية لبنانية، لتقايض قدرها بآخر مغاير لما رسم لها كفتاة يتيمة تجتر هوان الإذلال. لكن رصاصات العرس الكثيرة التي استعرضت كبت الرجولة المهدورة، في بلدة تسامحت مع ذبح صبية كما تذبح الشاة، أنهت الاحتفالات الصاخبة برصاصة طائشة استقرت في صدر العريس. وبذلك تحولت فريدة إلى أرملة سوداء، رعت أزهار الشر في سرمدة عبر تحويل مراهقيها إلى رجال، مقابل الاحتفاظ بأزرار قمصانهم، وخياطتها على قماش خام أبيض، تم تكفينها به حين انتهى أجلها، أما بثينة فأنجزت انتقامها من أرملة أخيها فريدة، حين لوثت طفلها الصغير الذي أنجبته من أحد فرائسها.
تتبدى سخرية عزام في أوجها في حيرة آل منصور أمام تهور الأخ الأكبر، وتسليمه الأخ الصغير بيديه لأحضان رذيلة دفعوا ثمنها دماً، لينسحب اثنان من الإخوة الى خلوات البياضة في لبنان، وهي المكان الوحيد المتبقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. بالمقابل، ينسحب طفل من سرمدة تعرّض للتنمّر من الحياة وينضم إلى المجلس الدرزي لكي يحمي مؤخرته، لأن قداسة الشيخ لا يطالها التحرش. وما بين القصتين ينهض العرفان الدرزي بلسماً للأم الثكلى، بينما يركن الجُهال إلى يقين التقمص، الذي يسوغ لهم إهدار أحد الأجيال/الأقمصة في الفراغ. وحين يكبر ابن فريدة يعود إلى بثينة التي انتهكته طفلاً، فيهدئ شهواته الصاخبة، ليركن بعدها إلى كلمات آرثر رامبو المنسوجة ضمن فراغ الشهوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين