تقطع الفرق القادمة من القرى والمناطق الريفية القريبة والبعيدة في سوريا، مسافات طويلة للمشاركة في معارك تدور رحاها على حلبة صغيرة الحجم، دائرية الشكل، تتلطّخ أرضها وأطرافها بالدماء. وما أن تبدأ معارك الديوك المتعطشة للمصارعة كتعطش أصحابها للفوز على الخصم، حتى ترتفع أصوات المشجّعين بالهتاف للديك المستهدف.
تحقيق الفوز هو حلم جميع من يشتركون في قتال الديوك، إذ يجلب الديك الفائز السعادة والفخر لصاحبه، لأن هذه الرياضة بالنسبة إليهم، كغيرها من الرياضات الأخرى المعروفة لدى الجميع، سواء كرة القدم أو الملاكمة أو غيرهما.
البدايات
بدأ أحمد الحلبي، هوسه بتربية ديوك القتال منذ الصغر، إذ نشأ على حب امتلاكها وتربيتها منذ أن كان والده يقوم بتربيتها، أي منذ العام 1995، في إحدى القرى في محافظة اللاذقية. وكانت التربية بدايةً بدافع الهواية فحسب، ولم يقحم ديوكه حينها في القتال. ولكن أحمد عندما كبر ازدادت محبّته لهذه "السوسة"، وأخذت جلّ وقته، ولم يُبقِ هذه التربية على حالها، فقام بتطوير السلالة والمشاركة في حلبات المصارعة التي تزيد من حماسته، كغيرها من الحلبات التي يحضرها للتسلية من جهة، ولتحقيق المنفعة المادية عبر بيع الديوك الفائزة من جهة أخرى.
هناك أنواع كثيرة للديوك منها السوري، والتركي، والتايلاندي، والبرازيلي، وتتميّز بألوانها المختلفة إذ لا يوجد لون معيّن لديوك القتال
وبالرغم من تنقل أحمد بين مناطق عدة ضمن محافظة اللاذقية قاصداً العمل، إلا أنه كان يحرص دائماً على نقل هذه الدجاجات والديوك معه، فهو لا يتخلى عنها أبداً ولا يتخيّل نفسه يوماً يستيقظ من دون أن يمتّع نظره بديوكه، وهو الذي عمل لسنواتٍ طويلة على تحسين بذرتها وتطويرها، فجلب الدجاجات "الأمّهات" من تركيا، وقام كغيره بتربية السلالة التركية التي تتميّز بالتحمّل والثبات والقوة وأوزانها الخفيفة، بالإضافة إلى الأنواع التايلاندية.
هناك أنواع كثيرة للديوك منها السوري، والتركي، والتايلاندي، والبرازيلي، وتتميّز بألوانها المختلفة إذ لا يوجد لون معيّن لديوك القتال. أحمد قام بتحسين البذرة وتطويرها في إنتاج ديوك مقاتلة، من خلال وضع دجاجات مع ديوك مختلفة الأنواع متخصّصة في القتال، إلا أن أساس السلالة هي الدجاجة التركية، حتى تم في سوريا تطوير سلالة أفضل من التركية بإنتاج ديوك مميزة سُمّيت الديك السوري، وتحوّلت سوريا إلى دولة مصدّرة لها إلى الخارج.
ويتميز الديك السوري بقوّته وثباته في المعارك، حتى أن أحاديث المهتمين بهذه الأنواع في القرى أسرفت في مدح جودة السلالات، ونسبتها إلى اسم المربّين، ومنها بذرة المربي أحمد الحلبي، وبذرة المربي حبيب سكيف، وبذرة المربي حسن قرميد، وبذرة سامر علي، وغيرهم من المربّين المحترفين.
التدريب والغذاء
يقوم أحمد بتدريب الديوك وهي صغيرة، على حلبة في مكان إقامته تشبه الحلبة النهائية التي سيتصارع فيها الديك مع خصمه، وعندما يصبح الفرخ (الديك الصغير)، في عمر 10 أشهر، يتم إدخاله إلى حلبة التدريب مع فرخ آخر. وبما أن القتال يكون بالنقر والضرب بمخلب رجله الخلفي، يقوم أحمد بوضع "الغامات" لتغطي المخلب لحماية الديوك في أثناء التدريب، إذ يمكن أن يصيب منافسه بجروح قاتلة. أما في حلبات القتال، فلا توضع هذه الغامات وتُترك المخالب مكشوفةً حتى يؤذي خصمه ويفوز أحدهما في النهاية.
وتخضع جولات التدريب لقواعد التوقيت الزمني والاستراحة، وتنتهي خلال خمس دقائق من القتال، وبعدها يقوم أحمد بإيقاف الديوك وإبعادها عن بعضها لإراحتها، ومن ثم تتم إعادتها إلى الحلبة مع زيادة وقت القتال تدريجياً. وبعد خطوات التدريب يتم عزل كل ديك في قفص خاص به، حتى لا يتعارك مع الديوك الأخرى ويؤذيها، كما يقوم بتجهيز حمّام مياه لها، ووضعها تحت أشعة الشمس وقص الريش الموجود على صدرها من أجل إذابة الدهون، وتالياً يصبح جلدها سميكاً "يتحمّل ضربات الخصم"، فتكتسب اللياقة مثل خطوات تدريب الإنسان الرياضي، إذ تتشابه الطريقتان.
تبدأ مراحل تغذية الديك عندما يكون صوصاً فيتغذى على البيض المسلوق، وبعدها تتم تغذيته على الحبوب من قمح، وذرة، وتمر، ومكسرات، حتى يصبح في عمر 10 أشهر فيكون قد اكتسب لياقةً عاليةً، ويصبح متعطشاً لدخول حلبات القتال
يروي أحمد: "تحتاج ديوك القتال إلى غذاء خاص بها، وهو مكلف في ظل الظروف الحالية الصعبة التي تمرّ بها البلاد، فللديك طعامه الخاص حسب المرحلة العمرية، وتبدأ المرحلة الأولى عندما يكون صوصاً فيتغذى على البيض المسلوق حتى يصبح في عمر الشهرين، وبعدها تتم تغذيته على الحبوب من قمح، وذرة، وتمر، ومكسرات، حتى يصبح في عمر 10 أشهر فيكون قد اكتسب لياقةً عاليةً، ويصبح متعطشاً لدخول حلبات القتال".
ذكريات الحلبة وقوانينها
يبدأ الاستعداد وتفقّد جاهزية الديك قبل الذهاب إلى المصارعة، وبعدها ينطلق أحمد وإخوته مصطحبين معهم الديوك إلى مكان الحلبة التي يأتي إليها المربّون من مختلف القرى والمناطق حالمين بالفوز، ويُسمّى كل فريق نسبة إلى المحافظة التي أتى منها، مع العلم أن محافظة حلب كانت من أكثر المدن شهرةً في حلبات مصارعة الديوك التي كانت تُقام في المدينة كل يوم جمعة، ويأتي إليها الناس من جميع المناطق، حتى من لبنان، ولكن توقفت هذه المباريات بعد تعرّض سوريا للحرب ولكن استمرت التربية، لتنتشر هذه المباريات في المنطقة الساحلية، حيث خُصّص لكل حلبة يوم معيّن من الأسبوع، فيوم الخميس في محافظة اللاذقية، والجمعة في محافظة طرطوس، والأحد في مدينة جبلة عين شقاق، وكذلك يوم الجمعة في منطقة الغاب، وجميع المباريات تبدأ من الساعة السابعة مساءً ويستمرّ القتال طوال الليل وينتهي في صباح اليوم التالي.
وتحكم هذه المباريات شروط وقوانين تحدّد الفوز والخسارة للديوك، إذ تُخصص ساعتان لكل جولة قتال بأوزان وأطوال متساوية للديكين المتصارعين، ومن الأوزان 3 كيلوغرامات ونصف، وأخرى تصل إلى 5 كيلوغرامات، وبعد مضيّ 13 دقيقةً على المصارعة تتم إراحة كل ديك وغسله بالمياه لمدة دقيقتين، ومن ثم يُستأنف القتال بينهما، ومن الممكن أن تنتهي المباراة في وقت قصير، أما في حال انتهت الساعتان بثبات الديكين على الحلبة، فالنتيجة تكون التعادل بين الفريقين، والديك الذي ينسحب ويهرب أو يجلس على الأرض يكون الخاسر حتماً، أما الديك الذي يربح فمصيره البيع خارج سوريا بسعر مناسب يعود بالفائدة على صاحبه، وأكثر الدول التي تشتري هذه الديوك هي العراق، وقطر، والبحرين.
يعتبر مربو الديوك أنها مثل الرياضيين، فلكل ديك سعره الذي يتناسب مع أدائه، يهتمون به كاهتمامهم بأنفسهم، فيما يميل بعض المربين إلى تحسن النسل من دون خوض المباريات، وأبو أحمد عمل 40 سنة على تحسين سلالته وهو يتباهى اليوم بديوكه المميزة
يتحدث أحمد عن مفهوم الربح والخسارة، ويقول: "هذا العام أخذت معي ثلاثة ديوك للقتال على الحلبة في محافظة طرطوس وحققت الفوز في جولتين، أما الديك الثالث فلم يحظَ بخصم لقتاله، فقمت ببيع الديوك في سوريا، ويتم شراء الديوك حسب الأداء، تماماً مثل اللاعب الرياضي، ولكل ديك سعره الخاص حسب مميزاته، وليست هناك مزادات للبيع، وحالياً أصبحت تربية الديوك مكلفةً نظراً إلى ارتفاع أسعار الأعلاف والمستلزمات".
يستذكر شقيق أحمد بعض الذكريات الجميلة على حلبات المصارعة، عندما تعرّض ديكه في إحدى المباريات لضربة شبه قاضية في الدقيقة الـ12 وأصبح غارقاً في الدماء. شعر حينها بأن ديكه سيموت على أرض الحلبة ويخسر، ولكن ذلك كان عند الدقيقة الـ13، وهي فترة الاستراحة المخصصة للديكين فقام بتغسيله بالمياه وتدليكه حتى يتم تشجيعه على القتال مرةً أخرى، وعندما وضعه على الحلبة انتصر من الضربة الأولى على الديك الخصم، وغمرت الفريق السعادة وصيحات الفوز. وبالرغم من الفوز، رفض بيع الديك لأنه لم يخذله في أي مباراة، واحتفظ به من أجل تحسين السلالة.
وتمتنع الفرق عن ذكر اسم الفريق الخاسر حتى لا تظهر مشاعر الغضب من الخسارة، بل يتم ذكر اسم الديك الخاسر فقط، فالمربي يطلق تسميةً معيّنةً على ديكه منذ الصغر، منها أبو شنيور، والمحظوظ وأسماء كثيرة أخرى، ولا تدخل المنشّطات في هذه المباريات نهائياً، بل يتم التركيز على تغذيتها بالمكسرات والبيض المسلوق، والتمر، وتبلغ مدة قتال الديك على الحلبات أربع سنوات فقط، ويعيش الديك 15 سنةً أو أكثر.
وتوجد فترة تتوقف فيها المباريات، وهي خلال الأشهر 7 و8 و9، التي تُعدّ فترة استراحة للديوك لأن الطيور تبدّل ريشها في هذا الوقت، ومن ثم يتم استئناف المباريات بعدها.
الوفاء لتربية الديوك
بوجود أشخاص آخرين يقومون بالتربية فقط من دون الاشتراك في القتال، يتفاخر المربّي حبيب سكيف "أبو أحمد" بقِدَمه في هذه التربية بقصد تحسين السلالة فحسب، ولم يتخلَّ عنها خاصةً أن صديقاً قديماً له كان وراء دخوله إليها. يتحدّث أبو أحمد عن سلالته المتميزة والمحسّنة (تركية وتايلندية)، التي توصّل إليها طوال تجارب 40 عاماً مع الاحتفاظ بنوع الأمهات التركيات، "فتربية الديوك تُعدّ مصدر رزق لي إلى جانب الزراعة وتربية الأبقار، بالرغم من المعاناة الكبيرة التي نعانيها بسبب ارتفاع تكاليف التربية وانتشار الأمراض".
تعود السلالة الصافية للديوك، إلى الأمهات التركيات، فعندما يريد المربي إنتاج ديك سريع وثابت يتم وضع دجاجة تركية مع ديك تايلاندي
من جهته، لم ينقطع المربّي عبد المنعم محفوض، من قرية شطحة في منطقة الغاب عن تربية ديوك القتال منذ ثمانينيات القرن الماضي، فقد توارثها عن أجداده، واشترك في حلبات القتال في سوريا وخارجها، إذ ذهب إلى لبنان عام 2002، وربح في ثلاث جولات بإشراك ثلاثة ديوك في القتال، ولكنه خسر جميع الجولات في تركيا عام 1998، لا سيما أن تركيا هي منبع بذرة ديوك القتال.
في إحدى الجولات في سوريا، اشترك عبد المنعم بديك من وزن 4.6 كغ، فقام بقتل الطير الخصم بالضربة القاضية، ومن التسميات التي أطلقها على الديوك (الزير والماوردي...)، ويحكي أن "الديك التايلاندي سريع في القتال، والديك التركي ثابت في القتال، والديك الباكستاني قاسٍ في القتال، والديك الياباني يعتمد بشكل أكبر على المخلب الخلفي".
المراهنات في قطر
وتعود السلالة الصافية للديوك حسب محفوض، إلى الأمهات التركيات، فعندما يريد المربي إنتاج ديك سريع وثابت يتم وضع دجاجة تركية مع ديك تايلاندي، مع العلم أن السلالة الصافية تنتج الديوك أكثر من الدجاجات، أما في حال لم تكن السلالة جيدةً، فتكون الدجاجات أكثر من الديوك، ويشير إلى أن أحد أصدقائه المربين اشترى قبل أيام قليلة ديكاً أمريكياً بسعر كبير بلغ 13 مليون ليرة سورية، بسبب تكاليف الاستيراد، والهدف تحسين السلالة مع الدجاجات التركية.
يمتنع عبد المنعم عن إعطاء بيض، أو حتى دجاجات، إلى الآخرين، إذ يفضّل ذبحها على أن يعطيها لغيره، والسبب حتى يمنع انتشار سلالته عند منافسيه، فيحرص كل مربٍّ على الحفاظ عليها في حين يقوم بإعطاء الديوك، فالأساس في السلالة دائماً الأمّهات.
ويقوم الهواة القطريون كما يبيّن محفوض، بشراء ديوك القتال الفائزة في سوريا، للاشتراك في المصارعات في قطر لأنها منتشرة هناك بشكل كبير، ويتم الاشتراك في المصارعات من خلال المراهنات، فصديقه في قطر خسر مؤخراً أربع شاحنات نقل بسبب خسارة ديكه أمام ديك آخر، وحالياً يتواصل مع المربّين في سوريا لشراء ديك قتال متميز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...