من سندريلا إلى سنووايت وبيل في فيلم "الجميلة والوحش"، لطالما ارتبطت كلمة ديزني في ذهن المشاهدين/ات بأفلام الأميرات اللواتي يعانين من أزمات معيّنة، ثم يجدن الحل المتمثل في قدوم الفارس الوسيم على الحصان الأبيض، لكن في السنوات الأخيرة، حدث تحول تدريجي في أفلام ديزني، بداية من فيلم Frozen الذي خدع فيه النبيل هانز الأميرة آنا، ولم تجد الملكة السا نهايتها السعيدة في قصة حب، بل أحبت ذاتها كما هي، واستعانت بدفء علاقتها بأختها.
أصبح لدينا بطلات وشخصيات فرعية من النساء القويات القادرات على حل مشاكلهنّ بدون ذكور وأصحاب عضلات كبيرة يحملوا عنهنّ أعباء حياتهنّ، وبدلاً من الأميرات المراهقات صاحبات البشرة البيضاء الناعمة والملامح الشقراء، هناك بطلة كندية من أصول صينية في فيلم Turning Red، تختبر فترة عمرية تمر بها أي فتاة بشرية، وهي المراهقة، مع كل متاعبها واضطراباتها التي ظلت لسنوات شأناً نسائياً سرياً لا يتم الحديث عنه سوى في الغرف المغلقة وبأصوات هامسة.
الطمث "وصمة" المرأة الأبدية
تدور أحداث فيلم Turning Red حول المراهقة ماي لين التي تتحول إلى باندا أحمر عملاق عندما تختبر أول مشاعر الإعجاب بذكر في حياتها، تضطرب بالطبع، ثم تكتشف أمها الأمر لتخبرها قصة جدتها الكبرى، والأسطورة خلف تحولها إلى هذا الدب: في زمن قديم في الصين، وخلال الحرب، طلبت الجدة من الآلهة أن تمنحها القوة لحماية عائلتها ونساء قريتها الوحيدات في غياب رجالهنّ.
وبعد الكثير من الإلحاح تحقق مطلبها، وأصبح بإمكانها التحول متى شاءت إلى هذا الحيوان القوي، جالبة الأمن والآمان ليس فقط لمن حولها، وإنما لأجيال من نسلها.
ولكن في العصور متقدمة، باتت هذه القدرة عبئاً على نسوة العائلة، وأمراً يجب إخفاؤه، فتعلمن طقوس تفصل طبيعة الدب عن المرأة حاملتها، وتضعها في قطعة حلي كطوطم للقدرة الخارقة التي امتلكتها وتخلت عنها بمحض إرادتها.
بدلاً من الأميرات المراهقات صاحبات البشرة البيضاء الناعمة والملامح الشقراء، هناك بطلة كندية من أصول صينية في فيلم Turning Red، تختبر فترة عمرية تمر بها أي فتاة بشرية، وهي المراهقة، مع كل متاعبها واضطراباتها التي ظلت لسنوات شأناً نسائياً سرياً لا يتم الحديث عنه سوى في الغرف المغلقة وبأصوات هامسة
ويصبح على ماي لين الانتظار لشهر قمري، حتى تستطيع القيام بهذه الطقوس، وخلال هذه الأيام الثمانية والعشرين تبدأ في التعرف على ماهيتها الجديدة، تتفهم أعراضها الجسدية كباندا عملاقة: إحساسها بالثقل، الشعر الكثيف، تقلباتها النفسية، وفي ذات الوقت تسعد ببعض التحولات، مثل تبلور شخصيتها وإرادتها الخاصة بعيداً عن سيطرة أمها، وقدرتها على الإبهار وإثارة الإعجاب.
الكلمات السابقة قد تبدو حبكة لفيلم خيالي، لكن ألا تُذكّر أي أمرأة تقرأها بشيء حميمي ومتكرر كل شهر قمري مثل بطلة الفيلم؟
الباندا الحمراء ليست سوى مجاز واضح للغاية عن أعراض البلوغ لدى الفتيات، تجربة الطمث الأولى، والتغيرات الجسدية المؤلمة والمخيفة في بعض الأحيان، والتي تحول في النهاية الفتاة الصغيرة ناعمة الجلد، إلى امرأة شابة، تفيض أنوثة وجنسانية مخيفة للمجتمع الذي يحاول قمعها بوسائل مختلفة، سواء بتقاليد عتيقة بالية، أو حتى بعادات خطرة مثل الختان.
الآلهة الأنثى قديماً المرجومة حديثاً
تقودنا أسطورة عائلة ماي لين إلى أسطورة أخرى شائعة للغاية وهي أسطورة الآلهة الأنثى، فتبعاً لها لم يفهم الذكر "البدائي" في البداية ماهية تلك المخلوقة العظيمة التي تستطيع أن تنشئ حياة جديدة كل تسعة أشهر، فقدسها واعتبرها مخلوقة أعلى من الرجل، ولكن على مر السنوات وجرّاء الخبرات المتراكمة لدوره في عملية الإنجاب، وربما انتقاماً من سنوات الإيمان الأعمى السابقة، أو ثملاً بقوته الجنسانية المكتشفة حديثاً، بدأ الرجل في عمليات ممنهجة لإضفاء طابع الإثم والدنس على كل ما يتعلق بالمرأة.
الباندا الحمراء ليست سوى مجاز واضح للغاية عن أعراض البلوغ لدى الفتيات، تجربة الطمث الأولى، والتغيرات الجسدية المؤلمة والمخيفة في بعض الأحيان، والتي تحول في النهاية الفتاة الصغيرة ناعمة الجلد، إلى امرأة شابة، تفيض أنوثة وجنسانية مخيفة للمجتمع الذي يحاول قمعها بوسائل مختلفة
لعلّ أحد أهم علامات هذا الدنس كانت الطمث، وقد ارتبط الدم طويلاً بالشر والموت، فأصبح هذا الموعد الشهري للنساء دليلاً إضافياً لدى البعض على مدى تدني هذه المخلوقات، هذا وقد اعتبرها بعض الفلاسفة مثل أرسطو أقرب إلى البهائم منها إلى البشر.
وعلى مر السنوات بدأت العديد من الأنظمة الاجتماعية في التعامل بوحشية مع الطمث والنساء، ففي بعض الثقافات كانت تُحبس المرأة خلال فترة الحيض، وفي حضارات أخرى كانت تعتبر نجسة، ممنوعة من لمس أي شيء في المنزل أو طهي الطعام، وبالطبع ممنوع عليها الاقتراب من زوجها، حتى لا تصيبه بهذا "المرض" غير المفهوم، والذي يرتبط بصورة سحرية بالقمر في دورته الشهرية.
طوطم جنسانية المرأة
ارتبط تحوّل ماي لين إلى الباندا الأحمر بأول مشاعر حقيقية تشعر بها تجاه فتى، اختلط لديها الجذل بإثم الخيالات الجنسية الأولى، ليقودنا الفيلم إلى الخوف الأكبر في المجتمعات من المراهقات وتغيراتهنّ الجسدية، وهو الهلع من جنسانية المرأة الشابة التي لا يمكن السيطرة عليها، الأمر الذي يعيدنا مرة أخرى إلى الإنسان البدائي، الذي ارتعب من قدرة المرأة الجنسية المتجددة، على عكس قدراته المحدودة بعضو ذكري لا يمكن الاعتماد عليه دائماً في إرضاء شريكته، فكان الحل وصم جنسانية المرأة بالدنس: يرغب بعض الرجال في الجنس لكن "يحتقرون" من تمارسه معهم، يبرؤون اللواتي يكبحن الرغبات الجنسية، بينما يصفون الأخريات بكلمات نابية.
كان على ماي لين أن تتخلى مثل جدتها وأمها وقريباتها عن مشاعرها الجديدة، أن تضعها في طوطم رمزي يذكرها بما يمكن أن تحصل عليه، ويتوجب عليها اخفاؤه وطمسه حتى يرضى عنها مجتمعها، لكنها اتصلت بهذه الباندا الحمراء الدافئة، بجنسانيتها، لم تعد تستطيع التخلي عن هذه القوة التي اختبرتها للمرة الأولى.
مثلت الأم والجدة هنا القواعد الاجتماعية التي تنظم حياة الفتيات المراهقات، وتؤهلهن إلى أن يصبحن نساء "مدجنات"، يخجلن من متطلباتهنّ الجنسية، والنظر إليها كحلية لا يحتجن إليها لكنها مكملة لأدوارهنّ الاجتماعية وقت الحاجة، فتصبح تلك الجنسانية مجرّد حلق أو إسوار، أي زينة لكن ليس لها استخدام حقيقي.
في بعض الثقافات كانت تُحبس المرأة خلال فترة الحيض، وفي حضارات أخرى كانت تعتبر نجسة، ممنوعة من لمس أي شيء في المنزل أو طهي الطعام، وبالطبع ممنوع عليها الاقتراب من زوجها، حتى لا تصيبه بهذا "المرض" غير المفهوم، والذي يرتبط بصورة سحرية بالقمر في دورته الشهرية
يظهر التناقض بين ماي لين المراهقة المنفتحة على العالم والتجارب الجديدة والأم المتزمتة القلقة بوضوح حتى بصورة بصرية، فارتبطت الشابة باللون الأحمر، لون الخطر، المغامرة، القوة، والدم، ليس الدم السيء، لكن دم الطمث الذي يحمل الفتاة إلى مرحلة أكثر قوة ونضج، بينما التزمت الأم باللون الأخضر الذي يحمل دلالات معينة في الثقافة الصينية، فهو لون الهدوء والسكينة، والانسجام مع العالم.
المرة الوحيدة التي ارتدت فيها ماي لين الأخضر كانت خلال محاولة إقناع أمها بالحفل الموسيقي الذي ترغب في حضوره، كما لو أنها تعترف أن المعبر الوحيد لتحقيق رغبتها هو الخضوع لسلطة الأم.
تتبادل الابنة وأمها الألوان لفترة وجيزة، تتحرر الأم الناضجة من القيود الخاصة بها عندما يعتريها الغضب من عصيان ابنتها، تصبح باندا باللون الأحمر، ويصبح على الصغيرة إنقاذ أمها من هذه المشاعر العارمة، من قلق الأمومة الذي يغرقها، وتتصالح الاثنتان عندما تعطي الأم لصغيرتها الفرصة لتحتفظ بالباندا الخاصة بها، وأن تتحكم في قوتها الجديدة، تلتصق معها، وتصبح صورة حديثة من الجدة الكبرى، الباندا الأولى.
أثار فيلم Turning Red حفيظة بعض المشاهدين/ات خاصة في العالم العربي، ومُنع عرضه في الكويت على سبيل المثال، ربما بات العالم الغربي مستعداً أكثر لإعادة الاعتبار للأنثى وجنسانيتها، وبدأ يسمح للمراهقات بالتعبير عن أنفسهنّ، في فيلم بطاقم عمل من السيدات، ومع أكبر شركة إنتاج أميركية، ولكن في وطننا، لا يزال أمامنا أميال كثيرة نقطعها، قبل أن نعترف أن الطمث والبلوغ والتغيرات الجسدية والجنسية ليست إثماً ولا وصمة عار، بل جزء لا يتجزأ من حياة أي امرأة طبيعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون