تتميز معظم الأسر العربية بصفات خاصة بها، وتفتخر بشكلها الكلاسيكي "الشرقي" وأصالتها، ويرى من يحبذون هذا النمط، أنه بالرغم من كل ما يشوب العلاقات الأسرية في المجتمعات العربية، لا تزال الأسرة متماسكة ومحافظة على هويتها في المجتمع.
حتى من لا يفضلون ذلك النمط، الذين يعتقد بعضهم أن العلاقات في المجتمع العربي قائمة على النفاق والمحاباة المقنّعة والشكلية، يخوضون حرباً خاسرة في ميدان النزاع بين الأسرتين "العربية والأجنبية" لأن التهاوي المتسارع لكيان الأسرة في أوروبا وأمريكا بات يشبه كرة ثلجية متدحرجة تستنزف طاقة أصحابها.
فوفقاً لبيانات المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي يوروستات انخفض معدل الزواج في الاتحاد الأوروبي من 8.0 لكل 1000 شخص في عام 1964 إلى 4.3 في عام 2019. وفي الوقت نفسه، ارتفع معدل الطلاق أكثر من الضعفَين.
وبالتالي فإن الأسرة العربية شعرت بالتهديد أيضاً كونها أصبحت جزءاً من هذه المجتمعات الأوروبية، وأصبحت في معظم الأحيان تحاول أن تبني هالة ملائكية حول حياة الأهل والأبناء، يجب مداراتها وصدّ أية رياح خارجية من الممكن أن تخرقَها، حتى لو كان هبوب هذه الرياح سيدير عنفات إنتاجية الأسرة وازدهارها.
وبين قوافل المهاجرين العرب إلى قارة الأمان، عائلات قررت اغتنام هذه الرياح، ونصبت شراعها في وجهها لتواكب شكلاً جديداً للأسرة فرضته ظروف مادية واجتماعية، منحيّةً شكل الأسرة التقليدي ومعلنة انتماءها لأسرة بكيان اجتماعي جديد.
أسرةٌ خارج إطار الزواج الموثق
سامي (32 عاماً) ونانسي (27 عاماً) وطفلاهما، عائلة ألمانية من أصول سورية تعيش في منزل صغير بمدينة دوسلدورف دون زواج ديني أو حكومي، ليس لأسباب مادية أو دينية، وليس لأسباب متعلقة باختبار صوابية الارتباط.
"رفضنا أن يكون الرابط بيننا أوراقاً رسمية وشهوداً ومعاملات، نحن نسكن معاً ونعيش حياة سعيدة وأنجبنا طفلين". سامي ونانسي من أصول سورية، يعيشان معاً كعائلة دون عقد رسمي.
يقول سامي لرصيف22: "السبب ببساطة هو أن فكرة توثيق الزواج أو صونه بورقة أو معاملة، مسألة ثانوية تسقط أمام جوهر هذه المؤسسة. أنا ونانسي رفضنا أن يكون الرابط أوراقاً وشهوداً ومعاملة، وها نحن نعيش حياة سعيدة جداً وأنجبنا طفلين وسنكمل حياتنا معاً".
لم تُعر نانسي اهتماماً لتوثيق الزواج وطقوسه وعاداته،إذ قررت العيش مع سامي بعد علاقة حب دامت سنة ومضت في خيارها، وتقول مهندسة المعلوماتية لرصيف22: "أتفهم حرص العائلات العربية على العادات والدين وأتقبل رغبتها. لكن لا أسمح لأي من أفرادها زج هذه العادات في حياتي ومنزلي، حتى أهلي، تقبّلت نصائحهم واحترمت رغبتهم لكن قراري كان حازماً في هذا الموضوع، أنا وسامي المعنيان الوحيدان فيه فقط".
تعيش العائلة في حي بعيد عن مناطق تجمعات الجاليات العربية، وتحاول الاندماج مع طفليهما اللذين حملا اسميهما الألمانيين في المجتمع الأوروبي، وذلك لتقليل عدد المعارك الفكرية التي من الممكن أن تخوضها العائلة بسبب تخليها عن شكل الأسرة التقليدي.
"ليس خوفاً منا بل حرصاً على عدم هدر الوقت" بحسب وجهة نظر نانسي، وتضيف: "لدي القدرة على محاججة مئات العائلات العربية بتفاهة الزواج الموثق، وسذاجة من يوكلون مهمة ربط الزوج أو الزوجة بوثيقة، لكنني أفضل الانشغال بأمور أكثر فائدة، من خوض نقاشات عقيمة مع أشخاص يستثمرون الدين لاستغلال المرأة".
"الوحيدان الذين أضطر لإخفاء قراري عنهما هما جدي وجدتي، فمن الصعب عليهما تقبل هذه الفكرة، فأخفي المساكنة عنهما، ولا أعتبر نفسي منافقاً هنا، بل مدارياً لهما". سامي، يسكن مع شريكته وأطفالهما دون عقد رسمي.
يوافق طبيب التخدير زوجته في رأيها ويرى في توريث هذه الأفكار إلى الأطفال، النهج الأفضل من أجل تربيتهم على احترام رؤيتهم للحياة بمنأى عن الانصياع ل"كليشيهات" مجتمعية جاهزة، ويقول: "الأشخاص الوحيدون الذين أضطر لمداراتهم هم كبار السن، مثل جدي وجدتي، فمن الصعب عليهما استيعاب هذه الفكرة وتقبلها، وليس لدي مشكلة في إخفاء المساكنة عنهما، لا أعتبر نفسي منافقاً هنا، بل مدارياً لعقلية قديمة لا يمكن أن تكون مرنة ولم تعتد عدم التدخل في شؤون الأحفاد واحترام قرارهم".
يضع نانسي وسامي الطفلين (7 أعوام و11 عاماً) في مدرسة صيفية بنظام إقامة كامل في مدينة أخرى، كي تُصقل شخصيتاهما ويتعلما الاستقلالية منذ الصغر بحسب وجهة نظرهما، كما يعتزم الأهل ترك خيار استقلال الأولاد عن منزل العائلة عندما يبلغون السن القانونية.
الأم تعيل الأسرة والأب يرعى الأطفال
وفقاً لهيئة الإحصاء الألمانية تراجعت الصورة التقليدية للأسرة بشكل كبير في البلاد، وانتشر شكل الأسرة التي تنجب دون زواج، أو الأسر التي يغيب فيها أحد الوالدين عن تربية الأبناء، وشكلت هذه الأخيرة ما نسبته 26 بالمئة من إجمالي الأسر في ألمانيا.
وهذا هو حال معظم الدول الأوروبية، التي تنتشر فيها الجاليات العربية بشكل كبير.
استلام الأب زمام تدبير شؤون المنزل ورعاية الأطفال، هو أحد أشكال ابتعاد الأسرة العربية عن شكلها التقليدي وتحولها في أوروبا إلى عائلة غير معتادة في معظم الأحوال، حيث تكون الأم فيها هي المعيلة الأساسية، بينما يقوم الأب بدور رعاية الأطفال والبقاء معهم في المنزل.
يبقى نذير في "بودابست" في المنزل يتدبر مهامه ومهام رعاية الطفلة، بينما تلتزم هبة في دوام الجامعة في مدينة أخرى، مستفيدةً من راتب المنحة الذي يعيل العائلة.
هبة ونذير، طبيبة ومهندس سوريان قدما إلى هنغاريا عبر منحة دراسية حصلت عليها هبة، وتمكنت عبر فيزا المنحة من اصطحاب نذير وطفلتها ذات العام الواحد.
ظروف العمل الصعبة في المجر والتي تتطلب تعلم اللغة الهنغارية، جعلت نذير جليس المنزل في العاصمة بودابست يتدبر مهامه ومهام رعاية الطفلة، بينما تنشغل هبة في دوام الجامعة في مدينة أخرى، مستفيدةً من راتب المنحة الذي يعيل العائلة.
تقول طبيبة الأسنان هبة (28 عاماً): "في سورية كانت أمي تساهم بشكل كبير في دعمنا في تدبير المنزل والطبخ ورعاية الطفلة، لكن في أوروبا أصبحنا أمام واقع صادم، أنا سأدرس وأعمل، ونذير سيتدبر تلك المهام".
شكل الأسرة الجديد يغير ديناميكية العلاقات ضمنها، فمن يرعى الطفلة هو من يقضي معها أطول وقت ممكن، وهو نذير، ما أدى لتعوّد الطفلة على أبيها أكثر من تعودها على أمها، وهو ما ليس معتاداً ضمن الأسرة التقليدية.
هنا تقول هبة التي تدرس ماجيستر في العمل الاجتماعي: "تأمين مستقبل أفضل للعائلة يخدّر تلك الآلام والمصاعب، فنتجاوز العقبات بإيماننا أن هذه المشكلات هي فترة مخاض ستلحق بها ولادة الحياة الجميلة التي كنا نحلم بها عندما كنا في سورية".
سر نجاح الشكل الجديد للأسرة يكمن في نظرة نذير لهذا الواقع الذي لا يرى فيه انتقاصاً من رجوليته أو خدشاً لها، بل رجلاً لبى المهمة التي رتبها له القدر فكان رباً حقيقياً لهذه الأسرة، وهنا تقول هبة: "أثبت نذير نجاحه الاستثنائي في هذه المهمات، ولا يخفي في بعض الأحيان نفاد صبره، لكننا في النهاية نأخذ بيد العائلة لإنجاح قراراتها والوصول بها إلى المكان الأفضل".
في المرونة يكمن السر
في الوقت الذي تلخص فيه بعض العائلات العربية مهمة المرأة في الوظيفة الإنجابية فقط ومكانة الرجل في جني المال خارج المنزل، تمكنت عائلات أخرى من تحدي ظروف قاهرة وعقبات كبيرة، وقدمت نموذجاً للأسرة الناجحة بعيداً عن شكلها الكلاسيكي.
مهما اختلف شكل الأسرة، فنجاحها مرتبط بتقدير أربابها للمهام والمسؤولية المنوطة بهم للإبحار بهذا المركب، بغض النظر عمن يجدف ومن يقرأ البوصلة، وأبرز تجليات تحمل المسؤوليات هذه، هو المرونة تجاه المجتمع الجديد وتجاه أية تغيرات من الممكن أن تطرأ على شكل الأسرة أو تشكيلها، ما دامت بقيت مسيجة بجو صحي قائم على الاحترام والتفاهم ومعرفة كل فرد من أفرادها دوره ومهامه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...