شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"رحت لدِرج الأدوية وصرت أشرب شو ما طلع معي"... عن الأفكار العدمية والميل إلى الانتحار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 18 يوليو 202205:29 م

"إي القرايب ما ترحّموا عليها... أبوها وأمها ترحّموا، بس ما صلّوا عليها؛ دفنوها وخلص"؛ هذا ما قالته فريدة، اسم مستعار، في وصف ما حصل بعد انتحار صديقتها. فتاة مليئة بالطاقة الإيجابيّة تُنهي حياتها، لتؤكد "أنك حين تقرر أن تنهي حياتك، فهو ذنب اجتماعي تحمله معك إلى مثواك الأخير".

كانت صديقة فريدة تُضخّم الأمور. حسب قولها، فإن الأشياء التي كانت تُزعجها وتضايقها أقلّ من عادية. تروي أنها، أي صديقتها، "تعرضت لضغط من أهلها، انعكس رغبةً في تطوير الذات بعيداً عن مسيرة التحصيل العلمي، لكن أهلها أصرّوا أن تأخذ الشهادة الإعداديّة. قررت أن تقطع شرايين يدها، ولا أعتقد أن غرضها كان الانتحار، بقدر ممارسة ما كان دارجاً في مدرستنا، وهو التشطيب بالشفرات. لكن للأسف هذا الأمر كان كفيلاً بإنهاء حياتها قبل سنتين، وهي في الـ16 من عمرها".

تُكمل فريدة: "كانت شخصاً كئيباً، وفي الوقت نفسه كانت تعطي طاقةً إيجابيةً وتحفّز كُل من حولها. حالياً، أنا أشعر بها، وبفقدان الشغف، وعدم الإيمان بكل شي بعيداً عن الدين؛ حرفيّاً تصبحين حياديةً إلى درجة أنكِ لا تغربين بأي شيء. فقط تريدين أن يتركك الناس بسلام".

الوحدة واليأس

"بيوم من الأيام قلت خلص هاد الوقت، وفعلاً رحت لدِرج الأدوية وطلّعت كل شي وصرت أشرب شو ما طلع معي، كان في دوا لمرض عصبي، ورحت نمت، ما فقت لبعد 3 أيّام وليلة وأنا بمشفى وحولي ناس، وحدا عم يبكي ويندهلي: ماما يا عمري أنتِ. طوّلت لاستوعبت إني انصبت بالسحايا، وكنت أقرب ما يمكن للموت، تعذبت كتير لرجعت أمشي بتوازن"، تقول رند العشرينية، وهو اسم مستعار، لرصيف22، عن تجربتها مع الانتحار.

أعلن المدير العام لـ"الهيئة العامة للطب الشرعي"، في نيسان/ أبريل الماضي، زاهر حجو، تسجيل 45 حالة انتحار في مناطق سيطرة النظام السوري منذ مطلع العام الحالي

تروي رند كيف كانت العائلة آخذةً في التفكك شيئاً فشيئاً، وكيف كانت تشعر بالوحدة الدائمة. في المدرسة، لا أحد يُشبهها. أهلها كانوا يريدونها أن تكون كاملةً كما تقول، أو بلهجتها السورية "كل شي لازم يكون تمام وإذا ما كان بيكون تقصير منّي". كانت تشعر بأن وجودها مثل عدمه.

بعد أشهر، غابت عن الوعي مجدداً، ولكن هذه المرة التعب كان أكبر وأصعب. زارت أطباء الأعصاب في الشام كلهم، واتفقوا على أنه صرع. تقول: "تتخيلي كيف نفسية شخص حاول ينتحر وطلع منها عايش، وبمرض بشع. خلّص البكالوريا بمجموع منيح (طبعاً كنت شايفة إني فاشلة)، ودخلت جامعة ويا سلام. رجعت للوحدة. راجعت دكتور شاطر، وصفلي دوا من غير علبة، بحثت عنه طلع مضاد اكتئاب! وقتها شريط حياتي من الـ2016، من لما كان عمري 15، مرق قدامي، وقتها بس عرفت ليش حاولت انتحر، المكتئب بعمره ما بيعرف عندو اكتئاب، لأن ببساطة إذا حكيتِ وجعك، رح تكوني دراما كوين".

تابعت رند، التي قبلت دعوتي "المجازيّة" إلى فنجان قهوة، لتسرد قصتها بأريحية: "بفترة العلاج كنت حرفيّاً عم عيش لأوّل مرة، وعم حسّ بسعادة حقيقية، وبلشت أدرك كمّ النعم اللّي اللّه عاطيني ياها، وشكرت هديك الـ’رند’ اللي تحمّلت كتير، والرفقات الحقيقيين كانوا موجودين بس هيي ما كانت شايفتن". لكن لماذا لم تتوجهي إلى طبيب نفسي منذ البداية؟ تجيب: "فكرتي النمطية عن الطبيب النفسي منعتني".

"وعيي الزائد مشكلتي"

"كل حدا مرّ بهيك حالة. الفرق أنا بفكر كتير، وكتير كمان، لهيك الوعي الزايد بشوفه أكبر سبب"، هكذا أجابني طالب السنة الأخيرة في كلية طب الأسنان (خ.ش)، حين سألته عما إن كان وعيه المعرفي بالمشكلات النفسية قد سيطر عليه، إذ إنه ذهب إلى طبيب نفسي، وقدّم له الأخير علاجاً دوائياً، لكن الشاب رفض أن يتناوله، وقال معلّلاً: "ما كنت راضي لأن ما رح يفيد، أغلب الدكاترة بيتعاملوا معنا كحالة يتم تشخيصها ويلا عالأدوية، وتوتة توتة خلصت الحدوتة".

يروي الشاب العشريني كيف بدأت الأفكار الانتحارية تتسلل إليه، ويقول: "عانيت من تقلبات مزاجية ورغبة مفاجئة في الانطواء، وأنا بصفتي قارئاً نهماً عن الوعي ومتعمّقاً في العلاج المعرفي السلوكي، مدرك أنه ليس لدي مشكلة نفسية حقيقية ليتم تشخيصها، وإنما مثل كل الناس الذين عاشوا ضغوطاً معيّنة، لكن أنا استسلمت لها".

بالنسبة لفقدان الشغف، هو يأس معنّد ورفض قاطع لأي شكل من أشكال الحياة. فيكي تقولي شلل وجودي. فكرت بالانتحار أكتر من مرة، وقفت لأرمي حالي من الطابق الخامس، بس صورة أهلي زعلانين منعتني

يضيف: "أنا كائن اجتماعي، ومع إني من برا مبسوط لما أتواجد بفرح أو أسهر مع رفقاتي، كنت أشعر وكأن الكيميا اللي بالمخ واللي لازم تترجم هالشعور لسرور، مختفية". أسأله: ما هو السبب الحقيقي الذي زرع الأفكار الانتحارية فيك؟ يُجيب: "بالنسبة إلى فقدان الشغف، هو يأس معنّد ورفض قاطع لأي شكل من أشكال الحياة. فيكي تقولي شلل وجودي. فكرت بالانتحار أكتر من مرة، وقفت لأرمي حالي من الطابق الخامس، بس صورة أهلي زعلانين منعتني، وخوفي تفشل المحاولة وعيش مع عاهة، ولو معي سلاح أكيد كنت نفذت القرار من زمان".

"أسمع أصواتهم"

توجهنا بالسؤال إلى المرشدة الاجتماعية، مي عطّاف: نحن كمجتمع كيف لنا أن ننقذ من بقوا من براثن ظاهرة الانتحار؟

تقول: "يتحدّثون إلينا ولا شيء في أجسادهم يقول إنهم متعبون، لا حرارة عاليةً ولا آلام عضوية، لكن لو نظرتِ مليّاً إلى عيونهم لوجدتِ فراغاً، وكلّما نالت منهم فكرة الانتحار، يميلون إلى الصمت والدخول في الغياب، حتى تشعرين بأنّ عليكِ ‘نكزهم’ ليبدوا على قيد الحياة".

ترى عطّاف أن "لكُل منتحر أسبابه، وجميعهم يتحدّثون عن الغربة المؤلمة التي يشعرون بها أينما حلّوا، ومع أيّ شخص مهما كان قريباً، وعن ذاك الفراغ الذي يهزّ يقينهم بالحياة. ربما تزداد أكثر كلّما قلّت فرص النجاة؛ كأن يكون المجتمع منغلقاً، أو في حرب، أو يعيش الفقر. ربما تقلّ في المجتمعات التي تمنح الشخص كامل حقوقه ليلتزم بواجباته، لكن هذا لا يمنع من الانتحار حين يتملّكه شعور الفراغ، أو اللّا معنى كما حدث مع داليدا".

وأعلن المدير العام لـ"الهيئة العامة للطب الشرعي"، في نيسان/ أبريل الماضي، زاهر حجو، تسجيل 45 حالة انتحار في مناطق سيطرة النظام السوري منذ مطلع العام الحالي، وأوضح في تصريح صحافي أن "37 شخصاً من المنتحرين هم من الذكور، وثمانية من الإناث، وأكثر الحالات كانت لأشخاص تتراوح أعمارهم بين 40 و50 عاماً".

يتحدّثون إلينا ولا شيء في أجسادهم يقول إنهم متعبون، لكن لو نظرتِ مليّاً إلى عيونهم لوجدتِ فراغاً، وكلّما نالت منهم فكرة الانتحار، يميلون إلى الصمت والدخول في الغياب، حتى تشعرين بأنّ عليكِ ‘نكزهم’ ليبدوا على قيد الحياة

ووثّق فريق "منسقو استجابة سوريا"، العامل في الشمال السوري، مطلع حزيران/ يونيو الماضي، 33 محاولة انتحار لسوريين بينهم أطفال في الشمال السوري، كحصيلة منذ بداية عام 2022. وقال إن "حالات الانتحار التي أدت إلى الوفاة وصلت إلى 26 حالةً، بينها تسعة أطفال، أما المحاولات التي فشلت فهي سبع حالات من ضمنها أربع حالات لنساء".

تتحدث عطّاف عن رد فعل المجتمع على فكرة الانتحار، وفعل الانتحار. تقول: "الردود لا تكون متشابهةً حين يتلقّى الأهل كلمة (ابنكم انتحر)، وتختلف من مجتمع إلى آخر. كلّما كان المجتمع متديناً، كلّما شعر الأهل بالذلّ وتمنّعوا عن الصلاة عليه؛ فلا صلاة على منتحر. حسب اعتقادهم، من قتل نفسه وأقصى عنه فكرة القضاء والقدر، يُلعَن بدل أن يُرحَم"، مشيرةً إلى أن "الانتحار مرفوض في كل المجتمعات، لكن غدا الآن أكثر تفهماً بسبب معرفة الآخرين بأن الضغوط باتت شبه قاتلة وصارت تُقام له جنازة أو جنّاز ويُصلّى عليه".

"ما كان ليقوم المنتحر بفعلته، لو توافرت عوامل نفيه عنها، كأن يؤمن الآخر بحريّة قراره فيكون المجتمع داعماً له. كل ما يريده المنتحر حين تومض في رأسه فكرة الانتحار، أن ينتبه الآخرون إليه حين يقول: أنا هنا"، والكلام لعطّاف التي ختمت الحديث بالقول: "أتدري... أردّ على الأسئلة، وصوت صديقتي العمياء المنتحرة وآخرون سمعت قصصهم، في داخلي، وها أنا مدينة لهم بالاعتذار".

مؤشرات وإنذارات

يرى الدكتور مازن الشمّاط، عضو الهيئة التعليمية في قسم الإرشاد النفسي في كلية التربية في جامعة دمشق والمختص بتفسير سلوكيات الانتحار، أنه "فات الأوان كي نقدّم للمنتحر أي مساعدة، ولكننا قادرون أن نبذلها للأشخاص الموجودين معنا ممّن لديهم أفكار انتحارية؛ هذه الأفكار التي تظهر من خلال سلوكياتهم وتصرفاتهم، والتي يمكن أن نتعامل معها كمؤشرات وإنذارات على وجود هكذا أفكار"، مؤكداً أنّ الانتحار لن يحدث بين ليلة وضحاها، إنما عبر مراحل متنوعة ما بين ظهور هذه الأفكار والتفكير في الإقدام عليها تارةً، وخمودها تارةً أخرى؛ ربما نتيجةً لبعض العوامل المساعدة المحيطة.

ينتحر شخص كل 40 ثانيةً في العالم، ويُعدّ الانتحار حسب منظمة الصحة العالمية السبب الرابع للوفاة عالمياً، وتتراوح أعمار ضحاياه بين 15 و29 سنةً

يضيف: "الظروف والضغوط المحيطة هي عوامل خطر قد تدفع الأشخاص إذا ما استمرّت للانتحار، وخاصةً إن اشتدت ووصلت بالفرد إلى امتلاك نوع من الأفكار العدميّة التي تدور حول موضوع أنّ هذه الحياة لا تستحق أن تُعاش. وهنا إذا ما سيطرت هذه الأفكار بشكل حقيقي، عندها قد تكون النتيجة هي الإقدام على الانتحار".

ينتحر شخص كل 40 ثانيةً في العالم، ويُعدّ الانتحار حسب منظمة الصحة العالمية السبب الرابع للوفاة عالمياً، وتتراوح أعمار ضحاياه بين 15 و29 سنةً، وأسبابه بحسب المنظمة الفقر والكوارث الطبيعية والحروب والعنصريّة وأسباب أخرى، وبالرغم من تراجع نسبة الظاهرة عالميّاً إلى 36% عام 2019، إلا أنّ نسبة الانتحار لا تزال عاليةً.

كان تقريراً اعتيادياً أعدُّه، إلى حين امتلاء بريدي بعشرات الرسائل التي أراد أصحابها، وهم شبان وشابات في عمر الورد، يتقاسمون المشترك وهو فقدان الشغف، عالقين في شرك الوحدة، أرادوا الفضفضة في المقام الأول. لا يعرفونني على المستوى الشخصي، لكني حزت على ثقتهم بسرعة البرق، وأراد البعض تقديم المساعدة، ليس لي، بل لأبناء جلدتهم الذين يسلكون النفق ذاته، علّهم يقرأون معاناةً قريبةً مما يعيشونه، فيضعون خوفهم فوق خوف حقيقي مجرّب فعلاً، ولعلّ الخوف يكون رادعاً لاتخاذ القرار الأخير. أخبرت أحدهم بأن عصفوراً دوريّاً يزقزق بنزق، قد يكون كافياً للتفكير مليّاً في أنّ على هذه المعمورة المدمّرة، ما يستحق الحياة. كلام ورديّ إنشائيّ، لكنّه تقدّم لشكره من القلب.

بحثت وقرأت مطوّلاً عن أرقام وإحصائيات لظاهرة الانتحار حول العالم وأسبابها، وعندما اقتربت من أفراد تاهوا في دوامتها، ذُهلت. دائماً هناك سبب لم تذكره الدراسات، ودائماً هناك رقم لم يُحصَ، لمنتحرين زعم أهلهم بأنهم قُتلوا ليهربوا من عار كلمة "انتحر"، وعلى الدوام هناك حكاية لم تُرصد. على سبيل المثال، توقعت زيادة النسبة في الأماكن الفقيرة، التي أنهكتها حرب بلادي، لتترصدني المفاجأة في أحياء دمشقية راقية، وأسر ترفل بالرخاء الاقتصادي، لأدرك بأنّ شبح الانتحار يترصد في كل مكان.

أثّر بي الموضوع. عاجزة أنا في هذا المقام عن التمسك بحياديّة الصحافة. استغرق الكلام أعلاه عشرين يوماً، وعشرين ليلاً قلِقاً، تخلّلها مرض جسدي أنهكته إنسانيّة عجزت عن أن تأخذ بيد يائس من الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image