شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الثورة الجزائرية... بين النضال والنقاء المزعوم

الثورة الجزائرية... بين النضال والنقاء المزعوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 18 يوليو 202204:26 م

تعيش الجزائر هذه الأيام الذكرى الستين لانتصار ثورتها على المحتل الفرنسي، وهي الثورة التي قدّم فيها أبناء الجزائر الغالي والنفيس لاستقلال بلادهم، وهو ما كان لهم.

في المقابل، وبالنسبة إلى البعض ممن تزعموا السلطة لاحقاً، كان النضال الوطني لا يعدو كونه مطيّةً إلى السلطة، بينما رآه البعض وسيلةً لا غاية، لذلك عرفت الجزائر خلال تاريخها الحديث العديد من عمليات الاغتيال السياسي المنظمة، والتي كانت حتميةً طبيعيةً لواقع الصراع بين مكونات ثورة تنافست على الرئاسة وتصدر المشهد النضالي، فكانت بمثابة "الثورة التي تأكل أبناءها".  

بقيت أغلب هذه الصراعات محط تعتيم سلطوي مقصود للحفاظ على صورة "نقاء الثورة"، وقدسيتها. تلك الصراعات التي أدخلت البلاد في "أزمة ثقة"، جعلت من البطش والقمع وإلغاء الآخر، سبيلاً وحيداً للبقاء في السلطة. 

الثورة ليست نقيةً تماماً

يعتقد بعض المؤرخين أن الخلافات التي قامت بين قيادات الثورة الجزائرية كان من نتائجها المباشرة حدوث العديد من عمليات الاغتيال والتصفية السياسية للعديد من رجالاتها، بحجج كـ"خيانة الثورة"، والتعامل مع الفرنسيين، فالمصالح المتباينة ووجهات النظر المختلفة حول شكل البلاد ومستقبلها، جعلتهم يدخلون في صراعات كادت تودي بالثورة، إذ يصف البعض تلك الصراعات بـ"حرب داخل الحرب".

هذا الرأي يخالفه لخضر بن رفعة، صاحب مذكرات "شاهد على اغتيال الثورة"، في مقابلة مع قناة الشروق نيوز الجزائرية، في نيسان/ أبريل 2015، إذ يؤكد "أن الجبهة الداخلية حين اندلاع الثورة لم تكن مهتمةً أبداً بتلك الأمور التي أثيرت في ما بعد، والمتعلقة بأولوية العمل العسكري على السياسي، والجبهة الداخلية على الخارجية". ويضيف قائلاً: "كل ما نعرفه بعد انطلاق أولى رصاصات الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، أن الثورة انطلقت ولا نعلم متى تنتهي، والخصم قوي علينا، ونحن الحلقة الأضعف".

ويُرجِع بعض الباحثين تلك الخلافات إلى مؤتمر الصوصام، بين 13 و20 آب/ أغسطس 1956، الذي أوصت بنوده في مخرجاتها النهائية بأولوية "الداخل الجزائري على الخارج، والسياسي على العسكري".

يعتقد بعض المؤرخين أن الخلافات التي قامت بين قيادات الثورة الجزائرية كان من نتائجها المباشرة حدوث العديد من عمليات الاغتيال والتصفية السياسية للعديد من رجالاتها، بحجج كـ"خيانة الثورة"، والتعامل مع الفرنسيين

مستقبلاً، ومع تقدّم الثورة ونجاحاتها بالرغم من كل ما سبق، ظهر "صراع الشرعيات" طمعاً في تسلم مقاليد السلطة، بين فريقين: الأول هو "الشرعية التاريخية"، ويمثّله القادة التسعة التاريخيون الذين فجّروا الثورة، والثاني يمثّله من دافعوا عن "الشرعية الثورية"، وعلى رأسهم هواري بومدين، وهم الذين التحقوا بالثورة لاحقاً.

هذا الصراع وفق رأي رابح لونيسي، في كتابه "الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين"، كاد يدخل البلاد في دوامة حرب أهلية طويلة، وتحويلها إلى "كونغو ثانية"، لولا تدخّل العقلاء من أصحاب الرأي، أمثال يوسف بن خدة.

أفضت هذه النزاعات، بعد الاستقلال، إلى خلق نظام عسكري بيروقراطي عمل جاهداً على كسب الشرعية الوطنية والثورية من خلال ما مارسه من إغفال وتعتيم يدعمان تفرّده بالسلطة وفق مبدأ الحزب الواحد، وتحديداً بعد انقلاب بومدين سنة 1965، أو ما سُمّي بعد ذلك بـ"التصحيح الجزائري".

وهذا ما يؤكده بن رفعة، في المقابلة آنفة الذكر، من أن ما حدث في 19 حزيران/ يونيو 1965، كان بمثابة انقلاب رابع في تاريخ الجزائر، ويقول: "كان انقلاباً على النظام قضى على هيكلية الثورة وقياداتها بداعي إعادة الهيكلة".

الأبطال الحقيقيون هم الموتى 

بالنسبة إلى العسكريين الذين نفّذوا الانقلاب الرابع، كان الأمر يتعلق بإعادة خلق التاريخ الجزائري وكتابته، باعتماد منهج التعتيم وإخفاء الحقائق حول بعض القضايا واللحظات التاريخية كالاغتيالات والخصومات الحزبية، بحيث يصبح لهؤلاء دور مركزي في تاريخ خيالي.

جرى هذا الأمر من خلال اعتماد أيديولوجيا حزبية "من الشعب وإلى الشعب"، وتالياً إقصاء جميع الفاعلين قبل الحرب وفي أثنائها ممن خالفوا النظام الجديد من الحركة الوطنية، فضلاً عن تشديد الرقابة على المكتبات ودور بيع الكتب.

وفي 1974، بلغ هذا النظام التعتيمي الصارم ذروته بتأسيس المركز القومي للدراسات التاريخية، إذ استُبعدت أعمال الباحثين الأجانب.

وكان من المعتاد حينها أن يتقدم الباحث بطلب لعمل ورقه بحثية، فيتلقى رفضاً مبرراً بأن الوقت ما زال باكراً جداً للكتابة عن الثورة، كما تم استبعاد أعمال لمؤسسين مثل محمد حربي (1980)، وفرحات عباس (تشريح الثورة 1980)، والمقدم عز الدين (سمونا فلاحين 1976).

وعليه، يمكن عدّ ما تم تدوينه بأنه لا يعدو كونه ترسيماً لـ"سيرة معظمة"، أكثر منه تأريخاً لحدث جلل. نحن إزاء تاريخ مُصفّى ومعقّم اختفت فيه أسماء أبطال التحرير وقادته من المنهج الدراسي ولوحات أسماء الشوارع، في عملية اغتيال معنوي ممنهج لكثير من رجالات الثورة وأبطالها ممن كانوا على قيد الحياة.

يُعدّ كريم بلقاسم أحد القادة الستة التاريخيين الذين فجّروا الثورة. ناضل في شبابه ضمن الجمعيات السياسية، وانخرط بعد ذلك في حزب الشعب، ما جعله طريداً بسبب نشاطه السياسي، فحُكم عليه مرتين بالإعدام

في شهر تموز/ يوليو 1978، نشرت الصحيفة الأسبوعية "أخبار الجزائر"، تحقيقاً صادماً حول معرفة الشباب بتاريخ بلادهم وثورتها، بالكاد ذكر كريم بلقاسم أو عبان منصور أو ديدوش مراد.

مأساة المثقف عبان رمضان (1920-1957)  

يُعدّ عبان رمضان واحداً من مهندسي الثورة الجزائرية. التحق بصفوفها عقب خروجه من الأسر في 18 آذار/ مارس 1955، في العاصمة، بطلب من كريم بلقاسم شخصياً الذي أكد له أن "الثورة تحتاج إليه في العاصمة أكثر من منطقة القبائل"، وفقاً لخالفة معمري، في كتابه "عبان منصور المحاكمة الزائفة".

بدأت الخلافات بين عبان والباءات الثلاثة (عبد الحفيظ بوالصوف، وكريم بلقاسم، ولخضر بن طوبال)، في أعقاب مؤتمر الصومام الذي تحكّم بمقرراته السياسيون، وفي مقدمتهم عبان الذي أصبح الرقم واحد على قائمة الجبهة، والذي منح الجدارة للعمل السياسي في الدرجة الأولى، عادّاً أن الجهد العسكري على أهميته غايته تحقيق الإرادة السياسية.

"بينما تولّد إحساس لدى قادة الثورة في الداخل والخارج، بأن عبان وحلفاءه يسعون إلى الانفراد بقيادة الثورة"، وفقاً لفتحي الديب في كتابه "عبد الناصر وثورة الجزائر"، لأن المفهوم السياسي يعني أن يبقى خيار التفاوض قائماً في سبيل تحقيق الاستقلال، والعمل العسكري أداةً للوصول إلى ذلك.

في هذا المناخ السياسي المتوتر، عُقد مؤتمر القاهرة في سنة 1957، وأفضى إلى عزل عبان سياسياً وإرضائه بالعمل الإعلامي والإشراف على جريدة المجاهد، وهو ما عدّه عبان تحييداً وتنكراً له، فبدأ باتخاذ الجريدة منبراً لمهاجمة خصومه السياسيين من مجموعة العسكريين الذي قاموا بإقصائه.

يرى بعض المحللين أن مأساة المثقف في الجزائر بدأت باغتيال عبان رمضان من قبل الباءات الثلاث. ويذكر علي كافي في شهادته، "أن عبان كان يقيم اتصالات سريةً مع العدو، ولم يطلع أصحابه عليها إلى أن اكتشفوها بطرقهم الخاصة". ويضيف: "تلك الشكوك دفعت رفاقه إلى إقناعه بمرافقتهم إلى المغرب، مبررين ذلك بزيارة الملك محمد الخامس، وعندها تمت محاكمته وأُصدر الحكم في حقه".

هذه الرواية يعارضها توفيق المدني في المرجع السابق لفتحي الديب، ويؤكد "أن رجال لجنة التنسيق والتنفيذ كانوا يتبرمون تبرماً عنيفاً من أقوال عبان رمضان وأفعاله"، لا سيما بعد أن أوحى رمضان بأن أعضاء اللجنة يسعون إلى التفاوض مع فرنسا قبل الحصول على الاستقلال، وأنه "هدد بالعودة إلى الداخل والتنديد بخصومه بين صفوف المجاهدين، وكان يعتمد في ذلك على وجه الخصوص على الرائد حاج علي المتضامن معه".

وهناك أسباب أخرى لتخلّص الباءات الثلاثة من عبان، على رأسها تخلّفه شبه الدائم عن اجتماعات اللجنة، ما دفع بلقاسم إلى القول: "إن عبان يسعى بعد مؤتمر الصومام إلى أن يحل محل القيادة الجماعية التي تمثّلها لجنة التنسيق والتنفيذ". ومن بين التهم الموجهة إليه أيضاً: معاداة الثورة التحريرية، وإدماج وترقية عناصر معتدلة مثل بن خدة وسعد دحلب وآخرين.

وكذلك تأزم العلاقة الشخصية بين عبان وبلقاسم تحديداً بعد المشاحنة الكلامية على أثر مطالبة بلقاسم بإدارة الندوة الصحافية التي أزمع عبان إقامتها على هامش مؤتمر القاهرة، وكان رد عبان قاسياً ومهيناً: "أيها الحمار بأي لغة يمكنك تنشيط الندوة الصحافية؟ بالعربية أم بالفرنسية أم بالإنكليزية؟ فأنت لا تحسن أياً منها، إلا إذا أردت أن تلقيها بالقبائلية".

وبالفعل تم اتخاذ قرار تصفية عبان في 15 كانون الأول/ ديسمبر 1957، بعد أن تم استدراجه إلى مزرعة في تيطوان على الطريق في اتجاه طنجة، في أحد المنازل الخاصة بمخابرات بوصوف، حيث قام عنصران تابعان له بخنقه وقتله من دون أن يعلما هوية الضحية، وهذا هو المعتاد في ما يتعلق بـ"تصفية خائن"، كما قيل لهما عندما أُمرا بالمهمة.

بعد تنفيذ الاغتيال، عنونت جريدة المجاهد لسان حال الـ"ج.ت.و": "عبان رمضان يستشهد في ميدان الشرف"، وأرفقت الخبر بصورة لعبان، مع وصف لحيثيات "استشهاده"، وذكرت تعرضه لجروح خطيرة بعد اشتباك بين المجاهدين والعدو، كما عرضت سيرته النضالية في مقال مطول، وبقي الأمر طي الكتمان حتى عام 1984، عندما صدر عفو رئاسي يرد الاعتبار لإحدى وعشرين شخصيةً بعد وفاتها، من بينها عبان.

"أسد جرجرة" كريم بلقاسم (1922-1970)

يُعدّ كريم بلقاسم، المولود في قرية أيت يحي، بالقرب من ذراع في تيزي وزو سنة 1922، أحد القادة الستة التاريخيين الذين فجّروا الثورة. ناضل في شبابه ضمن الجمعيات السياسية، وانخرط بعد ذلك في حزب الشعب، ما جعله طريداً بسبب نشاطه السياسي، فحُكم عليه مرتين بالإعدام.

التحق في نهاية الأربعينيات بالجبال، ما دفع البعض لتسميته بـ"أسد جرجرة"، نسبةً إلى الجبال المنشورة في منطقة القبائل، وفقاً لعلجية عيش في المرجع السابق. والمعروف عن بلقاسم ميله إلى العمل المسلح، وتركيزه على الجانب العسكري للثورة، ما أدخله في نزاع مرير مع صديقه ورفيق نضاله عبان رمضان، وهو النزاع الذي أفضى إلى تصفية عبان، وهو ما يعدّه البعض أحد أكبر أخطائه السياسية، لتعود الأيام وتدور عليه بعد خلافاته مع السلطة المُشكّلة بعد الاستقلال ويلقى مصير صاحبه القديم.

تقلّد العديد من المهام والمسؤوليات العسكرية، فكان قائداً للولاية الثالثة التاريخية للثورة، وكذلك وزيراً للحربية في الحكومة المؤقتة، وللخارجية أيضاً في الحكومة المؤقتة الثانية، وكان عضواً في الوفد الجزائري ضمن مباحثات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر.

شهد بلقاسم على الصراع الجديد بعد الاستقلال بين جيش الحدود بقيادة بومدين، والحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس، وقد فضّل بلقاسم على أثره "تطليق الحياة السياسية"، مستقراً في فرنسا، ومؤسساً لحزب معارض للسلطة بعد ذلك أسماه "الحركة الديمقراطية للثورة"، وكان هدفه إسقاط النظام القائم في الجزائر آنذاك.

هذا الأمر أثار سخط بومدين، فأصدر في حقه حكماُ غيابياً بالإعدام. بعدها وُجد بلقاسم مشنوقاً في غرفته في فندق في فرانكفورت الألمانية في 17 تشرين الأول/ أكتةبر 1970. ومن الطبيعي أن توجَّه أصابع الاتهام إلى نظام بومدين وفقاً لشهادة حسين بن معلم في كتابه "حرب التحرير الجزائرية". هذا الاتهام يؤكده لخضر بو رفعة، في المقابلة التي سبق ذكرها، و"اتهم فيها صراحةً هواري بومدين بمقتل كريم بلقاسم ضمن إطار تصفية الحسابات آنذاك".

ويذكر بن معلم، أن اختياره جانب المعارضة السياسية، بجانب قادة تاريخيين آخرين من أمثال محمد بومضياف وحسين خيضر اللذين تعرّضا للاغتيال أيضاً، وعدم اعترافه بالحكومة التي تشكلت بعد الاستقلال ومعارضته لتوجهاتها السياسية، كانت من الأسباب التي دعت لاغتياله. وفي 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1984، جرت إعادة دفن بلقاسم رسمياً مع ثمانية آخرين من قادة جبهة التحرير.

دماء كثيرة جرت، بدافع الوطنية الخالصة، أو بدافع الصراع على السلطة، لكن يظل الثابت أن الجزائريين حصلوا على استقلالهم من دون حريتهم.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard