شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
رحّالة أم رسول الاحتلال؟... جولات خورشيد باشا على الحدود بين العثمانيين وإيران

رحّالة أم رسول الاحتلال؟... جولات خورشيد باشا على الحدود بين العثمانيين وإيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الجمعة 15 يوليو 202204:45 م

في الوقت الذي انتهج فيه العثمانيون مبدأ السنة والجماعة وراحوا يفرضون زعامتهم على العالم الإسلامي، كانت الدولة الصفوية متمثلة في المذهب الشيعي الاثني عشري تبسط نفوذها السياسي والمذهبي على أنحاء إيران والعراق وجنوب شرق الأناضول، والهند، ومن ثمّ حدثت معارك ومفاوضات عدة على مدار سنوات.

ظلّت العلاقة بين العثمانيين وإيران على هذه الحال المتوترة، حتى جاءت معاهدة قصر شيرين عام 1639م، وتحددت بمقتضاها الحدود بينهما.

يبدو أن العثمانيين لم يطمئنوا إلى المعاهدة، وأقلقهم التمدد الإيراني على الحدود، فبعد مرور قرنين على اتفاقية "شيرين" كلّف السلطان عبد المجيد خان (1823ـ 1861م) رجاله بجولة على الحدود بين بلاده التركية وبين أعدائه في إيران، ظاهرها سياحي، وباطنها سياسي بامتياز.

خورشيد باشا... عين العثمانيين الثاقبة على الحدود الإيرانية

من بين رجال السلطان الموفدين إلى الحدود، كان محمد خورشيد باشا، الذي أعدّ تقريراً مُفصلاً عن كل ما رآه، وقُدِّر لنا أن نُطالع هذا التقرير العثماني مترجماً إلى العربية بين دفتي كتاب نشره المركز القومي المصري للترجمة عام 2009 بعنوان "رحلة الحدود بين الدولة العثمانية وإيران".

تلك الرحلة الرسمية أو فلنقل التقرير المطول، وقع في 400 صفحة باللغة العثمانية، سرد خلالها ما وقعت عليه عينا خورشيد باشا، وما استنتجته قريحته في المنطقة الحدودية التي تبدأ من خليج البصرة جنوباً، مروراً ببغداد وشهرزور (السليمانية) والموصل، ووان، وبايزيد (منطقتان على حدود تركيا مع إيران)

محمد خورشيد باشا، هو أحد رجال الدولة العثمانية. تولى عدة وظائف رفيعة، منها الولاية والوزارة، ولعل أبرزها ولايته للحجاز عام 1870م، وكذلك تقلد منصب وزير العدل والأوقاف، ومستشار الصدر الأعظم عام 1878م.

يقول عنه الباحث إبراهيم بن سعد الحقيل، في رسالته "تقرير خورشيد باشا عن نجد": "اسمه الذي وصل إلينا يدل على أنه مملوك، حيث لم يُعرف أبوه. وهو من أصل ألباني. قدِمَ مصر صغيراً وتعلّم بها، وبرز قائداً من قواد محمد عليّ، فعيّنه محافظاً لمكة في أوائل سنة 1248هـ (...) ومن خلال ما وصل إلينا من أخباره في نجد، فقد كان حكيماً، غير مبادر إلى سفك الدماء، يوقر العلماء لم يتعرض لهم بسوء (...) حتى توفي في المنصورة سنة 1265هـ".

رحلة أم استكشاف بهدف الاحتلال؟!

استهل خورشيد باشا تقريره بمقدمة توضيحية يُفصح فيها عن الهدف من تلك الرحلة الحدودية، قال فيها: "صدرت التعليمات من الباب العالي إلى صاحب السعادة الفريق درويش باشا، وهو الممثل الذي صدر له التكليف بترسيم الحدود (...) وصدر أمر خاص شفهي من مقام وزارة الخارجية الجليل لأحقر العباد محمد خورشيد، الذي هو الآن من موظفي قلم الكتابة بوزارة الخارجية، ليكون في معيّة الفريق المشار إليه، ويقوم بمهمة التدوين وكتابة هذه المسائل المذكورة عسى أن يكون أهلاً لها".

تلك الرحلة الرسمية أو فلنقل التقرير المطول، وقع في 400 صفحة باللغة العثمانية، سرد خلالها ما وقعت عليه عينا خورشيد باشا، وما استنتجته قريحته في المنطقة الحدودية التي تبدأ من خليج البصرة جنوباً، مروراً ببغداد وشهرزور (السليمانية) والموصل، ووان، وبايزيد (منطقتان على حدود تركيا مع إيران).

انتهى تقرير خورشيد باشا، لكن مخاوف العثمانيين من التمدد الإيراني لم تنتهِ بعد 

سطور التقرير تفضح نوايا القائمين على تلك الرحلة الرسمية، فبدت وكأنها استكشاف مُفصّل لتلك المناطق الحدودية، فيقول خورشيد باشا في مقدمة تقريره: "وتضمن الأمر في أحد بنوده أن يتم تدوين الأوضاع الراهنة للأماكن التي سيتم المرور بها بموجب المهمة، وتسجيل طباع الأهالي وسكانها، ومحاصيلها وصناعاتها (...) وتعريف الأماكن والمدن والأقضية والجبال والصحاري والأنهار والمياه والبحيرات، وسكان تلك المناطق".

دقة منقطعة النظير

ما من سطر في تقرير خورشيد باشا إلا وفيه معلومة بالغة الدقة عن البلدان التي حلّ بها هو ورفاقه، فيقول عن البصرة: "علمنا من المهندس المرافق لنا أن مدينة البصرة تقع على خط طول 30 درجة، وعلى خط عرض ثلاثين دقيقة وتسع ثوانٍ، أي أنها بالنسبة لمدينة باريس عاصمة فرنسا من نصف الكرة الأرضية. نهاراً تقع على خط طول 32 دقيقة و52 ثانية وعلى دائرة عرض 45 درجة".

وعن المحاصيل، يقول خورشيد: "وبالبصرة نوع من الفاكهة تسمى الليمون والتورنج والموز، ولأن الموز من الفاكهة الخاصة ببلاد المناطق الحارة؛ فإنه لا يُوجد في إستانبول الناضج منه".

لكن يظل أعجب ما في تقرير/رحلة خورشيد باشا، هو اهتمامه بالمقاطعات في تلك البلدان، وما يسكنها من البشر بالأرقام، حيث خصص في كل فصل المقاطعات التي تتبع كل منطقة يدخلها، مثل قوله: "المقاطعات التي تتبع إدارة البصرة حالياً: مقاطعة سراجي وبها 1200 نسمة، ومقاطعة يهودي، وبها 200 نسمة، ومقاطعة سيحان، وهي خالية من السكان".

ويستطرد: "المقاطعات التي كانت تتبع البصرة قبل ذلك، وتتبع إدارة المحمرة منذ أن دخلت المحمرة تحت سيطرة إيران: مقاطعة تيماركري وخميسة، ومقاطعة أبو جُذيع، ومقاطعة خبين (...) ويكون بذلك مجموع محاصيل مقطاعات المحمرة من التمر: 3639 غرارة/ 1476800 رومي/ 2953 كيسة و300 كسور". 

ما سرده خورشيد عن البصرة في تقريره شهد إحصائيات أخرى قد تستغلها بلاده عسكرياً واقتصادياً، مثل حديثه عن أنواع السفن والقوارب، بقوله: "السفن التجارية الموجودة في البصرة ثلاثة أنواع، يُطلق عليها: بغلة، وبوت، وشويعي. النوع الأول يستطيع حمل من خمس عشرة ألف إلى ثماني عشرة ألف كيلة، كما يستطيع أن يصل إلى الأماكن الواقعة على نهر شط العرب وخليج البصرة والمحيط الهندي، مثل القورنة، والكويت، والبحرين، والإحساء، وبومباي، ويستطيع النوعان الآخران أن يصلا إلى الأماكن الواقعة على نهر شط العرب، وإلى بغداد وسوق الشيوخ والحِلّة عن طريق نهري الفرات ودجلة ويصلا إلى شوشتر ودزفول من الممالك الإيرانية عن طريق نهر كارون".

 أعجب ما في تقرير/رحلة خورشيد باشا هو اهتمامه بالمقاطعات في تلك البلدان، وما يسكنها من البشر بالأرقام، حيث خصص في كل فصل المقاطعات التي تتبع كل منطقة يدخلها

اختتم خورشيد باشا تقريره بشيء أشد دقة، وهو حساب المسافة الزمنية بين الحدود العثمانية والإيرانية: "بدءاً من قصبة مندلي وحتى قصبة بايزيد (...) ولأننا قد دونا المسافات المقطوعة طبقاً لمجيئنا هذا، بلغت أربعمائة وثلاثة وعشرين ساعة وكسور، من منطقة المحمرة التي تعد بداية الحدود بين الدولة العليّة (يقصد الدولة العثمانية) وإيران، وحتى قصبة مندلي مئة وعشر ساعات، ومن مندلي وحتى بايزيد التي تعد نهاية الحدود، ثلاثمائة وخمس وعشرين ساعة، وعلى الرغم من أن المجموع الكلي لهذا الخط الحدودي يبلغ أربعمائة وخمس وثلاثين ساعة، فإننا لو استخرجنا منها مئة وخمس وثمانين ساعة كانت عبارة عن أماكن تجولنا فيها وزائدة عن المهمة المكلفين بها، فسيكون طول خط الحدود بذلك مئتين وخمسين ساعة".

انتهى تقرير خورشيد باشا، لكن مخاوف العثمانيين من التمدد الإيراني لم تنتهِ بعد. فبعد وفاة خورشيد، ورحيل السلطان عبد المجيد خان، عهد السلطان عبد الحميد خان الثاني (1293- 1327هـ/ 1876- 1909م) الذي كانت له آراء خاصة بشأن إيران باعتبارها خطراً على العالم الإسلامي والمذهب السني، فكلف البكباشي علي رضا شاهبندر خوي الذي كان حين التكليف ضابطاً في الشعبة الرابعة في دائرة هيئة أركان الحرب العمومية بالتوجه إلى بغداد وتوابعها وتقديم تقرير مفصل له عن المذهب الشيعي ونشاطه في المنطقة وسبل منع هذا الانتشار في بغداد وكل المدن العراقية، وفقاً لما أورده الدكتور الصفصافي أحمد القطوري، في تصديره لكتاب "رحلة الحدود بين الدولة العثمانية وإيران".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image