شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رفضها السلطان فأصبحت ملحمة الفُرس الخالدة... قصة

رفضها السلطان فأصبحت ملحمة الفُرس الخالدة... قصة "الشاهنامه" وشاعرها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 18 يوليو 202203:25 م

في بدايات القرن الخامس الهجري، انتهى الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسي من كتابة ملحمة "الشاهنامه"، والتي تعني سيَر الملوك. قدم فردوسي رائعته للسلطان التركماني محمود الغَزنَوي، ولكنه لم يلق منه ما توقع من تكريم. رجع الفردوسي حزيناً ومات ودفن في طوس، بينما بقيت ملحمته كواحدة من أهم وأجمل الملاحم الشعرية التي عرفها التراث الإنساني عبر القرون.

الفردوسي، شاعر فارسي يبحث عن التقدير

لا نعرف الكثير عن الفردوسي، فلم تنقل لنا المصادر التاريخية إلا القليل من المعلومات، التي يحيط بها الغموض والشك، عن سيرته. اسمه، بحسب المشهور، هو أبو القاسم منصور بن فخر الدين أحمد بن فرُّخ الفردوسي. ولد في طوس سنة 329هـ على أرجح الأقوال. تذكر بعض الروايات أنه لما ولد أتت رؤيا منامية لأبيه رأى فيها أن ابنه يقف فوق أحد المباني ويتكلم، وأن صوته يتردد في أركان العالم الأربعة. سيتم تأويل تلك الرؤيا في ما بعد بأنها إشارة إلى ملحمة الشاهنامه التي ستنتشر في جميع أنحاء العالم.

تختلف الروايات حول المكانة الاجتماعية لفردوسي. وتتحدث بعض المصادر أنه كان فقيراً معدماً، فيما تؤكد مصادر أخرى أنه ورث الثراء والغنى عن أبيه، الذي كان واحداً من كبار ملاك الأراضي في بلاد فارس. تذكر بعض الروايات أن منصور عُرف بلقبه الأشهر (فردوسي) نسبةً لواحد من البساتين المشهورة التي كانت موجودة في طوس في زمنه.

قضى الفردوسي ما يزيد عن الربع قرن منكباً على تأليف ملحمته، يُقال إنه قد أتمها في خمسين ألف بيت، لتصبح أكبر ملحمة شعرية عرفها التاريخ

عُرف فردوسي بميله للتشيع، وربما عرضه ذلك لنقمة الكثير من أهل طوس. لا يجب أن ننسى أن الأغلبية الغالبة من الإيرانيين كانوا يعتنقون الإسلام وفق المذهب السني في ذلك العصر. يؤكد الباحث الشيعي المعاصر محسن الأميني في كتابه "أعيان الشيعة" على قوة شعر فردوسي، وينقل عن بعض الكتابات الفارسية التي ترجمت لصاحب الشاهنامه: "الفردوسي أكبر شاعر فارسي وأشهر بلغاء إيران. وأستاذ جميع فصحاء وشعراء الفرس بقول مطلق وله فضل في أعناق جميع شعراء الفرس المتأخرين فإنه وسع لهم نطاق البيان ومهد طريق الكلام وسهل طريقة الشعر وفتح باب صناعة النظم بأصرح إشارة وفي المقامات المتعددة والجهات المختلفة والأفكار المتفاوتة جاء بأنواع العبارات وألوان الكنايات".

تذكر الروايات أن مشروع الشاهنامه بدأ عندما قابل الفردوسي أحد أمراء البيت الساماني. كان السامانيون من الفرس الذين تمكنوا من الوصول للسلطة، وعملوا على استعادة الأمجاد الفارسية التليدة من خلال نشر الآداب والتقاليد الفارسية. ولذلك نرى الأمير الساماني يتفق مع الفردوسي على تدوين قصص الشاهنامه. كان البعض من تلك القصص ذائعاً بين العامة، كما دون البعض منها بطريقة نثرية أو شعرية، ولكنها لم تُجمع أبداً في كتاب واحد قبل هذا العصر.

يتحدث محسن الأميني عن أبرز السمات التي ميزت منهج الفردوسي في كتابته للشاهنامه، فيقول: "كان فردوسي مطلعاً على الأخبار والأحاديث الاسلامية وفي كثير من الأمكنة تجد ترجمتها في الشاهنامه". يتحدث أيضاً عن بعده عن الغزل الصريح الجارح الذي عُرف به الكثير من الشعراء المعاصرين له، فيقول: "كان طاهر الأخلاق عفيف النفس لم يدنس شعره بألفاظ قبيحة كما يجري لبعض الشعراء وإذا اضطر إلى ذلك يأتي به بطريق الكناية".

قضى الفردوسي ما يزيد عن الربع قرن منكباً على تأليف ملحمته، يُقال إنه قد أتمها في خمسين ألف بيت، لتصبح أكبر ملحمة شعرية عرفها التاريخ. وبعد أن انتهى من مهمته، انتبه إلى أن نجم السامانيين قد أفل، واحتار في مصير الملحمة التي أنجزها. في هذا الوقت كان هناك واحد من الملوك يعلو صيته يوماً بعد يوم، ويتسع نفوذه في منطقة الهضبة الإيرانية وآسيا الوسطى وبلاد الهند، هو محمود الغَزنوي، وفكر الفردوسي أنه من الممكن أن يقدم رائعته لهذا الملك المظفر لعلها تحظى بتقديره وإعجابه.

 محمود الغزنوي: ملك تركماني لا يعرف إلا لغة السيف

في عهد الأمير نوح بن منصور الساماني دخل واحد من القادة الأتراك إلى مدينة بُخارى واتصل بخدمة الأمير الساماني. كان هذا القائد هو أبو منصور سبكتكين. يذكر شمس الدين الذهبي (المتوفى 748هـ) في كتابه "سير أعلام النبلاء" أن سبكتكين تمكن من الحصول على ثقة سيده، وما لبث أن ساقته الأقدار لحكم غزنة -الواقعة في أفغانستان الحالية- "فتمكن وعظم، وأخذ يغير على أطراف الهند، وافتتح قلاعاً، وتمت له ملاحم مع الهنود....".

في سنة 387هـ توفى سبكتكين،  وأوصى بالحكم من بعد لابنه إسماعيل. كان إسماعيل معروفاً بضعف شخصيته وعدم قدرته على السيطرة على قادة جيشه. لم يمر وقت طويل حتى استولى محمود بن سبكتكين على السلطة، وتمكن بعدها من توسيع نفوذه شيئاً فشيئاً مستغلاً حالة الضعف التي أصابت الدولة السامانية، "حارب محمود النواب السامانية، وخافته الملوك. واستولى على إقليم خراسان، ونفذ إليه القادر بالله خلع السلطنة، ففرض على نفسه كل سنة غزو الهند، فافتتح بلاداً شاسعة، وكسر الصنم سومنات الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيي ويميت ويحجونه، ويقربون له النفائس...."، وفق المصدر السابق.

عُرف محمود بن سبكتكين بمحمود الغزنوي -نسبةً إلى غزنة-، واشتُهر بموقفه المعادي للفرق والمذاهب المخالفة للمنهج السني. يشهد على ذلك التزامه بوثيقة الاعتقاد القادري التي أصدرها الخليفة العباسي القادر بالله في سنة 420هـ. إذ يُحكى عن الغزنوي أنه سارع بتنفيذ أوامر الخليفة "فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة، والمشبهة والجهمية والمعتزلة، ولعنوا على المنابر".

بين الشاعر والسلطان

يحكي محسن الأميني عن قصة لقاء الفردوسي بالغزنوي، فيقول إن الأول لما انتهى من تأليف ملحمة الشاهنامة سنة 400هـ، "ذهب في هذه السنة إلى غزنة مع جماعة لتقديمها إلى أعتاب السلطان -محمود غزنوي- وكان يأمل بواسطة نظم هذه الشاهنامه الكبيرة وما لاقاه في سبيل نظمها أن يحصل من السلطان على جائزة عظيمة تغنيه مدة حياته مع تجهيز ابنته وسدّ خزان طوس، ولكن السلطان لم يتوجه له إما بسبب الوشاية به بأنه قرمطي أو شيعي أو معتزلي أو غير ذلك....".

تبدأ الملحمة بالحديث عن جيومرت "الذي ملك العالم كله، ومنحه الله القوة والشهامة وجمال الوجه وبهاء الطلعة"

تحكي بعض الروايات تفاصيل اللقاء بطريقة مختلفة نوعاً ما؛ قيل إن الغزنوي قد وعد الفردوسي أن يعطيه ديناراً  ذهبياً عن كل بيت في الملحمة، وأن السلطان طلب من الشاعر أن يضيف مجموعة من القصص التي تحكي أمجاد الغزنويين.

انتظر فردوسي بعد أن انتهى من علمه أن يُكافأ بمبلغ 60 ألف دينار -لأن الملحمة زادت لتصل لستين ألف بيت- ولكنه فوجئ بأن الغزنوي -تحت تأثير من شعراء بلاطه الذين يحسدون الفردوسي ويمقتونه- يمنحه عشرين ألف درهماً  فضياً فحسب. يظهر الفارق الكبير بين المبلغين إذا عرفنا أن الدينار الذهبي الواحد يعادل ما يقرب من المئة درهم، بمعنى أن المكافأة التي تسلمها الفردوسي لم تكن لتمثل إلا 200 دينار ذهبي فحسب.

خرج الفردوسي من عند الغزنوي غاضباً حزيناً، كان يعرف أنه قد تعرض للظلم، وأنه قد أضاع عمره دون مقابل. تذكر بعض الروايات أن الشاعر الفارسي قد وزع المبلغ الذي استلمه من السلطان في بعض الحانات، وأنه قد سافر إلى بعض الأمراء في هرات وبعض نواحي أفغانستان، فمكث عندهم لفترة وبدأ في تأليف قصائد الهجاء التي انتقد فيها محمود الغزنوي، قال الفردوسي في واحدة من تلك القصائد: "إن السماء لن تنسى الانتقام، فانكمش أيها الطاغية من عباراتي النارية، وارتعش من غضب الشاعر".

بعد فترة رجع الفردوسي إلى طوس، وعاش فيها حتى توفي فيها سنة 411هـ أو 416هـ. رفض الأهالي أن يدفنوه في المقابر العامة للمدينة بدعوى أنه كان شيعياً. تتحدث بعض القصص أن الغزنوي شعر بظلمه للشاعر الفذ، وأنه أرسل قافلة محملة بالقطع الذهبية لطوس لتسليمها للفردوسي، وأن القافلة دخلت من باب المدينة في الوقت الذي دُفن فيه جثمان الشاعر. لما سأل قائد القافلة عن منزل الفردوسي وعرف أنه قد توفى، ذهب لابنته وطلب أن يسلمها الأموال، ولكنها رفضت، فرجعت القافلة بما عليها من أموال لغزنة، وقيل إن الغزنوي أبدى حزنه وندمه وقتها على ما اقترفه بحق أعظم شعراء عصره.

قصص الشاهنامه

يتحدث محسن الأمين عن مكانة الشاهنامة في الأدب الفارسي، فيقول إن: "الشاهنامة هي المرجع المهم في التاريخ والأدب الفارسي لجميع الأدباء والمؤرخين. مرجع سهّل على المتأخرين سبيل الشعر، وهو كنز اللغة الفارسية وقاموسها الرحيب، فليس هو كتاباً تاريخياً يشتمل على ذكر الملوك والأبطال وقضايا إيران وحوادثها الماضية فحسب، بل هو محتو على أغلب فنون الأدب ففيه حكمة وغزل وأخلاق، كما أن فيه قصص الحروب والأبطال وجميع نواحي العواطف الإنسانية من حب وهيام".

تبدأ الملحمة بالحديث عن جيومرت "الذي ملك العالم كله، ومنحه الله القوة والشهامة وجمال الوجه وبهاء الطلعة". بعدها تنتقل للحديث عن حفيده أوشهنج الذي عرف سر النار واكتشفها أثناء مطاردته للحية، وكيف أنه قد "استغل كل شيء من حوله لخدمة شعبه. فاستخرج الحديد من الحجر، وصنع منه الفؤوس والحراب. وشق الجداول إلى الصحاري، وبذر البذور فيها، ونماها بالمياه، واتخذ من جميع البهائم كل نوع يصلح للعمل كالبقر والحمير وغيرها، واصطاد الحيوانات البرية، واستعمل جلودها للملابس والمفارش".

بعد ذلك يلقي الفردوسي الضوء على قصة الصراع بين الضحاك ملك العرب والبطل فِريدون، وهي القصة التي تتشابه أحداثها كثيراً  مع قصص الأنبياء موسى وعيسى. يظهر الضحاك بشكل سلبي إلى حد بعيد. كان الشيطان اللعين قد استولى على روحه، وكان يخرج من جسده في صورة ثعبانين كبيرين يأكلان كل يوم عدداً من الرعايا المخلصين. حلم الضحاك يوماً ما بأن طفلاً يُدعى أفريدون سيولد ويكبر ليقتله ويأخذ ملكه، فنراه -أي الضحاك- يرسل جنده ليقتل الأطفال، ولكن القدر يرسل بالطفل الموعود إلى الجبال ليرعاه راعٍ يملك قطعاناً كبيرة من الغنم والبقر.

تعهد هذا الراعي بالحفاظ عليه، وأخذ يغذيه من لبن بقرة خلقها الله على لون يسرّ الناظرين ويعجب الخلائق أجمعين". من الممكن أن نلاحظ التشابه الكبير بين قصة فريدون الذي أرضعته البقرة والبطلين ريموس وروميلوس اللذين ذكرت الميثولوجيا الرومانية أنهما رضعا من ذئبة عقب أن تم تهريبهما من الحاكم الظالم الذي أراد أن يقضي على نسل أجدادهم من الملوك الشرعيين.

تتشابه شخصية رستم كثيراً مع شخصية البطل اليوناني هرقل، ويذهب بعض الباحثين أن القصص المرتبطة برستم كانت المصدر الذي اقتبست منه العديد من القصص الأسطورية التي ارتبطت بشخصية الإمام علي بن أبي طالب في القصص الشعبية الشيعية 

يرتبط الجزء الأشهر من الملحمة بشخصية البطل الأشهر رُستم بن دَستان، الذي ولد ولادة قيصرية. وخاض الكثير من الحروب ضد البطل التركماني أفراسياب. اشتهر صيت رستم لما حرّر الملك كيكاوس، وخاض في ذلك رحلة ملحمية على ظهر حصانه "رَخْش" -الذي يعني اسمه الرّعد-، وحارب في تلك الرحلة الوحوش والجن "وقتل السبع الهارب، والثعبان الهائل، والساحرة الشمطاء....". تتشابه شخصية رستم كثيراً مع شخصية البطل اليوناني هرقل، ويذهب بعض الباحثين أن القصص المرتبطة برستم كانت المصدر الذي اقتبست منه العديد من القصص الأسطورية التي ارتبطت بشخصية الإمام علي بن أبي طالب في القصص الشعبية الشيعية.

أورد الفردوسي أيضاً قصة زواج رستم من تهمينه، ابنة ملك سمَنجان، وكيف أنه قد فارقها، وقفل راجعاً إلى دياره دون أن يدري أنها قد حملت منه بابن، وهو الذي سيولد في ما بعد وسيُسمّى سُهراب.

الملحمة ستذكر الكثير من الأحداث بعد ذلك، ومنها أن سهراب سيعرف حقيقة بنوّته لرستم، وسيقود جيشاً كبيراً ناحية دياره، وكان يريد أن يضم قوته إلى قوة أبيه حتى يتمكنا معاً من اكتساح إيران، والسيطرة على جميع أراضيها، ولكن الأمور ستتعقد بعد وقوع عدد من المواقف الدرامية المُركبة، والتي سيجد البطلان -رستم وسهراب- نفسيهما بعدها، وقد وقفا ليتصارعا ضد بعضهما بعضاً في ساحة المعركة دون أن يعرفا أنهما الأب والابن، وسينتهي ذلك المشهد الملحمي برستم وهو يقتل ابنه، في نفس اللحظة التي سيعرف فيها حقيقة شخصيته.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard