دارت الأقدار دورتها الكاملة ورجعنا إلى تشيكيا.
أجلس أمام حاسوبي صاحب لوحة المفاتيح الثلاثية اللغات، اشتريت الأحرف العربية على شكل لاصقات أثناء زيارتي لتركيا بعد أن كانت الأحرف التشيكية هي الدخيلة على حاسوبي القديم حين كنت مقيمة في سوريا.
هذه حياتنا، أن نلتصق ببعض الأجزاء غير المتناسقة من هوياتنا، نحن مزدوجو الانتماء، نحن محترفو الاغتراب.
سافر آباؤنا طلباً للعلم بعد أن ضاقت بهم السبل في بلدهم وقد كانت وجهة أكثرهم أوروبا الشرقية ودولها الاشتراكية "الصديقة" لنظامنا المدعي الاشتراكية، سافروا وعادوا بزوجات حسناوات لم يطلبن مهراً ولا شبكة ويدركن جيداً ما هي الديكتاتورية فلن يصعب عليهن تربية أطفالهن بوجودها.
وعدنا معهم نحن، أطفالاً نرطن باللغات السلافية العذبة ونتطلع لاستكشاف هذا المكان الجديد الغامض الذي يدعى سورية.
ما هي أعدادنا؟ لا أعرف إحصائية تحصرها، فالفكر القومي العربي، ذاك العجل المقدس الذي يعبده طغاة الشرق، لا يعترف بوجود تفاهات كالهويات المركبة.
هأنذا أجد نفسي مقتلعة الجذور من جديد، هائمة بين بلدين كلاهما غربة وكلاهما وطن
الأب عربي، إذاً نحن عرب وانتهى الأمر، وقد نعتبر أنفسنا محظوظين لهذه النظرة حين نشهد ما ينال الأقليات العرقية من اضطهاد.
لقد تشتت السوريون في أصقاع الأرض فصار الاندماج مقابل الحفاظ على الهوية حديث الساعة، وهأنذا أجد نفسي مقتلعة الجذور من جديد، هائمة بين بلدين كلاهما غربة وكلاهما وطن.
خضت تجربة الاندماج الأولى وأنا طفلة ذات خمس سنوات لا تتقن اللغة العربية وتشتاق لحديقة الحيوانات وملاعب الأطفال ومسرح الدمى التي اعتادتها في براغ، فكانت النصائح العبقرية حول كيفية دمجي بالمجتمع السوري تنهال على أهلي من المعارف والأقرباء:
"اجعلوها تنسى اللغة التشيكية وإلا فلن تتعلم العربية."
"عليها أن تذهب إلى الحضانة وإلا فسترسب في المدرسة"
فكانت إذاَ الحضانة والضرب بالعصي وسادية المدرسات، كما كان الأطفال المعجبون جداً بشعري الأشقر والساخرون من لغتي الركيكة، وكنت أنهال عليهم ضرباً وأنا أطول وأقوى منهم بفضل جيناتي الأوروبية لكنهم لا يبالون لأني شقراء وجميلة في أعينهم وهم قد اعتادوا الضرب على أي حال.
كان الأطفال في سوريا يعجبون بشعري الأشقر ويسخرون من لغتي الركيكة.
تعلمت أن أستغل اختلافي فيما بعد، أنال الحلوى من أصدقائي مقابل غنائي "بالأجنبي"، ومع الوقت تعلمت اللغة العربية ولم أتعلم أن أكون عربية.
كانت الأمور تتفاقم كلما كبرت في السن.
ازداد إلمامي بتاريخ المنطقة وميراثها الثقافي وازداد إعجابي باللغة العربية وكنت أعتبر النحو والإعراب من أسهل وأمتع الحصص في المدرسة، لكن المجتمع أنكر علي ذلك.
أنا شقراء بملامح سلافية وهذا يعني أن لغتي العربية ركيكة، حتى لو بلعت مختار الصحاح ولسان العرب معاً.
عندما أمشي في الشارع أسمع تعليقات من نمط "روسية" و"بوريس يلتسن"، أمر مستفز جداً خاصة أن الروس بالنسبة للتشيكيين قوة استعمارية غير مرحب بها.
وتسألني إحدى الزميلات في الثانوية: "يريد أحد الشباب التعرف عليك عبر الهاتف، أمك لن تبالي إذا تكلمت مع الشباب لأنها أجنبية، أليس كذلك؟". والقصد واضح، الأجنبية وابنتها بلا أخلاق، فأنهر الفتاة الحمقاء بشدة وأبتعد عن معاشرتها. ومع مرور السنين أزداد تقبلاً لميراثي العربي ويزداد إصرار المجتمع على أني في نهاية المطاف غريبة عنه.
عندما أمشي في الشارع أسمع تعليقات من نمط "روسية" و"بوريس يلتسن"، وتسألني إحدى زميلات المدرسة: "يريد شاب التعرف عليك عبر الهاتف، أمك لن تبالي إذا تكلمت مع الشباب لأنها أجنبية، أليس كذلك؟"
لكن لماذا أتعجب؟ لا تحب ديكتاتوريات الشرق آباءنا، فهي تكره كل من يكسر القوالب.
لا يتحدثون عن أطفال الزيجات المختلطة إلا بشكل عابر في بعض المسلسلات، حيث يطلق البطل عبارات من طراز "أولاد الأجنبية للأجنبية" وهو ينظر إلى الكاميرا نظرة مأسوية، أو يتحدث إلى فتاة تسهر في الديسكو (رمز الفساد في مسلسلاتنا) وتبرر هي وجودها بأن أمها أجنبية، ولا ندري ما هو مبرر وجود البطل ابن الأم العربية في المكان نفسه، ومن يبالي، فليعلق في أذهان العامة أن الأجنبية آكلة لحوم الرجال وخطافة الأطفال وليشكروا النظام على حمايتهم من كل نسمة عابرة للحدود.
في النهاية دارت الأقدار ورجعنا إلى تشيكيا.
تظاهرت أمام السفارة السورية وتحدثت للصحافيين عن قضيتنا السورية فأخد التشيكيون يمتدحون إتقاني للغة التشيكية رغم أني شرحت لهم أنها لغتي "الأم".
والغريب أننا، نحن "أولاد الأجنبية"،ًموجودون برأي المسلسلات في وضعين فقط: أطفال مخطوفون أو فتيات مستهترات، إذ لا أذكر وجود شاب أو إنسان متوسط السن في أي عمل فني عربي باستثناء الفيلم المصري (الآخر) وفيه أم البطل أمريكية وهي طبعاً شريرة حتى الأعماق.
في النهاية إذاً دارت الأقدار دورتها الكاملة ورجعنا إلى تشيكيا، ذلك البلد القريب الغريب، وأصبحت في نظر الجميع سورية بامتياز.
تظاهرت أمام السفارة السورية وتحدثت للصحافيين ونظمت بعض المحاضرات عن قضيتنا وحضارتنا والناس تمتدح إتقاني للغة التشيكية رغم أني شرحت لهم أنها لغتي الأم.
ويطلب مني أصدقائي التشيكيون الغناء باللغة العربية وأحياناً يقدمون لي الحلوى بالمقابل. هذه حياتنا، نحن مزدوجو الانتماء، نحن محترفو الاغتراب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت