ليوم الاثنين، 26 أيار/مايو 2014، دلالة لم يتوقف أمامها باحثو علم الاجتماع السياسي في مصر. بدأت الانتخابات الرئاسية، واستقبلت اللجان أعداداً قليلة من الناخبين. لم يرفع مواطن شعاراً، أو يحرّض على عصيان مدني. فما يشبه الإجماع التلقائي استقر على أن النتيجة محسومة، ولا داعي للمشاركة في الاستنخاب. والاستنخاب نحتٌ يذيب الحدود الفاصلة بين استفتاء على فرد واحد أحد، وانتخاب حقيقي من بين أنداد. كان ذلك اليوم فاتحة ثلاثة أيام من الصمت. ذلك التهديد الأبيض قد يستعاد، وقد يتلوّن حسب المزاج العام المتقلب، ويتسلح بمجاز سياسي آخر.
السلوك المتراخي، السلبي، فاجأ الحكومة. وفي اللهوجة، اتخذت إجراء يحفظ ماء الوجه. مددت ساعة إغلاق صناديق الاقتراع إلى العاشرة، بدلاً من التاسعة، وأعلنت اليوم الثاني والأخير، الثلاثاء، عطلة رسمية. وفي مشهد استجداء للأصوات، وما تمثله من غطاء للشرعية أيا كان توجه التصويت، قررت اللجنة المشرفة على الانتخابات تمديد التصويت يوماً ثالثاً، فاعتبرت بعثة المراقبة التابعة لمنظمة الديمقراطية الدولية قرار تمديد الانتخابات مثيرا للتساؤلات حول النزاهة الانتخابية. وقال إيريك بيورنلوند رئيس المنظمة في بيان إن "القرارات التي تتخذ في اللحظات الأخيرة عن إجراءات انتخابية مهمة، مثل قرار تمديد التصويت يوما إضافياً، يجب ألا تتخذ سوى في ظروف استثنائية".
الأداء السياسي يفخّخ اللغة فتحمل عدة أوجه، وتقبل تأويلات تسمح بالمرواغة والخداع والتحايل على النص
الأعوام التالية، الرهيبة، ألهت الناس عن تلك الذكرى. وطأة الوقائع أنستني أن استفتاء جرى، بعد سنوات، لتعديل الدستور. استفتاء ألغى جدوى الانتخاب نفسه. نسيت واقعة الصمت عام 2014، حتى فاجأني كتاب "المجاز السياسي". ولمؤلفه الدكتور عمار علي حسن كتبٌ بعضها حالم، مثل "التغيير الآمن... مسارات المقاومة السلمية من التذمر إلى الثورة" (دار الشروق، القاهرة 2012).
في سنوات التفاؤل تحمست دور النشر المصرية لإصدار كتب عن ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، وتخلصت مما بقي منها حين تحولت الثورة إلى وصمة. يوم قرأت "التغيير الآمن" قلت لعمار: "ليست الثورة نزهة أو قصيدة، فمتى نشهد تغييراً آمناً؟". وانقضّ على الثورة موجتان للقوى المضادة للثورة.
أضمن لقارئ كتاب "المجاز السياسي" (عالم المعرفة، الكويت، أيلول/سبتمبر 2021) صحبة طيبة، رحلة طولها 375 صفحة، تنتقل فيها اللغة من حارسيها في علم البلاغة، إلى محترفين يجيدون استثمارها، ويدركون سحرها في الفضاء البيني. الكتاب سفر شائق مع اللغة المراوغة حين تستبد بها السياسة كعلم ناعم أو سلوك خشن. مضيتُ في الرحلة حتى محطتها الأخيرة "الصمت"، فاستيقظ في ذاكرتي يوم الاثنين، 26 أيار/مايو 2014، وتفاءلت. فصل "الصمت" مسبوق بمقدمة وخمسة فصول، هي على التوالي: السياسة والكلام، ما المجاز السياسي؟ الاستعارة، المبالغة، الصورة.
المجاز لغة فوق اللغة، توسلٌ بالكلمات إلى ما هو أعمق من دلالات الألفاظ المعجمية. لغة يتقنها الأمي والمثقف. الأول بذكائه الفطري يقول شيئاً ويقصد معنى آخر، فإذا سألته أجاب: مثلاً مثلاً. والثاني يقول: مجازاً. ويستند الكتاب إلى قول الدكتور مصطفى ناصف: "قد نجد استعارات في الشارع أكثر بلاغة مما في كتب شكسبير".
المجاز لغة طورها الإنسان، واصطحبها إلى دوائر أكثر رحابة من حدود المعاجم. واللغة كما يقول نيتشه "جيش متحرك من الاستعارات والكنايات والتشبيهات".
ولا تنفصل البلاغة عن نسيج الحياة، وتتفاوت أنصبة حضورها وفقاً لظروف مختلفة. والأداء السياسي يفخّخ اللغة فتحمل عدة أوجه، وتقبل تأويلات تسمح بالمرواغة والخداع والتحايل على النص. للغة وظيفة سياسية، فهي كما يقول المؤلف "تقع في قلب القوة... إذا كانت السياسة تدور حول القوة، فإن القوة الصريحة تعتمد على اللغة في الأساس".
قوة الكلمات، في رأي جوستاف لوبون، ترتبط "بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماما عن معانيها الحقيقية". وفي "الخصائص" يقول ابن جني: "المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة". وللشعر حضور لافت في الخطاب السياسي العربي، ويتناسب منسوب المبالغات مع درجة الاستبداد السياسي والديني.
"التاريخ لا يصنعه الصائتون فقط، بل يصنعه الصامتون أيضاً"
فصل "الصمت" يبدأ بمقولة "التاريخ لا يصنعه الصائتون فقط، بل يصنعه الصامتون أيضاً". الصمت اختيار العاجز عن الفعل، الخائف من عاقبة الكلام. وفي رأي عمار علي حسن أن في "التراث البلاغي العربي ما يدل على أن الصمت درجة رفيعة من البلاغة، تكون أحيانا أفصح من الكلام في القدرة على الإبانة ونقل المعنى وإثراء عملية الفهم والإفهام". وتتسلح الأنظمة فاقدة الشرعية بالصخب، ويزعجها إعراض الشعب عن التجاوب مع سياساتها. وقد عرف التاريخ تنويعات على الثورة الصامتة التي تستهدف تعرية المستبد من الشرعية الأخلاقية.
في التاريخ المصري وقائع فردية كان الصمت فيها قاتلاً.
اختار الأميرالاي "العميد حالياً" علي بك يوسف أن يخون الزعيم أحمد عرابي عام 1882، وكافأه جيش الاحتلال البريطاني بلقب "باشا". لكن الضمير العام سلبه رتبته العسكرية المرموقة ولقب الباشا، وأطلق عليه الشعب اسم "خنفس". ولقي شركاؤه في الخيانة مصائر شبيهة، ومنهم رئيس مجلس الأعيان محمد سلطان الذي جند بالرشوة "مسعود الطحاوي"، صديق عرابي، وتولى الطحاوي نقل أخباره إلى جيش الاحتلال، وكافأه الخديو توفيق بعشرة آلاف فدان، ومنحه الإنجليز لقب "سير". وأما جيرانه فاحتقروه. نبذوه، ورفضوا التعامل معه، ولازمته لوثة، فظل يهيم مردداً: "سامحني يا عرابي".
وبعد نفي عرابي، تفنن الشعب في إخفاء خطيب الثورة عبد الله النديم، رغم المكافأة السخية. تنقل النديم من بلد إلى آخر، تسع سنوات تزوج فيها وأنجب. وفي إحدى نوبات المطاردة، لمحه مأمور أحد أقسام الشرطة، وعرفه رغم التخفي، فأمر الرجل جنوده بأن يسبقوه، ثم رجع إلى النديم، وقال له: عرفتك. لم يجد النديم مفرّاً، واعترف: نعم أنا النديم. فقال له المأمور: اِعلم أن في الحياة بقية للكرام. وأعطاه ثلاثة جنيهات، والأهم من هذا كله أنه دل النديم على طريق آمن للهروب!
ظل النديم طليقا حتى وشى به "حسن الفرارجي"؛ فقاطعه أهل قريته حتى مات كمداً.
المجاز لغة فوق اللغة، توسلٌ بالكلمات إلى ما هو أعمق من دلالات الألفاظ المعجمية. لغة يتقنها الأمي والمثقف. الأول بذكائه الفطري يقول شيئاً ويقصد معنى آخر، فإذا سألته أجاب: مثلاً مثلاً. والثاني يقول: مجازاً
الآن، وبسبب الخوف، سوف أفترض أن دولة ما، لتكن كوريا الوسطى، في المنطقة العازلة بين الكوريتين، محكومة بقبضة استبدادية للكلام فيها ضريبة قد تكلف المواطن حياته؛ لأنه منقوص المواطنة، ولا ضمانة لمحاكمة عادلة إذا تم تأويل تغريدة على نحو يتهم كاتبها بقلب نظام الحكم، أو إحداث الفوضى بمساعدة جماعة إرهابية هاربة إلى إحدى الكوريات في تحقيق أغراضها. ماذا يحدث لسكان كوريا الوسطى، السكان لا المواطنين، لو جربوا اللجوء إلى الصمت، على مراحل متصاعدة، تبدأ باليوم الأول في الشهر، ويليه اليوم الأول كل الأسبوع، ثم يومي الاثنين والخميس. ثم تضاف الأعياد الوطنية والدينية إلى أيام صمت.
خطة الصمت تشمل الاعتصام بالبيوت في ما يشبه العصيان المدني العام، وتفادي النزول إلا لضرورة تقترن أيضاً بالصمت، اكتفاء بالإيماءة، وإغلاق الهواتف، وعدم فتح أجهزة الراديو والتلفزيون. وبعيداً عن أيام الصمت سيتفق سكان كوريا الوسطى على المقاطعة التامة، والدائمة، للشركات التجارية التابعة لأجهزة رئيس كوريا الوسطى، من متاجر ومجازر وصيدليات ومحطات الوقود، والاستغناء عن منتجات هيئات تدار بالأمر المباشر من الرئيس، وتبدأ بمنتجات ناعمة مثل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والأغاني والصحف والقنوات الفضائية، وصولاً إلى المنتجات الغذائية.
كم من الوقت يستغرقه نسيان الشعب للكلام؟ وإلى أي مدى يمكن لسكان كوريا الوسطى تصدير هذا النموذج، وتسجيله باسمهم في براءات الأختراع؟ ستجيب الأيام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...