لم أنس مشهد جارتي النائمة على ملاءة في حوش منزلها الريفي. والنساء من حولها يرددن بعض الجُمل الحماسية التي تشجعها على تحمل الألم قبل أن تلد طفلها. وكنت أنا هناك في السادسة من العمر، طفلة دخلت خلسة دون أن تنتبه والدتها.
تلتصق بذاكرتنا بعض المشاهد التي لا ننساها أبداً مهما مرت السنوات، والتي دون أن ندري تكون سبباً في حدوث الكثير من المشكلات لنا مستقبلاً. فمن المؤسف أن نرى ما يجب ألا نراه وأن نسمع ما لا تستوعبه آذاننا.
فضول طفلة
لم أعرف إلى الآن ما السر وراء حدوث هذا الموقف معي. ما الذي يدفع طفلة صغيرة إلى الوجود في مكان "للكبار فقط"، لترى بعينيها ما يجعلها تصاب بفوبيا "الولادة" مستقبلاً. أتصور نفسي أحياناً عند استرجاع المشهد وكأنني امرأة كبيرة تحاول منع نفسها "الطفلة" من الجري وراء والدتها – كما يحدث في الأفلام.
كنت تقريباً في السادسة في العمر عندما نادت جارتنا أمي قائلة: "تعالي كريمة بتولد". تركت والدتي ما بيدها وركضت إلى منزل الجارة القريب من بيتنا. وذهبت أنا وراءها دون أن تراني
كنت تقريباً في السادسة في العمر عندما نادت جارتنا أمي قائلة: "تعالي كريمة بتولد". تركت والدتي ما بيدها وركضت إلى منزل الجارة القريب من بيتنا. وذهبت أنا وراءها دون أن تراني. وكان الباب الخلفي للمنزل مفتوحاً، ووقفت وراء كنبة قديمة. كنت أرى كل شيء أمامي. نساء حول المرأة التي تئن من الألم، تسأل واحدة عن موعد وصول "الداية"، بينما ترد الأخرى أن الأمر بسيط، ولو تأخرت "الداية" يمكنهن هن أن يقمن به للنهاية دون حدوث أي مشكلة.
جارتنا، تارة تئن وأخرى تبكي في صمت. تضحك بعض النساء دون أي قلق. يسألن عن زوجها فتقول إنه في الغيط يهتم بالأرض والبهائم. تسأل واحدة عن المياه المحيطة بالطفل وعما إذا كانت نزلت كلها. بينما تهتم الأخرى بــ"الطلق" وتسأل عن فرق التوقيت بين الواحدة والأخرى. لم أعرف حينها ما معنى الكلمة. كانت أمي تمسك بقطعة قماش وتمسح على رأس جارتنا ولم تتحدث كثيراً.
مرّ عدد من الدقائق وزادت أوجاع "كريمة". كانت امرأة تجلس بين قدميها وترفع ساقيها إلى الركبة. جارتنا كانت عارية من الأسفل. صدمني هذا المشهد أكثر من أي شيء آخر. رأيت بعض الدماء المتناثر على الملاءة أو ربما مياه صفراء لم أستطع أن أميز
مرّ عدد من الدقائق وزادت أوجاع "كريمة". كانت امرأة تجلس بين قدميها وترفع ساقيها إلى الركبة. جارتنا كانت عارية من الأسفل. صدمني هذا المشهد أكثر من أي شيء آخر. رأيت بعض الدماء المتناثر على الملاءة أو ربما مياه صفراء لم أستطع أن أميز. عرفت وقتها أنني في "المكان الخاطئ" وأن أمي ستلقنني درساً قاسياً لو رأتني. بعد دقائق، وصلت الداية. جلست المرأة بين ساقي الجارة وفتحت "صرتها" وأخرجت مقصاً، ومدت يدها لتتحسس رأس الطفل قائلة: "شدي حيلك قرب". في نفس اللحظة التي أطلقت فيه جارتنا صرخات متتالية من الألم، خرجت من المكان بسرعة ودون تفكير.
أنجبت جارتنا ذكراً. وبعد أسبوع، ذهبت أمي ثانية لحفل "السبوع". وقتذاك، كانت تريدني أن أذهب معها، ولكني لم أحب ذلك. رافقتها شقيقتي الوسطى. لم تعرف أمي إلى الآن أنني ذهبت وراءها، ولكني أخبرت شقيقتي الكبرى التي لامتني كثيراً بسبب تطفلي. لم أنس ما رأيته هناك. وعندما كبرت، كنت أسأل نفسي هل كان هذا ما يحدث عادة مع المرأة التي تلد أم أنها فقط ظروف القرية الفقيرة التي نشأت فيها. ارتبطت الولادة في ذهني دائماً بالألم الشديد غير المحتمل. ومرات عديدة قلت لنفسي إني لن أتزوج أبداً حتى لا ألد.
عقدة الولادة وفيلم "الحفيد"
الكثير من أصدقائي عندما يرون مشهد ولادة الفنانة المصرية منى جبر في فيلم "الحفيد"، يقولون إنها تبالغ جداً في الصراخ والألم، فقالت لي صديقتي التي سبق لها الولادة الطبيعية: "يكون هناك ألم شديد طبعاً، ولكن هذا الصراخ مبالغ فيه. فعندما تلد، لا تستطيع الصراخ بمثل هذه القوة". ولكن رغم كل الآراء المتباينة حول هذا المشهد، كان يمثل حالة من الرعب بالنسبة لي. كان هو المثل لما سأتعرض له في حالة زواجي وإنجابي.
في الفيلم، تلد منى جبر في المنزل بمساعدة والدتها، وتجسد الآلام والمعاناة التي تتعرض لها المرأة التي تلد طفلها من خلال الصراخ والتعرق والتأوه الشديد لساعات طويلة، حتى أن شقيقتها التي كانت حاملاً، تخاف مما ينتظرها فتفر من المنزل مع والدها.
أسأل أمي: "كيف ولدتني؟"، تشير بإصبعها إلى الكنبة وتقول: "هنا"، أنظر في دهشة وأسأل مجدداً: "من ساعدك؟" فترد: "جدتك كانت معي". أجوبة تدخلني في حيرة وتساؤل "كيف عاشت هؤلاء النساء في تلك الظروف وكيف تحملن كل ذلك؟"
يحب أفراد أسرتي هذا الفيلم كثيراً ويعتبرونه من أكثر الأفلام الكوميدية. ولذلك، كنت أجد نفسي من وقت إلى آخر أمام هذا المشهد الذي كان يمثل لي الجحيم التي تنتظرني لو فكرت في الإنجاب. كانت أمي تضحك عندما ترى لقطة الولادة. وكنت أسأل نفسي: "ما الذي يجبر المرأة على الدخول في طريق تعرف أن بداخله مثل هذا الألم الرهيب؟". أفكر في جارتي التي رأيتها وهي تلد وأصبح لديها أحفاد الآن. وأسأل أمي: "كيف ولدتني؟"، تشير بإصبعها إلى الكنبة وتقول: "هنا"، أنظر في دهشة وأسأل مجدداً: "من ساعدك؟" فترد: "جدتك كانت معي". أجوبة تدخلني في حيرة وتساؤل "كيف عاشت هؤلاء النساء في تلك الظروف وكيف تحملن كل ذلك؟"
ضحكت صديقتي المقربة من مخاوفي بشكل هيستيري عندما أخبرتها قبل خطبتي أن أكثر ما أخاف منه في الزواج هو الولادة. قالت: "الولادة القيصرية سهلت الأمر كثيراً، ولكن رغم الألم نحن النساء ننسى سريعاً ونعود لنحمل ونلد مرة ثانية وثالثة. الأمومة هكذا"، لم أقتنع بما قالته.
بعدما تأكدت من حملي للمرة الأولى، كنت أنام فأرى الكوابيس من وقت إلى آخر. كان لدي هذا الإحساس بأنني عندما أدخل غرفة العمليات، سأموت، أو أنني سأواجه ألماً لن أكون قادرة على تحمله
بعدما تأكدت من حملي للمرة الأولى، كنت أنام فأرى الكوابيس من وقت إلى آخر. كان لدي هذا الإحساس بأنني عندما أدخل غرفة العمليات، سأموت، أو أنني سأواجه ألماً لن أكون قادرة على تحمله. بكيت لأيام بل لأسابيع بسبب هذا الهاجس. أخبرت أصدقائي المقربين بوصيتي وشعر زوجي بقلق شديد عندما لاحظ خوفي الزائد من الولادة.
مر الأمر بسلام في المرة الأولى وأيضاً في المرة الثانية رغم أن في المرتين انتابتني نفس المخاوف. ورغم أن الأمومة ليست خالية من الألم، من المؤكد أن الأمر يكون أكثر سلاسة عندما يأتي في حينه. ومن المحتم أنني لم أكن سأشعر بكل هذا الرعب لو لم يدفعني فضولي الطفولي للوجود في المكان الخطأ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع