شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
إلفيس بريسلي...  بطل نحتاج إلى إحيائه الآن

إلفيس بريسلي... بطل نحتاج إلى إحيائه الآن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 7 يوليو 202203:00 م

يعرض في الوقت الحالي الفيلم السينمائي "إلفيس" (Elvis) إخراج باز لورمان، وفيه إعادة إحياء لشخصية المغني الأسطوري الراحل إلفيس بريسلي، الذي، بالنسبة لجيل الألفية الجديدة وما بعده، ليس سوى أيقونة لمطرب أميركي قديم مبرهج الملابس، كان يظهر بشعر كثيف وصاحب صوت قوي للغاية.

في بعض الأحيان تحتاج الشخصيات التاريخية لاستحضارها على الشاشة، ليتعرف عليها أجيال جديدة كشخص من لحم ودم، وليس سجل نجاحات مسجلة في تقرير خبري مع خاتمة مكتوب فيها "توفي بسبب أزمة قلبية أو بجرعة زائدة من المهدئات".

بريسلي شخص عاش حياة كثيرة التقلبات، وظهر في زمن جعله على الحافة دائماً، بين مجتمع يعشق صوته وقد يكره كل ما يمثله من تحديات لقيم عصره.

إلفيس على الحافة بين الأعراق والجنسين

ظهر إلفيس بريسلي في البداية كمطرب له شعبية كبيرة، وتساءل بعض من سمعه ببراءة كبيرة وبعيداً عن التمييز العنصري والأحكام المسبقة: يا ترى ما هو لون بشرته؟ فهذا الشاب، صاحب الصوت القوي، قدّم أغاني تجمع بين موسيقى البلوز التي تخصص فيها أصحاب الأصول الإفريقية، وبين موسيقى الكانتري الأميركية الشعبية، هذا الخليط الذي كانت نتيجة لتربيته كشخص أبيض فقير يعيش في حي يسكنه الأميركيون السمر، فتشرب موسيقاهم وثقافتهم، وصنع بعد ذلك موسيقاه الخاصة المتفردة.

فيلم إلفيس بريسلي الذي صُنع بعد خمسين سنة تقريباً من وفاته أتى في الزمن الصحيح الذي بدأت فيه إعادة مناقشة وتعيين معاني لمفاهيم مثل الذكورة والأنوثة والجنسانية، مع العلم أن الأزمة كانت موجودة طوال الوقت، لكنها مؤجلة حتى يأتي جيل أكثر جرأة، يستطيع تحمل مسؤولية جعل العالم أكثر انفتاحاً وتفهماً للآخر بدلاً من قمعه

أتى مظهره مكملاً هذه الحيرة، فالشاب في مقتبل العمر كان جميلاً بشكل لافت، ويتمتع بملامح رقيقة، ويرتدي ملابس مزيّنة بالألوان الفاقعة، يضع المكياج حول عيونه وعلى شفاهه، ليكسر تلك الحدود الواهية التي تفصل بين ما يستخدمه الرجال وما تستخدمه النساء من ملبس وأدوات مكياج.

أضاف على كل ذلك حركات راقصة متقنة وغريبة بالنسبة للمشاهد الأميركي في تلك الحقبة، فهو يتراقص بساقيه وقدميه كما لو أن الألحان بمثابة جني يتلبسه ويحركه كما يشاء، حركات تحمل طاقة جنسية هائلة لا يمكن اعتبارها إيحاءات مباشرة، لكنها موجودة وتجتذب إليه ملايين السيدات والفتيات من المعجبات.

عدو قيم الأسرة الأميركية؟

جاء ألفيس بريسلي كرجل خارق، لا يمكن تصنيفه من حيث العرق أو الجنس، ولكنه ذو شعبية طاغية، وتلك الشعبية كانت تهديداً لقيم الأسرة الأميركية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ففي الخمسينيات، وبعد انتهاء الحرب وعودة الرجال، وجدوا أن نسائهنّ تغيرن وتمردن على التقاليد: خرجن للعمل لكسب القوت وإعالة عائلاتهنّ، واعتبرت عملية إعادتهنّ للمنزل "مهمة قومية" في تلك الفترة، وذلك عبر حملات مختلفة لتعزيز أدوار المرأة التقليدية في المنزل، الخضوع لذكور الأسرة ورسم صورة المرأة الصغيرة المثالية التي تنتظر زوجها بعد يوم عمل طويل، مستعدة بعشاء ساخن وابتسامة عريضة، وتشكيل سوق العمل مرة أخرى تقوم النساء فيه بأعمال كتابية غير إبداعية، ولا سبيل فيها للترقي.

أتى إلفيس بريسلي ليحطم صورة المرأة هذه، فكيف يمكن قمع نساء يصرخن ويرمين ملابسهنّ على المغني الشاب شديد الوسامة؟

اعتبرت الحكومة الأميركية أن غناء إلفيس ورقصه ضد الحياء العالم، وهُدّد بالسجن وإنهاء مسيرته التي بدأت للتو إذا استمر في حركات هز وركيه، بينما رأى المنادون بالفصل العنصري بين البيض وأصحاب البشرة السمراء، أن أغانيه التي تحمل في طياتها موسيقى البلوز، هي إهانة لهذه القوانين، فكيف يقبلون رجلاً أبيض يغني كالسود؟ وبدأوا يشنون حملة شرسة ضد إلفيس العابر للجنس واللون.

كيف يمكن قمع نساء يصرخن ويرمين ملابسهنّ على المغني الشاب شديد الوسامة؟

في إحدى المشاهد المحورية بالفيلم، يقرر إلفيس التمرد على قرار منعه من الرقص، فيظهر على المسرح ممتطياً جيتاره ومشعلاً الجماهير، يغضب رجال السياسة والشرطة معتقدين أن ما يفعله هو محض مجون، بينما في المشهد السابق له مباشرة عندما كان يتهيأ المسرح لقدوم النجم، سبقه مجموعة من الفتيات اللواتي يرتدين ملابس سباحة حمراء كاشفة ويرقصن رافعات أرجلهنّ في حركات جنسية فجة، نفس المتفرج في المسرح لم ير في هؤلاء النسوة شيئاً مستنكراً، على اعتبار أنه دور طبيعي تقوم به بعض فتيات الاستعراض اللواتي يتم استغلال جنسانيتهنّ كحق مكتسب في أعمال الترفيه.

هذه المفارقة والرياء الأخلاقي هو ما فضحه إلفيس بوجوده من الأساس، وجعل الجميع يحاول تدجينه وقصّ أجنحته، ووضعه بداخل بذلات لا يستطيع معها الحركة، كما لو أنه أسير بذلة حديدية مصمتة.

جنسنة الرجال VS. جنسنة النساء

"جنسنة النساء" أو "تسليع النساء" أو "تشيء النساء"، كلها أسماء مختلفة للأمر نفسه، وهو استخدام جنسانية المرأة وطبيعتها الجسدية بشكل مادي كأداة ترويج ودعاية، أو لجذب المشاهدين في الأفلام السينمائية بعيداً عن إسهاماتهنّ الفنية المهمة، وعلى العكس، هناك اتجاه غالب أنه لا يمكن جنسنة الرجال، إذ يعتبر البعض أن الرجل أكثر قيمة وأهمية من الخضوع للجنسانية، بل بعض رجال الدين الإسلامي، ومنهم الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر الشريف، خرج مؤخراً بتصريح جاء فيه: "الله عز وجل لم يجعل جسم الرجل مساراً للفتنة"، ولعلّ هذه النقطة هي أساس الرفض والعنف اللذين تعرض لهما إلفيس في شبابه الأول.

فهذا الشاب الجميل، بحركاته الراقصة الجنسانية للغاية ووجهه المزين، لا يجذب جمهوره فقط بصوته الرائع، ولكن أيضاً بجنسانيته الشديدة، وهذا يتعارض مع كل المتفق عليه والمتعارف حوله أن الرجال ليسوا أصحاب جنسانية أو جاذبية أو فتنة.

هل الجنسانية هي أمر مهين؟ أليست جزءاً أساسياً من طبيعة أي كائن بشري، أم إنها مهينة لأنها التصقت بالأساس بالنساء؟

بالإضافة إلى ذلك، فإن المجتمع وضع قواعد لشكل الرجل الذي يجب أن تُعجب به النساء، بملامح ذكورية قوية وعضلات مفتولة، فنجد أن الهجوم الذي تعرض له إلفيس بريسلي في شبابه يتعرض له الآن على سبيل المثال الممثل الأميركي تيموثي تشلاميه، ذو الملامح الرقيقة والجميلة، فيغضب المتحفظين من إعجاب النساء به.

فيلم إلفيس بريسلي الذي صُنع بعد خمسين سنة تقريباً من وفاته أتى في الزمن الصحيح الذي بدأت فيه إعادة مناقشة وتعيين معاني لمفاهيم مثل الذكورة والأنوثة والجنسانية، مع العلم أن الأزمة كانت موجودة طوال الوقت، لكنها مؤجلة حتى يأتي جيل أكثر جرأة، يستطيع تحمل مسؤولية جعل العالم أكثر انفتاحاً وتفهماً للآخر بدلاً من قمعه وتدجينه.

وهذا كله يجعلنا نطلق بعض الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة شافية، هل الجنسانية هي أمر مهين؟ أليست جزءاً أساسياً من طبيعة أي كائن بشري، أم إنها مهينة لأنها التصقت بالأساس بالنساء، فأصبح كل ما هو جميل وجنساني يجب أن يكون نسائي، وبالتبعية كل ما هو نسائي يعتبره البعض أمراً مهيناً، "ومعاذ الله أن يتصل بالرجال"؟

في الختام، إن تصريحات الشيخ أحمد كريمة تتوافق مع بعض الآراء السائدة في المجتمعات العربية، والتي تعتبر للأسف أن النساء مصدر"فتنة" يجب حجبهنّ عن الأنظار، وزجّهنّ داخل أبنية مغلقة بالأقفال، وإلا تستحق المرأة ما قد تتعرض له من تحرش واغتصاب أو حتى قتل، بينما تزعم هذه الآراء أن الرجال ليسوا مصدراً للفتنة، وأن لهم كل الحرية في فعل ما يعجبهم، وارتداء ما يرغبون به، حتى لو كانت ملابس لا تداري عورتهم، طبقاً لبعض المذاهب الإسلامية التي تنص على تغطية الرجال من السرة حتى الركبتين، للأسف، هذا حال بعض العقول التقليدية التي تعمل في وقتنا هذا على تعزيز التمييز الجنسي وحصر المرأة بقوالب نمطية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard