شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
اكتئابي في أثناء الحمل وبعده… هل أحببت ابنتي لحظة ولادتها؟

اكتئابي في أثناء الحمل وبعده… هل أحببت ابنتي لحظة ولادتها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 7 يوليو 202212:05 م


هل كان ينبغي أن أحب ابنتي منذ اللحظة الأولى؟ ربما لا. اكتشفت أنني لم أكن ملزمةً بذلك. بعد الولادة، تعاني معظم النساء من مشاعر الحزن والخواء والقلق والوحدة والبكاء المستمر إثر ما تحملته أجسادهن خلال فترة الحمل، وهو ما يُعرف بكآبة النفاس أو "Baby blues". لكن إن لم تختفِ هذه المشاعر أو الأعراض خلال أسبوعين، فهذا يعني أنهن يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، وهو اضطراب أكثر حدةً، ويستلزم دعماً نفسياً لتجاوزه بسلام، وقد يستمر لعام أو أكثر.

تعاني واحدة من بين كل سبع أمهات من اكتئاب ما بعد الولادة. وعلى عكس الكآبة النفاسية، لا يختفي وحده، وقد يظهر بعد أيام أو حتى أشهر من الولادة، وفق الجمعية الأمريكية لعلم النفس. يؤثر اكتئاب ما بعد الولادة على سلوك الأم وصحتها النفسية. قد تشعر الأم بأنها غير مرتبطة بطفلها، وكأنها ليست أمه، أو أنها لا تحب طفلها أو لا ترغب في رعايته. قد تتراوح هذه الأعراض في حدتها بكونها خفيفةً إلى شديدة. وفي حالات نادرة، قد تعاني النساء أيضاً من "ذهان ما بعد الولادة"، الذي قد يتضمن أعراضاً مثل الأوهام أو الهلوسات، وفق الجمعية الأمريكية لعلم النفس.

ترتبط الأمومة بالتضحية والحب المطلق للطفل، والصورة الذهنية التي رسخها مجتمع يقلل عادةً من شأن آلام النساء النفسية أو البدنية، بأن السعادة ينبغي أن تهيمن على جميع الأمهات بعد ولادة طفل جديد إذ تتطاير الفراشات من حولهن رغبةً في الاحتفال. يرفض المجتمع أن يعترف بأن هناك نساءً يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، بأعراض خفيفة أو متوسطة أو شديدة، وبأن الأم قد لا تشعر بصلة نحو طفلها، وبأنها قد تكون بحاجة إلى مساعدة حقيقية. هذه فكرة غير مستساغة أو محببة لصورة الأم التي دأبت على التضحية وحب الطفل من أول نظرة.

ترتبط الأمومة بالتضحية والحب المطلق للطفل، والصورة الذهنية التي رسخها مجتمع يقلل عادةً من شأن آلام النساء النفسية أو البدنية، بأن السعادة ينبغي أن تهيمن على جميع الأمهات بعد ولادة طفل جديد إذ تتطاير الفراشات من حولهن رغبةً في الاحتفال

ولأن لي تاريخاً مع مرض الاكتئاب، وتلقيت علاجاً نفسياً قبل سنوات، فقد عانيت من الاكتئاب في أثناء الحمل وبعده، ولا زلت أعاني من توابعه التي تهبّ بين الحين والآخر، حتى بعد مضي قرابة ستة أشهر على ولادة ابنتي، لتهدم أي حصن بنيته لحماية نفسي والحفاظ على كيان ظاهره القوة، وباطنه هشاشة ورثتها عن أبي الراحل. لكنني أدركت أن الأمومة لا يجب أن ترتبط بالاكتئاب والحزن أو القلق، وأن ما أعاني منه حقيقي، حتى وإن لم يكن مقنعاً لمن حولي، وأن عليّ أن أطلب المساعدة، لكن ذلك لم يكن سهلاً أبداً.

ما هي أسباب اكتئاب ما بعد الولادة؟

ذكرت الكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد، أن اكتئاب ما بعد الولادة قد يعود لعوامل عدة تشمل التغييرات في مستويات الهرمونات، إذ ينخفض هرمونا الإستروجين والبروجسترون انخفاضاً حاداً، وقد تؤدي هذه التغيرات إلى إصابة الأم بالاكتئاب. عامل آخر مهم وهو التاريخ المرَضي للأم مع الاكتئاب، إذ إن النساء اللواتي عانين من الاكتئاب في أي فترة، سواء قبل الحمل أو خلاله أو بعده، أو من يتلقين علاجاً حالياً من الاكتئاب، يزداد خطر تعرضهن للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة. هناك عامل آخر مرتبط بما إذا كان الحمل مرغوباً أو مخططاً له، أو لا، وهو ما قد يؤثر على شعور الأم نحو حملها وجنينها. وحتى إن كان الحمل مخططاً له، قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً للاعتياد على فكرة إنجاب مولود جديد. الإنهاك أيضاً من بين العوامل الأخرى، إذ تشعر العديد من النساء بالتعب بعد الولادة، وقد يستغرق التعافي أسابيع لاستعادة طاقتهن. افتقاد دعم الآخرين أو وقوع أحداث ضاغطة أو مؤلمة مثل وفاة شخص مقرب إلى الأم، أو إصابته بالمرض أو الانتقال إلى مدينة جديدة، قد تزيد من خطر الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.

ولأن لي تاريخاً مع مرض الاكتئاب، وتلقيت علاجاً نفسياً قبل سنوات، فقد عانيت من الاكتئاب في أثناء الحمل وبعده، ولا زلت أعاني من توابعه التي تهبّ بين الحين والآخر.

معاناة في صمت

بعد ولادتي وخروج ليلى إلى نور العالم، بكيت كثيراً. وظننت أنني تخلصت من كل الحزن الذي هيمن على قلبي في أثناء الحمل وعزلتي الاختيارية أو الإجبارية التي اقتضتها حالتي الصحية والنفسية، والأيام والليالي التي قضيتها وحيدةً عاجزةً عن الشعور بالسعادة بطفلتي التي أترقبها بشغف خلال معاناة ظننتها لن تنتهي. كتبت كثيراً خلال تلك الفترة. كنت أكتب وأبكي. أحتفظ بأوقات البكاء لنفسي، وأُظهر الجانب الهادئ للآخرين. كان الجميع يلومونني على عدم سعادتي بالحمل. كنت سعيدةً، لا شك في ذلك. تمنيت طويلاً أن أُرزق بابنة وأسمّيها ليلى، لكن المسألة لم تكن في يدي، ولم يكن ذلك واضحاً وضوحاً كافياً لهم. لهذا، ظلت معاناتي داخليةً، صامتةً، معظم الوقت، في أروقة عقلي وقلبي حيث خيّم الظلام على كل شيء.

عندما وضعوا ليلى على صدري، لم أستطع لمسها على الفور. ظللت أنظر إليها بابتسامة تتخللها دموع ونحيب لا يتوقفان. أخذها الأطباء بعد ذلك للاطمئنان عليها، وبقيت وحيدةً مع الطاقم الطبي حتى يتم مهمته. ما زلت أشعر بالحزن لأنني لم أستطع ضمها وقتاً كافياً آنذاك. هدأت وكفّت عن البكاء ونظرت إليّ ونظرتُ إليها نظرات ترقب لاستكشاف بعضنا البعض. صعدت بعدها إلى غرفتي بلا أي مشاعر؛ لا حزن ولا فرح. لا شيء. كل ما كنت أريده هو النوم بعد ثلاثة أيام من آلام الطلق والولادة لم أهنأ فيها بأي راحة أو نوم.

أحضرت الممرضة ليلى وأعطتني إياها. لم أعرف ما أفعل. لم أعرف ما ينبغي أن أفعل. حاولت إرضاعها، لم تكن الرضاعة الطبيعية مسألةً سهلةً. ظلت معي عشرين دقيقةً تقريباً، ورددتها بعد ذلك إلى الحضانة لأنني كنت بحاجة إلى الراحة. عادت الممرضة لتقدم أولى محاولات إلقاء اللوم علي في حياتي كأم. لم أنَم منذ ثلاثة أيام، وعانيت الأمرّين في ولادتي، وعقلي لا يستطيع استعياب شيء الآن، كما أنني لم أتناول شيئاً طوال اليوم. وهذه الممرضة تنظر إليّ نظرة أنني لست جديرةً بأن أكون أمّاً لأنني رغبت فقط في الاستحمام والنوم قليلاً. اكتفيت بالصمت. استحممت وأخذت دوائي وعدت بعد نصف ساعة إلى الحضانة لآخذ ليلى، وبقيت معي بعض الوقت، قبل أن تشفق الممرضة نفسها عليّ، لحالتي، وتطلب مني أخذ قسط من الراحة.

عندما وضعوا ليلى على صدري، لم أستطع لمسها على الفور. ظللت أنظر إليها بابتسامة تتخللها دموع ونحيب لا يتوقفان. أخذها الأطباء بعد ذلك للاطمئنان عليها، وبقيت وحيدةً مع الطاقم الطبي حتى يتم مهمته. ما زلت أشعر بالحزن لأنني لم أستطع ضمها وقتاً كافياً آنذاك

بعد عودتي إلى البيت، مرّ أول يوم بسلام. أذكر كيف نظرت إلى ابنتي وزوجي نظرة امتنان. وتجاهلت كل العالم من حولي لأحظى ببعض الهدوء. لكن ذلك لم يستمر، مررنا معاً أنا وليلى ببعض المشكلات المتعلقة بالرضاعة الطبيعية وفي اليوم الثاني فقط تحولت حالة اللا مشاعر إلى نهر من الدموع والبكاء بلا سبب.

لم أكن أنام، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وابنتي لا تتوقف عن البكاء ولا تنام سوى دقائق ثم تصحو. بقينا على هذا الحال أشهراً عدة بعد ذلك، كل ليلة أنظر إلى ليلى ولا أعرف ما ينبغي أن أشعر به. كل ما أشعر به هو فيض من الحزن وعتمة في روحي وبأنني متعبة وخائفة. لا يتوقف عقلي عن التفكير ولا عيني عن ذرف الدموع. الجميع ينتظرون منك في هذه اللحظات أن تكوني سعيدةً لأنك رزقتِ بمولود، لكنهم لا يفهمون ما تشعرين به، وكم تحتاجين إلى التفهم والرعاية والدعم والأنس من حولك. كنت أبكي كل ليلة وأصاب بانهيارات عصبية وثقل في قلبي وشعور بالألم في كل أنحاء جسدي.

على الجانب الآخر، كان العالم يتقدم من حولي، يمضي قدماً وكنت أنا هنا، في مكاني، متعبةً ومرهقةً ومثقلةً بمسؤولياتي الجديدة، غير قادرة على أداء أبسط المهام.

على الجانب الآخر، كان العالم يتقدم من حولي، يمضي قدماً وكنت أنا هنا، في مكاني، متعبةً ومرهقةً ومثقلةً بمسؤولياتي الجديدة، غير قادرة على أداء أبسط المهام. شعرت بأن مستقبلي كامرأة عاملة انتهى، وهو شعور ما زال يلازمني. ستتقيد حركتي الآن، ولن أستطيع فعل أو إنجاز شيء. انتهت حياتي تماماً. كنت أنظر إلى الأمهات اللواتي أعرفهن، كيف استطعن الجمع بين الأمومة وحياة مهنية ناجحة؟ أدركت بعد وقت لا بأس به أنني قد أستطيع أيضاً، لكنني بحاجة إلى بعض الوقت للتعافي. لكن في ذلك الوقت، كان كل شيء مظلماً في رأسي وروحي كانت قلقة.

لم يخفف من وطأة المعاناة سوى وجود شريك داعم وصديق ورفيق طيب متفهم كان دائماً معي في جميع أوقاتي السيئة. وهذا ما تحتاج إليه أي أم جديدة أو أي إنسان بصورة عامة؛ أن تكون معاناته مسموعةً، حتى لو لم ينطق بكلمة. تحتاج الأم المصابة باكتئاب ما بعد الولادة إلى دعم طبيب نفسي، إلى جانب دعم شريكها وعائلتها وأحبتها وأصدقائها حتى تمر من هذه الأزمة بأقل الأضرار والخسائر الممكنة.

أم سيئة أم مريضة اكتئاب؟

في مشهد من الجزء الثاني من مسلسل "ليه لأ"، للمخرجة مريم أبو عوف، يتهم صلاح (أحمد حاتم) زوجته رانيا (سارة عبد الرحمن)، بأنها لا تصلح لأن تكون أماً وأنها لا تقدّر الهبة التي منحها الله إياها. على الجانب الآخر، كانت رانيا تحاول شرح أنها أصيبت بالاكتئاب بعد الولادة، وظلت تتلقى علاجاً لسنوات حتى تتعلم كيف يمكن أن تحب ابنتها وترعاها. المشهد كان مؤثراً ومختلفاً عن الصورة النمطية للأم في الدراما المصرية، وربما مرّ مرور الكرام على من انتقدوا رانيا وسلوكها مع ابنتها خلال العمل، من دون محاولة فهم أسباب ذلك. عبّرت رانيا عن معاناة العديد من الأمهات اللواتي منعهن اكتئاب ما بعد الولادة من رعاية أطفالهن. في حالة كحالة رانيا، تحتاج الأم إلى المساعدة والدعم وليس اللوم والتشكيك في أهليتها لتكون أماً صالحةً.

كيف صمدت أو تجاوزت الأمر؟ لا أعرف. لكنني أعتقد، أن ليلى أنقذتني من عتمتي، عن عمد أو من غير تعمّد، لا أعرف. أنقذتني بحبها لي

ابتسمت ليلى، وابتسم العالم لي مجدداً

كيف صمدت أو تجاوزت الأمر؟ لا أعرف. لكنني أعتقد، أن ليلى أنقذتني من عتمتي، عن عمد أو من غير تعمّد، لا أعرف. أنقذتني بحبها لي. بعد ثلاثة أشهر، وبالرغم من الصعوبات كلها التي تحملتها لأكون أماً وامرأةً عاملةً في آن واحد، ومع كل الشعور بالذنب بأنني قد أنشغل قليلاً عن ابنتي، تمكنت إلى حد ما من الوقوف على أرض صلبة. وتحسن الوضع تدريجياً. ليس كثيراً، لكن إلى الحد الذي تصبح فيه الحياة محتملةً قليلاً.

متى أحببت ليلى؟

كان حبها في داخلي معظم الوقت، لكنه بدأ بالتكشف عندما بدأت تتفاعل معي، تبتسم وتنظر إليّ بمحبة غريبة لم أكن أعلم أنها موجودة في العالم. محبة لم أدرك يوماً أنني أستحقها. تراقبني أتحدث وتنصت لي بانتباه، تهدأ بين ذراعي، وتبتسم ابتسامةً تسرق قلبي كلما شاهدتني أفعل شيئاً. تعرفني وتحبني وتحب أن تكون بالقرب مني. أحببتها منذ اللحظة الأولى، لكنني لم أكن قادرةً على فهم ذلك آنذاك، أو التعبير عنه. كان عليّ أن أحب نفسي أولاً، كي أستطيع أن أحب ابنتي. أن أمنح ذاتي فرصةً كافيةً للتعافي من تجربة بقدر ما كانت جميلةً وثريةً وملهمةً ومهمةً، بقدر ما كانت منهكةً على الصعيدين الصحي والنفسي. كانت عليّ إعادة بناء نفسي واستعادتها مجدداً حتى أكون كما أحب، وكما تحب هي أن أكون.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard