منذ أيام تضج وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية بخبر حزين عن أم قتلت أولادها الثلاثة، وكتبت رسالة لوالدهم تتمنى فيه أن يعوضه الله بأطفال آخرين. ذُهل الناس بهذا الحادث المؤلم الذي هزّ كل الكليشيهات المحفوظة في الأذهان حول الأمومة وحنانها الراسخ.
شُخّصت المرأة باكتئاب ما بعد الولادة، خاصة وأنها أنجبت طفلها الثالث منذ شهور قليلة، بينما الابن الأكبر مصاب بالتوحد، وتعيش بعيداً عن زوجها المسافر خارج البلاد، وبدا الأمر كما لو أن بعض القرّاء والمتابعين/ات اكتشفوا/ن لأول مرة اكتئاب ما بعد الولادة، على الرغم من كونه، بأشكاله ودرجاته المختلفة، متكرراً حولنا، وكُتب عنه العديد من الكتب كما ظهر في السينما والمسلسلات العربية.
نساء قتلن أطفالهنّ على الشاشة
خلال فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته لعام 2021، عُرض ثالث أفلام المخرج المصري الشاب مراد مصطفى، تحت عنوان "خديجة"، ضمن مسابقة الأفلام القصيرة.
الفيلم الذي لا يتعدى طوله عدة دقائق يبدأ بشابة سمراء جافة الجسم متواضعة الملامح والملابس، مع رضيع صغير يحمل الكثير من صفاتها الجسدية، وعلامات الفقر تبدو عليه كما على المنزل وأمه.
منذ أيام تضج وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية بخبر حزين عن أم قتلت أولادها الثلاثة، وكتبت رسالة لوالدهم تتمنى فيه أن يعوضه الله بأطفال آخرين. ذُهل الناس بهذا الحادث المؤلم الذي هزّ كل الكليشيهات المحفوظة في الأذهان حول الأمومة وحنانها الراسخ
تذهب الأم لزيارة والدتها، تمشي في الشوارع صامتة، تبدو كما لو أنها تجرّ في كل خطوة صخوراً بدلاً من حذائها البسيط، وعلى إحدى الكباري المعزولة المطلة على النيل، تقف وهي تدير ظهرها للمشاهدين/ات، فيتوجس هؤلاء خيفة، إذ إن تصرفاتها التي تحمل في كل حركة وسكنة الكثير من الحزن تشي بأنها ستقفز مع ابنها، لكن في حركة خاطفة تسقط الرضيع كما لو أنه منديل مستخدم ترغب في التخلص منه.
شهق الكثير من الحاضرين رعباً من هذه الحادثة المروعة، خاصة وأن الأم أكملت طريقها بشكل آلي لزيارة والدتها، وهناك تبدأ في حديث مقتضب حول الزوج الغائب وقلّة المال... تنتزع والدتها الكلمات منها انتزاعاً، وهي صامتة، هادئة هدوءاً يحمل تحته هستيريا مروعة، لا تنفجر سوى في دورة المياه وحيدة، لينتهي الفيلم في هذه النقطة، تاركاً للمتفرج تفسير كل هذه الأحداث المخيفة التي شاهدها في اللحظات السابقة، ويتخيل مستقبل خديجة الأسود.
شخصية درامية أخرى قامت بنفس الفعل، لكن مع تفسيرات أكثر وضوحاً، هي "حياة" في مسلسل "سجن النساء".
نتعرف على هذه المرأة لأول مرة على مائدة أسرتها الصغيرة التي تتكون من زوج وزوجة وطفلين وأم للزوجة، تُظهر "حياة" العديد من العلامات على اضطراب نفسي واضح، فهي تخشى على أولادها بشكل زائد، تدقق في كل التفاصيل اليومية بصورة تثقل على الجميع من حولها.
ومن الحديث الذي يتلو هذا المشهد نعرف أن هذه المرأة تعاني من أزمة نفسية بالفعل، لم يتم تشخيصها لأسباب متعددة، من الجهل إلى الفقر.
وفي أحد الأيام، ونتيجة لنوبة ذهانية حادة، تقتل الأم أبناءها وزوجها وتحاول الانتحار بذات السم.
السبب هنا خشية المرأة البائسة على أولادها من هذه الحياة القاسية، فهي تخاف عليهم كل يوم من القتلة والمغتصبين والأغذية الفاسدة والفقر وغيرها من الأسباب، وصوّر لها ذهنها المضطرب أن في إنهاء حياتهم خلاصاً لهم جميعاً، وكما حدث مع المرأة التي قتلت أولادها الثلاثة، فإن "حياة" لم تمت، بل عاشت لتعاني وحدها من تفاصيل الدنيا التي خافت عليهم منها.
اكتئاب ما حول الولادة
لم يكن ما قدمه مراد مصطفى في فيلم "خديجة" أو كاملة أبو ذكري في مسلسل "سجن النساء" مبالغات درامية، فقد عانت وتعاني ملايين النساء من الاكتئاب والذهان الذي قد يؤدي إلى ارتكابهنّ جرائم بشعة بحق أنفسهنّ وأطفالهنّ.
وبسؤال الطبيبة النفسية، رنا أشرف، حول اكتئاب ما بعد الولادة ودرجاته والفرق بينه وبين الذهان، أجابت أنه مثل الاكتئاب العادي، له ثلاث درجات مختلفة: اكتئاب بسيط، اكتئاب متوسط الشدة واكتئاب شديد.
وتختلف الأعراض من درجة لأخرى، بينما على الجانب الآخر هناك ذهان ما بعد الولادة، وهو يختلف عن اكتئاب ما بعد الولادة، لكن هناك أنواع من الاكتئاب يأتي معها ذهان، ويصنف مباشرة في هذه الحالة أنه من النوع الشديد.
على الجانب الآخر، أكدت أشرف لرصيف22، أن النساء المصابات بالاكتئاب قبل الحمل في حياتهنّ الاعتيادية، يصبن بنسبة 40% باكتئاب ما بعد الولادة، وكذلك الأمر بالنسبة للذهان: "لو أصُيبت المرأة باكتئاب ما بعد الولادة في الحمل الأول، هناك احتمال كبير لتكراره مع الأولاد التاليين، وترتفع الاحتمالات في حالة وجود تاريخ عائلي مرضي".
أكملت رنا بالقول: "يختلف اكتئاب ما بعد الولادة عن الاكتئاب العادي في كون الأم لا تفكر في إيذاء نفسها فقط، لكن كذلك الطفل، الأمر الذي ينبع من اختلاط أفكارها بالشعور بالذنب من كونها أتت به لهذا العالم القاسي، أو لعدم قدرتها على العناية به بشكل سليم، بينما الذهان قد يزرع لدى الأم أفكار أكثر غرابة وعنفاً، فتسمع في هذه الحالة أصوات تحثها على إيذاء الطفل".
وأرجعت أشرف السبب وراء الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة أو الذهان بعد الولادة إلى الضغط النفسي والجسدي الذي تتعرّض له المرأة خلال هاتين التجربتين، خاصة لدى السيدات اللواتي لديهنّ تاريخ مرضي، لأن هذا يعني أن الأعراض قد تزيد.
هذا وأشارت رنا أشرف إلى نقطة مثيرة للغاية، أنه في الفترة الأخيرة تغيّر المصطلح علمياً من "اكتئاب ما بعد الولادة" إلى "اكتئاب ما حول الولادة"، لأن المدة في الماضي كانت تبدأ من الولادة، لكن بعد الدراسات الأخيرة توصل الخبراء في الطب النفسي إلى أن فترة الحمل كذلك قد تؤدي إلى الاكتئاب، وليس بعد الولادة فقط.
"يختلف اكتئاب ما بعد الولادة عن الاكتئاب العادي في كون الأم لا تفكر في إيذاء نفسها فقط، لكن كذلك الطفل، الأمر الذي ينبع من اختلاط أفكارها بالشعور بالذنب من كونها أتت به لهذا العالم القاسي، أو لعدم قدرتها على العناية به بشكل سليم"
بتحليل العملين الفنيين السابقين تبعاً لما قالته الطبيبة أشرف، نجد أن "خديجة" في الفيلم الذي حمل اسمها عانت بوضوح من اكتئاب ما بعد الولادة، والذي تضافر مع حالتها المادية والعائلية المضطربة، وتحملها مسؤولية الطفل الصغير بالكامل في غياب زوجها، في جعلها تقتل طفلها بشكل مفاجئ، كما لو أنها تتخلص من العبء الذي يثقل روحها بنزعه مرة واحدة وإلى الأبد.
بينما "حياة" في مسلسل "سجن النساء"، كانت تعاني من أعراض ذهانية قبل الإنجاب من الأساس، والتي تفاقمت بعد ذلك نتيجة للحمل المتكرر والولادة، ووصلت إلى مرحلة سماع أصوات تحثها على حماية أطفالها من الحياة بقتلهم.
قد تكون الأم محل الخبر المتداول الآن عانت بالفعل من اكتئاب ما بعد الولادة أو الذهان، لكن من المؤكد أن ما حدث هو نتيجة للضغوط الشديدة التي تعرضت لها في رعاية ثلاثة أولاد، أحدهم رضيع وآخر مصاب بالتوحد، مع غياب الدعم العائلي، وهو ذات الأمر الذي تعاني منه، تبعاً للإحصائيات الحديثة واحدة من كل سبع أمهات، ويدوم في المتوسط بين ثلاثة شهور إلى ستة، ولكن قد يظل لأكثر من ذلك بحسب شدته.
واللافت أن حوالي 50% من هؤلاء الأمهات لا يتم تشخيصهنّ من قبل طبيب متخصص، أو علاجهنّ بشكل سليم.
اكتئاب ما حول الولادة هو "وحش مرعب"، يرفض المجتمع الشرقي أن ينظر في عيونه، على اعتبار أن بعض المسميات، مثل "غريزة الأمومة" و"الفطرة"، تشكل حماية كافية منه، ربما الحادثة الأخيرة التي انتشرت عبر السوشال ميديا هي بمثابة جرس إنذار قد يلفت الأنظار إلى عظم المأساة التي قد تنتج عنه، أو ينتهي الأمر بالتعامل مع الخبر كمجرد "تريند" يذوب مثلما ذاب قبله عشرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه