في أحاديث جانبية، قضت سيدات من مختلف الأجيال وقتهن على سطح عمارة في أحد شوارع حي بولاق الدكرور (غرب القاهرة)، انتظارًا لبدء عرض مسرحي مدعوم من سفارة النرويج، تنظمه مؤسسة قضايا المرأة.
خريطة حي بولاق التي أقيم العرض المسرحي فوق إحدى بناياتها، تمتد بين نيل الجيزة وقراها المتاخمة التي شهدت هجرات متتالية ومستقرة من محافظات الصعيد، حيث الموروث الممتد الذي يرحب بزواج البنات، والأولاد، مبكراً من أجل "الستر والعفة" ولا يمانع ختان الإناث للأسباب ذاتها. ما يجعل من موضوع المسرحية التي تتناول هاتين القضيتين، ذا أهمية خاصة في واحد من أكبر أحياء الجيزة التي بلغ الزواج المبكر نحو 50% من الزيجات المنعقدة فيها.
الأحاديث دار بعضها، بهمهات خفيضة، حول عنف ذكوري تتعرض له الحاضرات، كما بدا في شكوى شابة من زوج، فكان الردّ عليها "معلش، عيشي"، وبين عجوز مُتضررة من ابنها "التِعِب" الذي لم يُغيره حتى الزواج، وغيرها من حكايات تحولت إلى نقاش جماعي مع أعضاء فرقة "من كُلّ حتة" للفنون، التي قدمت العرض مساء الأحد 3 يوليو/ تموز الجاري، لبث رسالة تابعها وردود الأفعال عليها رصيف22.
بمجرد ظهور المِقَص المستخدم في الختان، في يد الممثلة التي تؤدي دور القابلة (الداية)؛ سُمِع صوت واحدة من الجمهور، تقول في فزع "يا لهوي"، بينما صبّت أخريات اللعنات على هذه الداية المسؤولة عن جريمة الختان في أجيال متعاقبة
هلع المِقَص
بدأ العرض الفني التوعوي في فصلين، كان أولهما عن الختان من خلال قصتين، الأولى في صورة أم تضغط على ابنها وزوجته ليُختنا حفيدتها، والثانية عن أب يضغط على زوجته لإجراء هذا الفعل في ابنتهما.
في تلك الحكاية الثانية، وبمجرد ظهور المِقَص في يد الممثلة التي تؤدي دور القابلة (الداية) أم سعاد، كأحد أدواتها في الختان؛ سُمِع صوت واحدة من الجمهور، تقول في فزع "يا لهوي"، بينما صبّت أخريات اللعنات على هذه الداية المسؤولة عن جريمة الختان في أجيال متعاقبة، كما أظهر العرض الذي تطرّق ضمنيًا لفكرة توريث هذا الجُرم، وبما يعكس عدم التغيّر في القناعات رغم مرور الزمان.
الفزع واللعنات، مفهوم دوافعهما من الحاضرات. فأغلبهن ضحايا للختان، كما كشف تفاعلهن سواء بملامح حزن وغضب ورهبة بدت على أوجه بعضهن خلال العرض، أو بعبارات رافضة للختان في مداخلات بعضهن مع الفرقة في ختامه، وقد أكد بعضهن أن الأمر ما زال يحدث في الخفاء، مثل تأكيدهن أنهن رفضن بصورة قاطعة تكرار هذه المأساة مع بناتهن أو حفيداتهن.
إحدى الضحايا هي مروة- التي طالبت مسؤولة الدعم النفسي بالمؤسسة الاكتفاء بذكر اسمها الأول- زوجة في الأربعين من العمر، حكت لرصيف22، عن حرب خاضتها ضد قناعات زوجها، لمنع تكرار مأساة الختان مع ابنتها.
قالت مروة "أنا اتجوزت وأنا عندي 23 سنة، وأم لولدين وبنت، ودي عندها حاليًا 16 سنة. أبوها من المنيا، ودماغه صعيدية جدًا، ولمّا بلغت 12 سنة كان مُصمم على ختانها؛ فواجهته. اتخانقت معاه وأخدت الأولاد وسيبت البيت ومشيت، وكان شرطي للرجوع هو إن مفيش ختان".
وفقًا للإحصائية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإنه من بين 117 ألف طفل وطفلة متزوجين في مصر دون السن القانونية، هناك ألف طفلة مطلقة
نجحت الزوجة، لكن أمام شروط من الزوج تعكس ما يُمثّله له الختان من أهمية "هو وافق، لكن على مضض طبعًا. وقال لي بس هتبقى مسؤولة منك انتي- يقصد التربية والأخلاق- فقولت له بنتي مسؤوليتي، وحقك تسألني لما تلاقي أي عيب، لأني مربية بنتي على الأدب".
الأدب، هو الأمر الذي يربطه كثيرون بالختان، حسبما عايشت ناهد عمارة، مسؤولة الدعم النفسي في مؤسسة قضايا المرأة وإحدى المُشرفات على العرض، هو "أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الختان حتى اليوم، هو الخرافات المتعلّقة به من أنه سيجعل الفتاة (هادية)، أي لا تطلب العلاقة الجنسية".
الختان خطر مُستمر بالفعل، ولأعوام مُقبلة حسبما توقّعت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، في تقرير صدر في مارس/ آذار 2022، مفاده أن "ما لا يقل عن 200 مليون فتاة وامرأة في العالم على قيد الحياة اليوم خضعن للختان، وستواجه مليونا فتاة أخرى خطره بحلول 2030. والسبب جائحة كورونا وما ترتب عليها من إغلاق عام وتعطّل للخدمات والسُبُل التي تحمي منه"، وهو ما علّقت عليه المنظمة الدولية بالقول إنه "سيمثّل تراجع بنسبة 33% في التقدّم الذي تحقَّق لإنهاء هذه الممارسة المؤذية".
ورغم تغليظ عقوبة الإقدام على ختان الإناث وفق تعديل قانوني في أبريل/ نيسان 2021، إلا أن الممارسة لا تزال مستمرة في مصر، والسر في قناعات المخلصين له ممن حكت عنهم عمارة، من واقع تجارب وشكاوى عايشتها، فتقول "هم يعانون من تضارب واضح في أفكارهم. لأنه- وبفرض صحة حديثهم عن هدوء الفتاة جنسيًا بسببه- فهم مَن يتعاملون من منطلق اتجوز المتختنة الهادية التي تحمل اسمي وتحافظ على البيت وصورته قدام الناس، وابقى أشوف واحدة تانية تلبي طلباتي الجنسية".
هذا الاستحقاق والسلطوية ليس بالخيانة للزوجة المُخَتّنة فقط، فهو حلقة مكتملة عايشت مروة صورًا أخرى فيها؛ ما جعلها الآن حريصة في تربية ابنتها، وكما رفضت الختان، ترفض أي أفضلية يتعامل بها ابنها مع شقيقته، وهي الفتاة التي نشأت مع أخ "لم يكن يوجّه الكلام إلّا بالضرب".
القناعات تغلب أحيانًا
مروة، سيدة ذات تعليم فوق المتوسط، لكنها وغيرها من حاضرات العرض- وبعضهن مُسنّات قرويات وأميَّات- يتجاوبن، لكن هذا التجاوب استثنائي في العروض التي تقدمها المؤسسة للتوعية، حسبما عايشت ناهد "أحيانًا بيكون فيه متعلمات- وغالبًا من فئة التعليم المتوسط- عندهم مقاومة لحملاتنا"، والسبب بحسب قولها "هن مقتنعات بأن الختان هو الحل كي تظل مطمئنة على بنتها، أو صاينة البيت في ظل غياب زوجها أو بعد وفاته".
وهذه الفئة هي "الأصعب" بين مَن تلقاهن الأخصائية النفسية، إذ تقول "لأنهم بيحسوا إننا بننظر عليهم وهما متعلمات، وده بجانب إن بينهم اللي بتساهم في التسرُّب من التعليم، وبتقولها علنًا يعني اللي اتعلموا أخدوا إيه؟!".
التسرُّب من التعليم يرتبط بجُرم آخر ناقشته الفاعلية، ويتمثل في الزواج المبكر، الذي جسّده الممثلون في قصة لطفلة تزوجت بعد ختان؛ ما ترتب عليه سوء معاملة لها من زوج، يُلقي أيضًا باللوم في تحرشه بجاراته عليها، كونها طفلة لا تُلبي طلباته.
والزواج المبكر، حدث بين 117 ألف طفل مصري في الفئة العمرية من 10 إلى 17 عامًا، بحسب مسح أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2018، أفاد بأنهم إما "متزوجون أو سبق لهم الزواج"، وتركّز أغلبهم في محافظات الصعيد.
"ممكن نتفاجئ بأم عندها 13 سنة ومتختنة قبل جوازها غير المُسجّل، وبقت مطلقة وتعول أطفال وهي نفسها ما زالت طفلة، وده موجود في أماكن قريبة جدًا من القاهرة"
هذا الفعل الذي تشهد أروقة مجلس النواب المصري هذه الأيام- وبحماس عشرات من أعضائه- مناقشة سُبل تجريمه، هو ما تعرّضت له قبل عقود السيدة حنان، الجدّة الحاصلة على بكالوريوس تجارة، وكررته مع ابنتها، وتأسف عليه الآن، كما بدا في حديثها لرصيف22.
تحكي حنان ما حدث وتقول: "أنا قاهرية، لكن عانيت من الزواج المبكر. وللأسف جوّزت بنتي بمجرد ما تمت 19 سنة، وكانت لسه طفلة، وده حصل لأنه تم تسريبها من التعليم وكانت فرحانة بالفستان وشايفة خطوبات صديقاتها".
وهذا الأمر ليس العامل الوحيد لزواج ابنة حنان في مثل هذا السن، فالظروف الاقتصادية الصعبة كانت حاضرة "أنا أم لـ4 أولاد (3 بنات وولد)، وكنت عايزة الحِمل يخف"، وتستدرك "لكن الختان، أنا اتعرضت له، لكن ماعملتهوش في أولادي. ودلوقتي بقيت بنقل اللي بسمعه في الندوات اللي بنحضرها هنا للناس اللي أعرفهم".
الدعم حاضر
اهتمام حنان بتوعية محيطها بما تراه في المسرحيات والندوات التوعوية التي تقيمها مؤسسة قضايا المرأة، تفسره ناهد عمارة بمحاولة دفع الأذى عن الآخرين والشعور بالقيام بدور مجتمعي فاعل لدى النساء اللائي تعرضن لظلم أو قهر، ودفع أثر غياب التوعية الجادة، تعلق ناهد: "أغلب اللي بييجوا لينا من الستات بيعانوا من أمراض مُتعلّقة بالعنف بمختلف صوره، مثل كرب ما بعد الصدمة، واضطراب القلق، وأعراض اكتئابية متوسطة إلى واسعة المدى، وأفكار انتحارية".
ولهذه الأمراض أسبابها، التي تقول عنها الأخصائية النفسية "الست بتكون خلاص احتارت ومش عارفة تعمل إيه ولّا هتوصل لإيه. مفيش حاجة بترضي الزوج، وهي بتضِّرب وبس، وأهلها مش عايزين يستقبلوها في البيت أو بتتحرم من ولادها لو أصرّت على الانفصال عن زوج، غالبًا بيكون بجانب عنفه، متعدد العلاقات النسائية أو متعاطي مخدرات".
خلال إحيائه لليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة لعام 2019، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، نتائج مسح التكلفة الاقتصادية للعنف الاجتماعي ضد المرأة في الفئة العمرية (18-64) بمصر 2015، والذي جاء ضمن نتائجه، أن "34% من النساء اللاتي سبق لهن الزواج تعرضن لعنف بدني أو جنسي من الأزواج".
هذه النتائج وغيرها، دفعت مؤسسة قضايا المرأة لوضع الرجال على أجندتها للتوعية ايضاً، تقول ناهد عمارة: "حتى الآن، بنشتغل على توعية السيدات والبنات من سن 16 سنة، فيما يخص عادات مازالت مستمرة كختان أو زواج مبكر أو دُخلة بلدي. أما الرجال، فحاليًا، بنعمل على توعية رجال الدين كإمام مسجد أو مأذون منطقة، لأن بيكون لهم الكلمة الأقوى مع رب الأسرة، أكتر من الكلام القانوني أو النفسي".
المساعي للتواصل المباشر مع الرجل، تأمل المؤسسة أن يسفر عن تقليل عدد الضحايا من النساء: "للأسف، الحالات بتيجي بعد وقوع المشكلة، فممكن نتفاجئ بأم عندها 13 سنة ومتختنة قبل جوازها غير المُسجّل، وبقت مطلقة وتعول أطفال وهي نفسها ما زالت طفلة، وده موجود في أماكن قريبة جدًا من القاهرة".
وفقًا للإحصائية نفسها الصادرة عن الوكالة الرسمية للإحصاء، فإنه من بين 117 ألف طفل وطفلة متزوجين دون السن القانونية، هناك ألف طفلة مطلقة.
لهذا؛ تحاول المؤسسة العمل على توعية الرجل لتفادي الأمر قبل وقوعه، حسبما تختتم عمارة، قائلة بنبرة أمل "علشان كده عملنا العرض النهارده. صحيح أغلب حضوره سيدات، رغم إننا دعونا بعض رجال الدين ورجال من المنطقة. لكن يمكن يتغير الوضع خلال العروض المقبلة اللي هتتم السنة دي، وهنركز فيها أكتر على الراجل وسبل توعيته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...