كان وما زال شرب الخمر في منزلنا غير مرغوبٍ فيه من قبل والديّ، لأسباب دينية واجتماعية، إضافة إلى أنّ والدي شيخ وأمي متدينة جداً. ورغم ذلك، كنتُ بين الحين والآخر أشرب الخمر في المنزل.
أكثر من مرة حاول والدي إقناعي بالتخلي عن شربه، من خلال مناقشتي بعيداً عن منطق التحريم الديني، لأنّه كان يعلم أنني لن أقتنع بهذا المنطق. كان يقول لي: إن الخمر ليس جيداً للصحة، وإنّ الشخص الذي "يَسكرْ" يقوم بسلوكيات غير لائقة اجتماعياً تقلل من قيمته واحترامه، وغير ذلك الكثير.
أمّا أمي، فكانت كلما رأتني تُردد العبارات ذاتها، ولكن مع اختلاف بسيط في ترتيبها: "سَكرَجي!"، "بَدكْ تصيرْ سَكرَجي وتخلي العالم تحكي علينا؟!"، "مين بدها ترضى تتزوجك إذا عرفت إنك سَكرَجي؟"، "يا عيب الشومْ عليك!". وكنتُ في كل مرة أجيبهما الجواب نفسه تقريباً: أنا عم إشرب بالبيت وأكتر الأحيان بالليل، وبعدها عم نام، الموضوع بسيط وإنتو كتير عم تبالغو وتحكو فيه". مع مرور الوقت، لم يَعدْ أبي يُعلق على الأمر، إلا أنّ أمي بقيتْ حتى الآن تردد الكلام نفسه.
بين كأس العرق وكأس العالم
من بين كل أنواع الخمور في العالم، "العَرقْ" هو المفضل لديّ. أشربه مرة أو مرتين في الأسبوع بشكل فردي أو مع الأصدقاء منذ أكثر من عشرين عاماً، ومن النادر جداً أنْ أشرب لدرجة أفقد فيها الوعي، وأصبح غير مُدرك لسلوكياتي ولِما يحدثْ حولي، لأنّ هذه الدرجة من السُّكْر لا أحبها ولا تمتعني.
ومن النادر جداً أنْ أشرب حين تصادفني مشكلة من العيار الثقيل، كمحاولة للهروب أو للنسيان، لأنني أفضل مواجهة مشاكلي ومحاولة إيجاد حلول لها بدل الهروب منها ونسيانها. فَشُرب "العَرقْ" بالنسبة إليّ هو طقس للمتعة والراحة والبهجة، وليس لمعالجة أزماتي ومشاكلي والهروب من الواقع.
في أحد الأيام الصيفية أمام منزلي الريفي وقبل الغروب بقليل، جهزتُ كأساً من العَرق البلدي مع سمك مشوي وصحن من الموالح، وشرائح من الليمون، وخسة.
مع الكأس الثانية، كان قرص الشمس نصفه قد غاب وراء الأفق، ووردة الجزائرية تغني "أحبكَ لوحدكْ من الدنيا ديا، كأنك هواها ونورها وزهورها، ما هوْ إنتَ هوايا، وأول مُنايا وآخر مُنايا، يالي معندكش فكرة". كنت سعيداً ومرتاحاً، ولا يشغلني شيء في الوجود سوى سؤال واحد هو: ما الفرق بين كأس العَرق وكأس العالم؟
بعد تفكير ممتع، اكتشفتُ أنّ كليهما يمنحان شعوراً بالسعادة والبهجة والراحة لمَن يَحصل عليهما، ولا يوجد فرق بينهما سوى أنْ كأس العَرقْ يحتاج إلى مكعبات ثلج كي يُصبح طعمهُ ألذ وألذ.
إجابتي العميقة على هذا السؤال الوجودي العظيم جعلتني أفرح وأضحك وأرشف كأس العرق دفعة واحدة. في تلك اللحظات كنتُ ممتلئاً بالسعادة وراحة البال والمتعة.
فجأةً ظهر شخص أمامي وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرددتُ: يسعد مساك. ثم سألني إنْ كان والدي داخل المنزل، أجبتهُ: نعم، ولكنه في مثل هذا الوقت يكون مشغولاً بالصلاة وقراءة القرآن، لذا يمكنك الجلوس معي قليلاً ومشاركتي الطعام ريثما ينتهي، فجلس ولكنه رفض أنْ يَأكل. قلت له: إذاً سأسكب لك كأساً من العَرقْ، فردّ: أعوذ بالله أنا لا أشرب. ابتسمت قائلاً: حفاظاً على صحتك، أمْ لأسباب دينية؟ فأجاب بنبرة حادة: الاثنان معاً، وخاصة الدينية فالخمر حرام! كان هذا الشخص من مريدي والدي، يزوره بين الحين والآخر، وكان مُتديناً للغاية.
نقاش في حرمة العرق
بالرغم من أنني مللتُ الدخول في نقاشات مع المتدينين منذ زمن بعيد لأسباب كثيرة منها: تعصبهم الأعمى لآرائهم وعدم قبولهم للرأي الآخر حتى لو كان قائماً على المنطق العقلي والعلمي وأحياناً الديني، إلا أنني حينها أحسست برغبة في دخول نقاش مع هذا المتدين، لأنه أفسد عليّ متعتي في الشرب والاستماع إلى وردة الجزائرية، ما جعلني أقول له: صحياً العَرقْ مُضرٌ مثل كثير من الأطعمة والمشروبات التي تَضرُّ في حال أفرطنا بتناولها، وشرب العَرقْ مرة أو مرتين في الأسبوع لن يشكل ضرراً يُذكر على جسد شخص لا يعاني من أمراض مزمنة ومشاكل صحية، أما دينياً وبحسب معلوماتي ومعرفتي فهو ليس مُحَرّماً.
"كل ما هو مُحَرّم ذكره الله في القرآن بشكل واضح وصريح، ولو كان الخمر مُحَرّماً لذَكَره الله في إحدى آياته بكلام واضح وصريح"
ردّ عليّ: الله حَرّمه والرسول ومَن جاؤوا بعده من الصحابة ورجال الدين، وأنتَ تقول إنه ليس حراماً! عجيبٌ وغريبٌ كلامك! ابتسمت قائلاً: مع أنّ المنطق الديني لا يُقنعني، إلا أنني مستعد للتوقف عن شرب العَرقْ مدى الحياة، في حال أثبتَّ لي أنّه مُحَرّم دينياً، بشرط أنْ يكون النص القرآني هو مصدر التحريم، لا أحاديث الرسول والصحابة ومَن جاء بعدهم، لأن هناك أحاديث منسوبة للرسول مشكوك في صحتها، كما أن هناك مَن جاء بعد الرسول وقام بالاجتهاد والتفسير والتأويل على هواه بخصوص الخمر وغيره.
حينها، قرأ لي ما جاء في الآية 90 من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وأيضاً الآية 43 من سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، وغير ذلك من آيات مشابهة.
بعد أنْ انتهى من قراءة تلك الآيات قال: إضافةً إلى كل هذه الآيات، هناك أحاديث للرسول الأعظم تُحرّم الخمر، وأيضاً أحاديث للصحابة ورجال الدين، ولكنني لن أذكرها لك طالما أنك تُشكّك بصحتها.
قلت له: بحسب ما هو متعارف عليه دينياً، النص القرآني هو الأكثر مصداقية في حسم أي مسألة، وكل كلام يُعاكس ما جاء في القرآن لا يؤخذ به، حتى لو كان قائله الرسول، فهل أنت تتفق مع هذا الكلام أم ترفضه؟ فردّ: نعم القرآن هو الأساس.
لحظتها لفتُّ انتباهه إلى أنّ الله لم يُحَرّم الخمر بشكل واضح وصريح في كل الآيات التي ذكرها لي.
ثم قلت: كل ما هو مُحَرّم ذكره الله في القرآن بشكل واضح وصريح، بدليل ما جاء في سورة البقرة الآية 173 {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وتكرر التحريم مع تغيير طفيف في سورة النحل في الآية 115 {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۖ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍۢ وَلَا عَادٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وأيضاً في بداية الآية 3 من سورة المائدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
بناءً على هذه الآيات، وما شابهها يمكنني القول: إنّ الخمر لو كان مُحَرّماً، كما تَدّعي، لذَكَره الله في إحدى آياته بكلام واضح وصريح.
"قلت له: سأسكب لك كأساً من العَرقْ، فردّ: أعوذ بالله أنا لا أشرب. ابتسمت قائلاً: حفاظاً على صحتك، أمْ لأسباب دينية؟ فأجاب بنبرة حادة: الاثنان معاً، فالخمر حرام! كان هذا الشخص من مريدي والدي الشيخ، يزوره بين الحين والآخر"
أما بالنسبة إلى جملة "حتى تعلموا ما تقولون" الواردة في سورة النساء فالمقصود بها حسب رأي البعض أنّه يجب على الإنسان أن يكون صاحياً ويعلم ما يقول حين يصلي، لأنه لا يجوز أنْ يُخطئ في الصلاة وقراءة القرآن، وليس المقصود بتلك الجملة تحريم الخمر.
وأما كلمة "فاجتنبوه" الواردة في سورة المائدة فلا يُقصد بها اجتناب الخمر والميسر والأزلام والأنصاب، وإلا لقال الله " فاجتنبوها"، وإنما يُقصد بها هو الرِجس، أي كل فعل نجس وقذر وما شابه قد يَصدر عن الخمر والميسر وغيرهم، وبناء عليه يمكنني القول: إنّ كل شخص يشرب الخمر ولا يصدر عنه أي رِجس لا يمكن اعتبار ما قام به حراماً أو غير مرغوب فيه، لأنه تجنب الرجس بحسب الآية، ولأخذ العلم هناك الكثير ممن يشربون الخمر يصبحون لطفاء وهادئين بعد شربه، ولا يَصدر عنهم إلا كل ما هو جميل.
والاجتناب المذكور في الآية أعلاه ليس المقصود به أقصى درجات التحريم كما يفسره البعض، بل هو تحاشي الشيء والابتعاد عنه، كونه غير مرغوب فيه وغير محبب.
أشعلت سيجارة وتابعت كلامي: جاء في الآية 67 من سورة النحل {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وأيضاً في الآية 15 من سورة محمد {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى}.
بعدها رشفتُ من كأس العَرقْ وبهدوء قلت له: هل ترى في هاتين الآيتين تحريماً للخمر وذماً له أم مديحاً؟
لحظتها وقفْ وقال: يا ريت تشفلي إذا السيد الوالد خَلّص صلاتو!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.