يبدو أنّ أبا الطيب المتنبي قد نجح في بلورة سؤال لم يكفّ منذ أن طرحه عن شفاء غليل العرب قاطبةً كلّما حلّ عيد من الأعياد الدينية: "عيد بأية حال عدت يا عيد/ بِما مضى أم بأمر فيك تجديد".
لو كان أبو الطيب عارفاً بعلامات الاستفهام الأعجمية حينذاك، لوضع في آخر بيته هذا عدّة علامات منها، للإلحاح دليلاً على ثقل السّؤال.
قصيدة عيد بأية حال عدت يا عيد في مسلسل المتنبّي بإلقاء من الفنّان سلوم حدّاد
بيت من معجزات المتنبي
نلمس اليوم النّبوّة في "بأية حال عدت يا عيد". لكأنّ هذا البيت لسان حال العرب الأزلي، تلجأ إليه شريحة واسعة كلّ عيد لتعبّر عن حزنها وامتعاضها من واقع الحال، ويلجأ إليه الرّؤساء والمثقّفون والبسطاء على حدّ سواء.
"عيد بأية حال عدت يا عيد"... سؤال لم يكفّ منذ أن طرحه المتنبي عن شفاء غليل العرب قاطبةً كلّما حلّ عيد من الأعياد الدينية. ولو كان أبو الطيب عارفاً بعلامات الاستفهام الأعجمية حينذاك، لوضع في آخر بيته هذا عدّة علامات منها، للإلحاح دليلاً على ثقل السّؤال
ولجأ إليه الرئيس التونسي مؤخّراً محاولاً الانقلاب على البيْتِ وهزّ معانيه، فقال: "لن يأتي العيد بما مضى، بل سيأتي بأمر فيه جدّ وتجديد". لعب الرّئيس ذو المعارف التّقليدية على هذا البيت في محاولة لخلخلة السّؤال، ولعلّه يسكن صدر كلّ المستمعين إليه دون استثناء.
هذا البيت الشّعري وأبيات أخرى للمتنبّي تغزو مواقع التّواصل الاجتماعي. لنا أن نجد اسم صفحات فيسبوكية برمّتها تحمل صدراً أو عجزاً من قصائد المتنبّي الخالدة. مثل "صفحة عيد بأية حال عدت يا عيد" و "تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن".
كما يزوّق مفتتح هذه القصيدة في صور عديدة يتمّ تراسلها تراسلاً قد يتجاوز تهاني العيد.
أكلّما اغتال عبد السّوء سيده /أو خانه فله في مصر تمهيد؟
ليقول بعيداً في عنصرية واضحة، صابّاً جامّ غضبه على سواد كافور الإخشيدي:
العبد ليس لحرّ صالح بأخ/ لو أنّه في ثياب الحرّ مولود
لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه/ إنّ العبيد لأنجاس مناكيد
وخصوصاً قوله: وأنّ ذا الأسود المثقوب مِشفره/ تطيعه ذي العضاريط الرعاديد
إعجاز المتنبّي
على هذه القصيدة "عيد بأية حال عدت يا عيد" بنيت قصائد أخرى لشعراء عرب شهيرين، ومنها أمل دنقل الذي عمد في إحدى قصائده إلى بعض اللّمسات البسيطة إن صحّت العبارة:
عيد بأية حال عدت يا عيد/ بما مضى؟ أم لأرضي فيك تهويد؟
نامت نواطير مصر عن عساكرها/ وحاربتْ بدلا منك الأناشيد
ثمّة معارضات كثيرة وتصرّفات طال بيت المتنبّي الشّهير، فيقول البعض "عيد بأي حزن عدت يا عيد"، "عيد بأي دم عدت يا عيد" في بلدان الحروب المتواصلة، "عيد بأي فقر عدت يا عيد؟" في بلدان الأزمات الاقتصادية... وصل الأمر بآخرين إلى الاستهانة بما عاش المتنبّي من ظروف جعلته لا يتطعّم العيد قياساً مع ما نعيشه الآن مع كوفيد 19، إذ يقول الشّاعر إبراهيم الجهني:
عجيب المتنبّي... ساءه العيد!/ ولم يكن حاصر الأمصار كوفيد
....
ولم يذق حرمة التّسليم بعد... وما/ في الرّحْل صلّى وشلّ الخطو تقييد
وما ترقّب تقريراً يزيد به/ في كلّ يوم من التّعداد تصعيد!
ونعرض فيما يلي: رابط لمعارضة شعرية مطلعها: عيد بأي حزن عدت يا عيد لضياء الجبالي ــ سبتمبر 2012، زرابط لمعارضة أخرى على نفس البحر البسيط ونفس القافية: "يا عيد ماذا تمنّي النّفس يا عيد؟" لكريم مرزة الأسدي.
مطلع الهجائية هنا وهناك
تسرّب مطلع قصيدة المتنبي هذه إلى كلّ الفنون والسياقات من ذلك الغناء، تلاعب بها حسين الجسمي في أغنية معروفة، تتميز بالتّفاؤل على خلاف القصيدة: "عيد على خير حال عدت يا عيد... فنحن في مسمع الدّنيا أناشيد":
كما طالت خشبة المسرح في عمل مسرحي لغسّان صليبا يحمل عنوان "المتنبّي"، حيث تمّ تلحين الأبيات نفسها وتوضيبها توضيباً ركحياً رائعاً:
قيامة شيعية للمتنبي
يعدّ المطلع نفسه "عيد بأية حال عدت يا عيد" منتشراً في الأناشيد الدّينية الشّيعية، تختلف باختلاف المناسبة. ولعلّ النّفس الحزين الّذي يميز أبيات المتنبّي قد وجد له تناغماً مع سمة تلك الأناشيد الّتي تتصف بالشّجن. فتردّد في ذكرى استشهاد علي بن أبي طالب، أو الحسن، أو الحسين، مثل "عيد بأية حال" للملاّ علي بوحمد، في المثال التّالي: "يا عيد جيتْ ابيا حال؟ أو ياهو اللي بيك انعيْده؟ او راح الأب عنّه وشال والرّاح ياهو ايردّه...".
كاريكاتير عيد بأية حال عدت
كاريكاتير للنّاجي بناجي "بأي حال عدت يا عيد" العربي عدد بتاريخ 14 يونيو 2017
عديدة هي الرّسوم الكاريكاتيرية التي اشتغلت على هذا البيت نفسه أو اتّخذته عنواناً. ثمّة سمة تجمع بين هذه الرّسوم وتتعلّق بين مفارقة العيد وما يتطلّبه من فرحة واحتفال، والحال المادي والمعنوي للعربي القادم على هذا العيد، عاجز عجزاً تامّاً على الاضطلاع أو عيش هذا الفرح. المثال واضح في كاريكاتير للرسام المصري محمد أنور، المنشور في "المصري اليوم"، بتاريخ 31 أغسطس 2017. هل يكفي جنيه واحد كي يعود بحال لم يعد بها من قبل؟
للشّأن السّوري سؤاله السنوي أيضاً عن حال العيد. فالمتنبي الذي غادر سوريا مثل العديد من أبنائها اليوم بعد أن خاب ظنّه، يعود بسؤاله وكأنّ سيف الدولة لم يتزحزح من مكانه منذ قرون.
بأية حال عدت يا عيد للرسّام عماد حجاج العربي الجديد 24 سبتمبر 2015
حلاّن المر التّونسي
للتّونسيين كاريكاتيرهم. عيدية صعبة في ظلّ تزايد الأسعار والأزمة الاقتصادية والسياسية التي تبرك بظلالها على شريحة واسعة من الشّعب. التّونسي الذي عادة ما يتهيأ للعيد بما يسمّيه "حلاّن الحلو"، بأن تجتمع النّسوة ويعجنّ عجينة "المقروض" والغريبة بالقلقال، التي هي عبارة عن عصا غليظة منحوتة بشكل يسهل على اليديْن مسكها، وتبليط العجينة حتّى تستوي ليسهل قطعها ونقعها في سكّريات مبالغ فيها. إنّ القلقالة تلك تمسك اليوم بيدين هما "الفساد" و"شجع التّجار" لتبليط المواطن الهزيل والمتهالك، والذي لن يجد سؤالاً أكثر عمقاً من سؤال المتنبي: "عيد بأية حال عدت يا عيد؟".
كاريكاتير منشور بمدوّنة التّونسيين الأحرار بتاريخ 17 ديسمبر 2018
كاريكاتير بريشة المتنبّي
لكأنّ المتنبّي نبي وهو يسخر في هذا الوقت بالذّات من حكّامنا العربِ، ولكأنّه سياسي لم ينتخبه أحد، على الرّغم من أنّه يمثّل الشّعب أحسن تمثيلاً
بعيداً عمّا تتضمّنه قصيدة أبي الطّيب من إشارات قد تحسب بسهولة على العنصرية، إلاّ أنّ ثمّة صورة كاريكاتورية لكافور الإخشيدي قد تصلح اليوم لعديد الحكّام العرب. فالمتنبّي مثل الشّعوب العربية تماماً "أمواله المواعيد" تحكمهم "ثعالب" دهاة يسرقون حياته، في زمن فيه "الإساءة محمودة"...
لكأنّ المتنبّي نبي وهو يسخر في هذا الوقت بالذّات من حكّامنا العربِ، ولكأنّه سياسي لم ينتخبه أحد، على الرّغم من أنّه يمثّل الشّعب أحسن تمثيلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت