مشاعر كئيبة، عرفتها وانتظرتها، تجتاح الكاتبة آية طنطاوي وهي تقترب من نهاية الرواية، مشاعر مرتبطة بالحزن والتوتر.
"اختبرت الأمر في الأيام الأولى للعزلة الإجبارية أثناء جائحة كورونا، حين بدأت بـ"ملحمة الحرافيش" لنجيب محفوظ، وهي رواية أرجأتها لأيام الإجازة الطويلة"، تقول آية.
حزن ووحدة تقول لها إن خللاً كبيراً أصاب يومك.
كانت تجلس بجوار النافذة في منتصف الليل، تتنقّل بين حكايات الرواية كل يوم، وحين اقتربت من النهاية، بدأ الشعور بالتسلل. حزن ووحدة تقول لها إن خللاً كبيراً أصاب يومك.
كان هوارد تيمبرليك، قد انتهى لتوه من قراءة كتاب عن السيرة الذاتية لبيلي كونولي، الممثل الكوميدي الإسكتلندي، المحبوب جماهيرياً.
أمضى هوارد ساعات في الاستمتاع بقصة حياة بيلي، كيف صنع كوميدياه وموسيقاه وحبه للبسكويت.
إحساس بالفراغ والحزن اجتاح هوارد، بعد الانتهاء من الكتاب، بات حائراً، ماذا سوف يفعل دون موسيقى بيلي كونولي وحكاياته؟
المشاعر ذاتها مسّته حين قرأ لـديف غروهل، وبيتر فرامبتون، وروجر دالتري.
اشتكى قارئ على موقع "ريديت" من عجزه عن التفكير بعيداً عن أحداث رواية "The Lions Of Al-Rassan"، بمجرد أن انتهى من قراءتها، وفي كل مرة ينتهي فيها من قراءة كتاب أو رواية ينتابه "العجز" ذاته، حتى يصل به الأمر أحياناً إلى ما يشبه الانهيار العاطفي.
يشعر المصابون بتلك الحالة من صعوبة في البدء بعمل ثانٍ، وحتى قد يجعلهم يحكمون على عمل رائع بأنه سيئ، لمجرد أنه لا يشبه العمل الذي تعلقوا به، وهو عمل ربما كانوا استمتعوا به في ظروف أخرى.
متلازمة إنهاء الكتاب
متلازمة إنهاء الكتاب post-book blues، مصطلح يشبه إلى حد كبير "الهانج أوفر" أو تسطيل الخمر كما توصف بالعربية، التي تصيب متعاطي الكحول، حينما تقرأ كتابا أو رواية وتتفاعل مع شخصياتها، فإنك تعاني من "هانج أوفر الكتب"، حيث تبقى لأسبوع أو اثنين مصابا بضيق عاطفي، وهي متلازمة لا تصيب القراء فحسب، أبلغ بعض الكتاب أيضاً عن شعورهم بالفراغ والاكتئاب بعد الانتهاء من كتابة كتاب. في كل مرة ينتهي فيها الكاتب ترومان كابوتي من كتاب، يعاني بشكل كبير، ويصف شعوره في هذا الموقف: "يشبه تماماً، أن تأخذ طفلاً، وتطلق النار عليه في الفناء الخلفي".
تقول الكاتبة بياتريكس بوتر، حينما تنغمس في عالم لأحد الأشخاص ليوم أو أسبوع أو شهر، وتعيش داخل قصته، تصاب بمشاعر الحزن والفقد وربما الاكتئاب، بعد الانتهاء، وكلما طالت المدة كانت النهاية أصعب.
تقول بياتريكس: إنه "شعور يصيب الكتّاب أيضاً، وقد يدفعهم حتى لعدم إنهاء ما يكتبونه، إذ تتعلق بشخصياته وأحداثه، وتتمنى لو أن استمر معك إلى الأبد".
تقريباً، الشعور ذاته مسّ الروائي مينا عادل جيد، يقول لنا إنه عندما يبدأ في مرحلة إعادة الكتابة والتحرير، تبدأ الأفكار تراوده عن قرب انتهاء علاقته بالأصدقاء، الذين كونهم في عالم روايته طوال أشهر.
يرتبط بتلك المرحلة، وينتابه شعور بالقلق والخوف من انتهائها. "تمنيت لو أبقى في تلك المرحلة إلى الأبد"، يقول عادل.
يفسر عالم النفس المعرفي كيث أوتلي، من جامعة تورنتو، هذا الارتباط، قائلاً: "نحن في الأساس كائنات اجتماعية، تتوق إلى الاتصال بالآخرين والتعلق بهم، ولأننا نعيش حالياً في عصر الثقافة الفردية، فإن الناس يختارون الكتب والقصص التي تحدث أثراً فيهم، ما يولد لديهم الحنين إلى التواصل العاطفي مع شخصيات الرواية".
البعض يتعمّد عدم إنهاء كتاب قرأه؛ فهو لا يرغب في معرفة نهاية شخصيته المفضلة، إنهم يعتقدون أن النهاية تستحق أن تستمر للأبد.
بينما يصف هوارد تيمبرلك متلازمة إنهاء الكتاب، بأنها عقد فريد غير مكتوب بين القارئ والمكتوب، يُوقع عليه بواسطة عقلك الباطن، ويبدأ السريان حين تبدأ الصفحة الأولى، وهي متلازمة لا تقتصر على الأدب فحسب، بل تمتد إلى السينما والفن.
ولاء القارئ للكتاب السابق
يشعر بالامتنان للتغيير الذي طرأ عليه بعد قراءة الكتاب. يصف عالم النفس أوتلي الكتاب أو العمل بأنه جهد مشترك بين المؤلف والقارئ، فـ"الكاتب يقدم ما يعادل الثلث، وحين ينخرط القارئ في العمل يقدم بالثلثين، بتبنيه لتلك الاقتراحات وتخيلها لنفسه".
"الكُتاب يقدمون الاقتراحات، ثم يتبناها القراء لأنفسهم، بعد أن يتعرفوا على بعض جوانب القصة في داخلهم"، يقول أوتلي.
عقلنا يحتاج فقط إلى نفحة من الوصف ثم يلتقط العصا ويركض بها، حينها نكون قد طورنا منطقتنا الخيالية الخاصة بنا، والتي اخترعناها بأنفسنا، ومن خلالها نرى العمل الذي نقرؤه، وهي تتخطى فكرة المغامرات العقلية إلى فكرة التمكين، وهي في الأساس دعوة من الكاتب إلى القارئ أن يقبلها ويجعلها تجربته الخاصة، التي تمكنه من التغيير.
كتب أوتلي: "في دراسة نشرناها على صحيفة نيويورك تايمز، وجدنا أن قراءة القصة القصيرة الأكثر شهرة لتشيخوف (السيدة صاحبة الكلب) مكنت الناس من التغيير، والغريب أن شخصية كل فرد تغيرت في اتجاه مختلف، وليس باتجاه واحد كما كنا نعتقد في البداية".
متلازمة إنهاء الكتاب post-book blues، مصطلح يشبه إلى حد كبير "الهانج أوفر" التي تصيب متعاطي الكحول، حينما تقرأ كتابا أو رواية وتتفاعل مع شخصياتها، فإنك تعاني من "هانج أوفر الكتب"، وهي متلازمة تصيب كتاباً أيضاً، يقول أحدهم واصفاً شعوره: "يشبه تماماً، أن تأخذ طفلاً، وتطلق النار عليه في الفناء الخلفي"
"كل فرد يتغير بطريقته الخاصة"، بحسب بيجال شاه، مؤلفة وأخصائية علاج بالكتب، فإحدى أبرز نقاط القوة في الأدب، هي قدرته على مساعدة وتمكين أولئك الذين يعانون من مشاكل في الصحة العقلية، ومساعدتهم في التعامل مع جوانب معينة من شعورهم.
"مفتاح العلاج بالكتب والفن، هو القدرة على استكشاف مشاعرك من مسافة آمنة، والأدب وسيلة تتيح لك القيام بذلك، من خلال قصة شخص آخر".
"قوة العلاج بالفن أو الأدب، تكمن في أنه تقريباً أشبه بالمرآة"، وهو أمر أشبه بحالة التأمل. عندما تقرأ أو تستمع إلى كتاب فإنك تضع مخاوفك اليومية جانباً، وتتقمص دور بطل الرواية، وتختبر مشاعره عبر عواطفك.
"لطالما وُجدت القصص الواقعية والخيالية، لمساعدتنا على إنقاذ أنفسنا من السقوط خلال الفترات العصيبة، وبغض النظر عمن كتب الكتاب، نقوم باستيعابه ثم تتولى أدمغتنا البقية"، تقول بيجال شاه.
الحزن الذي ينتابك بعد الانتهاء من قراءة الكتاب أو الرواية، هو شعور بالخسارة، بحسب بيجال، وهو شيء إنساني بالفطرة، يحدث حين تتوحد مع سيرة ذاتية لشخص أو أي عمل أدبي، وفجأة ينقطع الاتصال بينك وبين هذا العمل، الأمر أشبه بأن تقول وداعاً لأصدقاء كونت صداقات معهم، يحدث ذلك لأن الكتب تحتل مساحة أكبر مما نعتقد في داخلنا، لأنها تقيم معنا روابط غير مباشرة.
كيف نستثمر هذا الشعور؟
كما يعبر الكتاب، كل شخص بطريقة منفردة، فإن التأقلم مع مشاعر الانتهاء من الكتاب تختلف من شخص لآخر.
يقترح البعض، أن بإمكان الشخص العودة إلى ما قرأه وإعادة التعرف على الشخصية التي آثرها، لكن القراء لا يتطلعون إلى استعادة ما يعرفونه بالفعل، هم يريدون معرفة ماذا يحدث تالياً لشخصيتهم.
بالنسبة للروائي مينا عادل جيد، فإنه يجد العزاء في أنه سوف يبدأ قصة جديدة أو رواية جديدة يتعلق بأبطالها، وعليه فقط أن يتخطى مرحلة الألم، وبعدها سوف تولد قصة معها أصدقاء جدد ممتعون.
تقول الكاتبة الأمريكية فلور موريسون، في مقال على "هاف بوست"، يمكن لأي واحد منا أيضاً تشجيع الأصدقاء أو العائلة أو أعضاء نادي الكتاب على قراءة الكتاب ذاته، ومن ثم الحديث عن الشخصيات كما لو كانت أصدقاء مشتركين، وحكايات الرواية كما لو كانت قد حدثت بالفعل.
كانت آية تجلس في منتصف الليل بجوار النافذة، تتنقل بين حكايات رواية "أولاد حارتنا" كل ليلة، وحين اقتربت من نهاية الكتاب، اجتاحتها مشاعر من الحزن والوحدة، تقول لها: خلل كبير أصاب يومك... فهل يحدث هذا معكم/نّ؟
ربما أفضل طريقة للتغلب على "كآبة" ما بعد الكتاب، هي أن تكون ممتناً لما تعلمته، و"الاستمرارية"، كما تقول بيجال شاه، وهو ما تفعله الكاتبة الروائية يي شون لاي، التي تقول إنها تتغلب على هذا الإحساس بالمحافظة على الاستمرارية، بالبحث عن أعمال أخرى أصغر لنشرها، واتخاذ خطوات صغيرة نحو عمل آخر كبير.
أما الشاعر والمعلم مايكلسون ناب، فكان يتغذى على نجاحات الآخرين، حينما ينجح كاتب، يعتبره نجاحاً شخصياً.
آخرون مثل، كاسيدي باريديس، محررة أمريكية، تنصح بقراءة المزيد من الكتب للمؤلف ذاته، حينها تشعر بعلاقة مماثلة عند بدء كتاب جديد، وإذا لم يكن هناك كتاب يثير انتباهها، فإنها تحاول مشاهدة فيلم مقتبس عن الكتاب أو الرواية، وأحياناً تتغلب على تلك المشكلة بالكتابة، إذ تأخذ موضوعاً من موضوعات القصة، وتحاول إعادة ابتكارها بطريقتها.
تتعدد الحيل، واكتئاب ما بعد نهاية الرواية أو الكتاب واحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...