ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري
الخيوطُ المربوطةُ بالكتفَيْن
كانت أمَي تأمرُني
في صِغري
أن أرفعَ كتفيّ
كانتْ تريدُ
أن أرفعَ بالخيوطِ المربوطةِ بالكتفيْن
قلبيَ المعلقَ.
في مراهقتي
تهدّل كتفي
فتهدّل قلبي
عندما لبستُ أوّلَ حمالةِ صدر
ظننتُ أنها سترفعُ قلبي
لكنها لم ترفعْ
سوى نهديّ
ذات يوم كرهت حياتي
ففككت الخيطين
وخرجت لأتوه
بعيداً عن القرية
فنسيتُ قلبي ورائي
وحين مرّتْ بي
جنازةُ الفتى
الذي قتلَه الجنودُ
فتَّشتُ عن قلبي
فلم أجدْه
فقلتُ بحسرةٍ:
لو كان قلبي معي
لودّعتُ الفتى بِهِ
ولما لم أجدْه
ودّعتُه
بكتفيّ.
في دراستي الجامعيةِ
نسيتُ أن لي كتفيْنِ
فنسيتُ أن لي قلباً.
في أوّل الثلاثين
انشغلتُ بخيوطِ
قلوبِ الآخرين
أرفعُها فترتخي
أرفعها فتهبِطُ
أرفعُها فتتهدَّلُ
حتى تعبتْ يداي.
لقد هاجرَ أخي إلى الآخرةِ/وترَكَ لي ذكرى/في الحقيقةِ ترك لي/هذه الكلماتِ... أحلام بشارات في مجاز الخط الثالث
في الثالثةِ والثلاثين
ظننت أن قلبيَ هذا
_ووضعتُ يدَ حبيبي
فوقه_
وجَدَ قلباً
ليحملَه
لكنّي
أخطأتُ.
في الخامسةِ والثلاثين
منحتُ الخيطين لبائعِ قماشٍ
في شارعِ الغور
الذي يقَع حانوتُه
بجانبِ دكانِ بائعِ اللَّبَن
ليخيطَ لي بهما ثوباً
يومها ظننتُ
أن الثوبَ فوق جسدِ امرأةٍ
يحمي قلبَها.
في الثامنةِ والثلاثين
جلستُ على رصيفِ المدينة
بلا كتفينِ
بلا قلبٍ
ومرّ عني الجميعُ
كانت قلوبُهم مرفوعةً
فوق صدورِهم
وتهتزّ
فكرهتُهم.
في الأربعينَ
تعاملتُ مع قلبي
كعضوٍ مضافٍ
فصحوتُ ذاتَ يومٍ
كمَن يصحو على كابوسٍ
فتساءلتُ:
منذ متى
وأنا أحملُ
هذا الشيءَ
الحجرَ؟
في الثالثة والأربعينَ
كتفاي عاليتانِ
وقلبي مستريحٌ
لا يريد أن يكونَ
حاملاً
أو محمولاً.
في الخامسة والأربعبن
هأنذا أجلسُ هذا المساء
قلبي بجانبي
مغمضٌّ عينيه
وكتفاي
على الطاولةِ
تستريحان
وأنا أُمعِن النظر
في رحلتي
فلا يؤلمني
سوى الألمُ.
أخي الذي هاجرَ إلى الآخرة
اعتقدتُ طويلاً
أن أخي
رحل من الغور إلى مدينة بيرزيت
ليأتي بالكلمات
أبي أرسله إلى هناك
في مهمة سرية
من أخي عرفتُ كلمة
"كمان"
وتعني: أيضاً
وكنا نقول في قريتِنا تعبيراً عن المعنى نفسِه
فنضحك: لخرا
فكان يذهَبُ المعنى
مع الكلمةِ الجديدة
ليقضي حاجتَه
في الخلاءِ
حتى سخرتْ إحداهنَّ منّي
وقالت: أخرى، أخرى
كأنها تعلّم بنتاً النطقَ
جاء أخي بكلمة
"هلكيت"
إنها تعني هذا الوقتَ
وكنا نستخدِمُ في القريةِ كلمةَ
"هسه"
وتعني:
هذه الساعة.
في مراهقتي
تهدّلَ كتفي
فتهدّل قلبي
عندما لبستُ أوّلَ حمالةِ صدرٍ
ظننتُ أنها سترفع قلبي
لكنّها لم ترفعْ
سوى نهديّ
بعد وقتٍ كفّّ أخي عن إحضارِ الكلمات
إلى البيتِ
لكنني لم أتوقفْ
عن الظنِّ
بأن بيرزيت
هي بئرٌ
مملوءٌ بالزيت
في الأصلِ كانت الحكايةُ
أن الكلماتِ الجديدةَ
تأتي من بئرِ الزيت
فظللتُ أحبّ "هلكيت"
و"كمان"
واحتفظتُ
بهما حتى بعد موتِ أخي
في لغتي
مع صورتي
وأنا أقبّل يدَه
لطالما ظننتُ أنه شخصٌ عزيزٌ
عليَّ
فكنتُ بانتظارِه
وراءَ الباب.
لقد هاجرَ أخي إلى الآخرة
وترَكَ لي ذكرى
في الحقيقةِ ترك لي
هذه الكلمات.
ظهر أمّي القصب
قلتُ لأمي العجوز
دعيني أدعك لك ظهرَك القصب
لكنها رفضتْ
قالت إنها تخاف أن تعتاد على ذلك
وأنا بعيدة
أزورُها مرةً
أو مرّتين
في الشّهر
أو عندما أجد حافلةً متجهةً
نحو الشّمال
قلتُ لها لن أتقاضى منك نقوداً
أيتها العجوز
ثم إنكِ دفعتِ لي مقدماً
عندما دعكتِ ظهري
وأنا مقرفصةٌ في الطّشتِ
بثمرةِ اللّيف
لسنواتٍ
حتى استقامَ
ثم هدلَه الغرباءُ
عندما تعلّمتُ
أن أخجلَ أمامهم
ونسيتُ
ونسيتُ يا أمّي
من أوّل واحدٍ قال لي:
انحني!
كلُّ ما أفعلُه يا أمي منذ حادثةِ الطّشت
هو أن أرفعَ ظهري
أن أدعمَ تقوّسَ العظمِ فيه
بأخشابِ الشِّعر
مرةً بعد مرة
سطراً وراء سطر
وهأنذا أرتفع
فوق العريشةِ
لأطولَ النجوم
كما كنتُ أفعل
قبل أربعين عاماً
بينما أسمع صوتَكِ الآن
تبذلين الجهدَ
في سكبِ الماء
من وراءِ الباب
فأكتب عنّي وعنكِ.
كلّما خرجتُ من هناك
سألتُ نفسي
دون أن يجيبَني مجيبٌ
أو يشاركني متألمٌ
غرابةَ السؤال:
ياه!
كم لبثتِ يا امرأةٌ في الداخل؟
حُبّ
أنقّي عن صدركَ الأحزان
يا حبيبي
كما تنقّي أمّي القملَ عن جلدة رأسي
بصمتٍ
وسرعةٍ
أشدّ على أسناني
فتتألَّم بدلاً عني
أشدّ على جرحِكَ
يا حبيبي
بيدي
بقوةٍ
أريد أن أضعَحداً لتسرّبِ دمِك
مني
تشدُّ أمي شَعري
بمطّاط بنطلونِها
فتطلع البُثورُ
أسفلَ عنقي
أنقرُ فوق عنقِكَ
كما ينقُر أبي عنقَ الدجاجة باصبعِه الشاهد
في يدِه اليمين
لكني لا أذبحُكَ يا حبيبي
كما يفعل أبي
ولا أفكر بذلك.
اهجُرْني يا حبيبي
وسأظلُّ أزورُ ذكراكَ
كأرملةٍ في القرية
تداوم على زيارة قبرِ زوجها
فتزرعُ حواليه
ألواحَ الصَّبر
لتحمي حبَّها الميتَ
بالأشواك.
كم لبثتُ في الداخل؟
كلما عدتُ من القرية
عدتُ مثل محاربٍ
ها هو
مسجىً فوق حصانِه
كأنّه جثة
كلُّ ما فيها
من دروبِ الآلام
يدلُّ
على أن صاحبها
رجِع من المعركةِ
إن لم يهزمْه عدوُّه الخسيس
فقد هزمتْه خصالُه الحميدةُ
أضَعُ مدّخراتي
على مفرقِ القرية
كلّما دخلتها
حيث أهلُها
يجمعون فضلاتِهم
في أكوامٍ
إن لم يتركوها تطول
أشعَلوا فيها النيرانَ
فظلّتْ رائحتُها
تنمو في أنوفِهم
ومثل أسيرٍ خارج من السِّجنِ
أبدو كأني أستعير
ماضيَّ
على البابِ
في طريق عودتي
إنه لي
وليس لي
وربما أنا
لستُ له
كلما خرجت من هناك
سألتُ نفسي
دون أن يجيبَني مجيبٌ
أو يشاركني متألمٌ
غرابةَ السؤال:
ياه!
كم لبثتِ يا امرأة في الداخل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...