هناك قاعدة مُتفق عليها في المجتمعات المتحضرة، وهي "حين تقول المرأة لا، فهي تعني لا". لكنها قاعدة لم تصل إلى قاموس العديد من الرجال المصريين. لاحظنا ذلك في شهر آب/ أغسطس من العام 2018، حين عرض شاب على فتاة في منطقة التجمع في القاهرة، كانت تنتظر إحدى وسائل المواصلات العامة، أن تتناول فنجاناً من القهوة بصحبته في مقهى "OnThe Run". رفضت الفتاة بوضوح وببساطة، وانتهى الأمر.
التعليقات حينها، على الفيديو، نالت من الفتاة التي "أرادت أن تصنع شو"، وحين ظهرت الفتاة في فيديو لتوضيح موقفها، كان هناك شبه إجماع على ملابسها وعدم ارتدائها الحجاب، وكان ذلك مدخلهم لسلبها حرية الاختيار.
هناك قاعدة مُتفق عليها في المجتمعات المتحضرة، وهي "حين تقول المرأة لا، فهي تعني لا". لكنها قاعدة لم تصل إلى قاموس العديد من الرجال المصريين.
محظوظة تلك الفتاة، لأن الأمر غالباً لا يقف عند الإدانة وسلب حرية الاختيار، بل قد يصل إلى "القتل"، لأن شخصاً ما، قرر أن رفضه من فتاة، أكثر قيمةً من حياة هذه الإنسانة، ولهذا الشاب/ الرجل، من يعطيه باستمرار شرعيةً لجرائمه هذه.
شخص مثل مبروك عطية، يظهر لا ليسلب الفتاة حق الاختيار، بل ليهددها أيضاً بالقتل: "حياتك غالية عليكِ اخرجي من بيتكم قفة... لا متفصلة ولا بنطلون ولا شعر على الخدود. هيشوفك اللي ريقه بيجري ومعهوش فلوس هيدبحك... دا واقع".
ثم يستمع إليه شخص مثل المتهم بقتل نيرة أشرف. شاب مستواه التعليمي متردٍّ، تربى على أيدي مشايخ يحرضون على النساء، وفي بيئة يعتقد فيها الرجال أنهم الأسياد، وأنهم هم من يحددون للفتاة كيف تعيش وكيف تختار. وبدلاً من العمل على تحسين ذاته لأجل أن يكون مقبولاً، يجد في كلام الشيخ وصفةً سريعةً ومريحةً لعلاج رجولته التي سقطت، ثم يستلّ سكيناً ويباغت "نيرة" أمام جامعتها وينحر رقبتها.
وبعدها يتسلم عبد الله رشدي، الراية من مبروك عطية. هذه المرة، في قضية فتاة "الفيرمونت المُغتصبة"، التي اشتكت العام الماضي، من أن ثلاثةً من أصدقائها دسّوا لها مخدراً في شرابها وتناوبوا على اغتصابها في أثناء تواجدهم في فندق في الساحل الشمالي في 2015، وهي القضية المعروفة إعلامياً بـ"قضية الفيرمونت".
أراد عبدالله رشدي، للمتهمين، الإفلات من العقاب، لأن الفتاة على حد تعبيره، "رخيصة، خسيسة"، لأنها رضيت أن تبيت مع الشباب في مسكنهم بملابس نومها وهي ليست زوجةً لأحدهم".
ثم يستمع إليه شخص مثل المتهم بقتل نيرة أشرف. شاب مستواه التعليمي متردٍّ، تربى على أيدي مشايخ يحرضون على النساء، وفي بيئة يعتقد فيها الرجال أنهم الأسياد، وأنهم هم من يحددون للفتاة كيف تعيش وكيف تختار
ربما استمع هؤلاء الثلاثة من قبل، إلى عبد الله رشدي ومن يشبهه من الشيوخ، وآمنواً حقاً بأن الفتاة التي تشرب أو الفتاة التي تقبل أن تجلس وحدها مع شاب، من الجائز اغتصابها، ومن الواجب أن يفلتوا من العقاب، فهي "رخيصة وخسيسة"، وربما هناك كائن آخر استمع إليه ونفذ ما قاله لكن لم يتم رصده في وسائل الإعلام.
القيمة التي سطّرها عبد الله رشدي، هي أيضاً ما دفعت أحدهم للوم الجاني في قضية نيرة أشرف، لأنه من وجهة نظره "كان من الأفضل له أن يغتصبها، بدلاً من أن يقتلها".
وربما استمعوا أيضاً إلى مفتي الجمهورية السابق، علي جمعة، حين قال إن "الرجل لا يرتكب ذنباً إذا نظر إلى امرأة متبرجة (غير محجبة) لأنها أسقطت حقها في حرمة النظر إليها".
المرأة عند عدد كبير من الشيوخ هي "فتنة". وهؤلاء "المشايخ" في نظر عامة الناس، علماء أجلاء، لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم وطاعتهم من طاعة الله، لكن هؤلاء لا يشغل بالهم سوى المرأة
المرأة عند عدد كبير من الشيوخ هي "فتنة". وهؤلاء "المشايخ" في نظر عامة الناس، علماء أجلاء، لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم وطاعتهم من طاعة الله، لكن هؤلاء لا يشغل بالهم سوى المرأة.
حتى أنهم أنفسهم قد ينتهكون المرأة، مثل شيخ الدقهلية الذي اعتدى جنسياً على جارته في الدقهلية في تموز/ يوليو من العام الماضي، أو الشيخ الذي اغتصب طفلةً لا تتجاوز الـ6 سنوات في إحدى قرى محافظة المنوفية في حزيران/ يونيو من العام الماضي أيضاً.
يكفي أن نعلم أن ما يقارب من نصف الفتاوى في مصر، أي 45% منها، تدور حول المرأة وأوضاعها، بحسب "مؤشر الفتوى العالمي" التابع لدار الإفتاء المصرية.
من رجال الدين إلى "أقسم بالله ما ولادي"
يكفي أن نعلم أن ما يقارب من نصف الفتاوى في مصر، أي 45% منها، تدور حول المرأة وأوضاعها، بحسب "مؤشر الفتوى العالمي" التابع لدار الإفتاء المصرية.
في مشهد من المفترض أن يكون كوميدياً، يقف الفنان أحمد حلمي في فيلم "صايع بحر" أسفل بلكونة خطيبته، التي قررت الانفصال عنه، للتشهير بها وبوالدتها.
مشهد أحبه وتوحّد معه المتهم في جريمة قتل نيرة أشرف. بادر المتهم قبل قتلها إلى التشهير بها ونشر صورها لإرغامها على العودة إليه، وتوحّد معه أيضاً شاب في محافظة كفر الشيخ، قررت خطيبته الانفصال عنه، فقرر التشهير بها ونشر صورها العارية، وأحبه أيضاً محمي المتهمين في قضية التحرش الجماعي بفتاة ميت غمر في 2021، إلى درجة دفعته علانيةً إلى مطالبة أي شخص يمتلك فيديوهات أو صور مخلة لها، أن يسلمه إياها، لإثبات أن الفتاة تستحق التحرش، وأن موكليه بريئان، وهو ما نفذه بالفعل، إذ نشر صوراً للفتاة، قال إنها مخلة، وإنها تستحق أن يتم التحرش بها.
وبالفعل، قام بعرض صور على حسابها الشخصي على إنستغرام، واتهمها بمحاولة إغراء الشباب للتحرش بها. وربما استمع المتهمون في تلك القضية أيضاً إلى عبد الله رشدي، بعدما ربط الملابس الخليعة بجواز التحرش.
قيمة روّجت لها أيضاً، أغنية الممثل والمخرج "تميم يونس" "عشان تبقي تقولي لأ"، والذي هدد حبيبته السابقة، بأنه سيخبر الجميع بأنها "بنت مسكبة-مخرومة أو مفتوحة بالتعبير المصري الدارج"، لأنها رفضت عرضه الارتباط بها. والمفارقة أن طليقته، ندى عادل، اتهمته هو نفسه بارتكاب جريمة "الاغتصاب الزوجي" في حقها لمدة عام كامل.
طبقاً للمشهد، الفتاة من الممتلكات، وأي ذكر عليه الدفاع عن ممتلكاته، بأي ثمن، وطبقاً للمشهد أيضاً، الفتاة ينبغي أن تفرح وتسعد لوجود "ذكر" مثل أحمد عز، يعلنها ملكيةً له ويهدد من يقترب منها. وهذا ما فعله المتهم في قضية قتل نيرة أشرف
ثم يظهر الفنان أحمد عز، الذي رفض الاعتراف بطفليه من الفنانة زينة، بعضلاته المفتولة، في أحد أشهر مشاهد السينما من فيلم "أولاد رزق"، ليقف في وسط الحارة معلناً أن "حنان بنت الحاج حسين تخصه، وأي ذكر يجرؤ على الاقتراب منها سوف تنتهي حياته". المثير أكثر في المشهد، أن خطيبته ظهرت في مظهر "السعيدة بما فعله".
طبقاً للمشهد، الفتاة من الممتلكات، وأي ذكر عليه الدفاع عن ممتلكاته، بأي ثمن، وطبقاً للمشهد أيضاً، الفتاة ينبغي أن تفرح وتسعد لوجود "ذكر" مثل أحمد عز، يعلنها ملكيةً له ويهدد من يقترب منها. وهذا ما فعله المتهم في قضية قتل نيرة أشرف، هدد أهلها بأنها لن تكون لأحد غيره، وبالتأكيد أرّقه أن نيرة ليست سعيدةً لأنها من ضمن ممتلكاته. وربما هو أيضاً ما دفع شاب في بني سويف بقتل آخر، لأنه ارتبط بخطيبته السابقة.
السينما قد تكون ملهمةً في مكان آخر بعيداً عن الأذهان، مثل فيلم "هي فوضى"، بطولة خالد صالح في دور أمين الشرطة، الذي كان يستبيح السجن النسائي في أي وقت. مشاهد ربما تكون ألهمت أمين شرطة في قسم إمبابة في عام 2014 لاغتصاب فتاة لديها إعاقة ذهنية، داخل حجز القسم.
معظم مشاهد التعرض لفتاة واستفزازها ومهاجمتها في الشارع وأماكن العمل وغيرها، تبدو عاديةً في أذهان العامة. عادية إلى درجة أن لا أحد يتدخل لمنع كارثة تتعرض لها أنثى أمام أعينهم
معظم مشاهد التعرض لفتاة واستفزازها ومهاجمتها في الشارع وأماكن العمل وغيرها، تبدو عاديةً في أذهان العامة. عادية إلى درجة أن لا أحد يتدخل لمنع كارثة تتعرض لها أنثى أمام أعينهم. "ما يدور في أذهانهم هو أنه طالما هناك نزاع بين شاب وفتاة، فمن المؤكد أن الشاب على حق وأن الفتاة مخطئة، (مخطئة لأي سبب، خرجت وحدها، أو أن ملابسها غير لائقة تريد أنها تصنع شو)".
هذا ما سمعوه في خطب المساجد والبرامج الدينية وما شاهدوه في السينما، إلى درجة أن مشاهد تعرّض الفتاة/ المرأة للعنف والانتهاك بحقها صارت عاديةً، وحتى قد يبذل المتفرجون على الموقف، جهداً لمحاولة إنقاذ الشباب وتهريبه إن تطور الأمر، كما شاهدنا كثيراً خلال الأيام الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون