شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
نيّرة... في مقتل

نيّرة... في مقتل "ربع إنسان"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 يونيو 202201:01 م

حين قُتلت الطالبة الجامعية "نيّرة"، أمام باب كلّيتها، كان الرأي العام المصري منشغلاً بقضية أخرى: كيف "نحمي" أطفالنا من أفلام ديزني التي تنوي إتاحة مجال لإظهار شخصيات مثلية الجنس؟

تطوّع كثيرون باقتراحات تكفل "التصدي" للأفلام التي تخالف قيم مجتمعنا، بل أعلن أحمد أمين، الممثل الكوميدي المحبوب، وصاحب الخبرة السابقة في مجال النشر للأطفال، نيّته إنتاج "مسلسل كرتوني" مخصص للأطفال المصريين، على نفقته الخاصة، "ورزقه على الله"، داعياً الرب أن "يحفظ عقول أطفالنا".

حين قُتلت الطالبة الجامعية "نيّرة"، أمام باب كلّيتها، كان الرأي العام المصري منشغلاً بقضية أخرى: كيف "نحمي" أطفالنا من أفلام ديزني التي تنوي إتاحة مجال لإظهار شخصيات مثلية الجنس؟

ليس واضحاً بعد، إلى أين يمكن أن تصل هذه الحماسة وهذا التطوع، والأهم، ليس معلوماً ما هي "البدائل" التي يطالب بها الجميع لاستبدال "المحتوى الغربي"؛ هل هي "رفض العادات الغربية"، أم تجاهلها كأنها ليست موجودةً، أم، وهنا مربط الفرس، تقديم أعمال تركّز على قيمنا وثقافتنا؟ قيمنا التي لم نعد نعرف الضارّ بينها من المفيد، ونكتفي بالاستيقاظ كل يوم على جرائم شرف، واستحقاق "يسيل على جوانبه الدم".

في شهادات جيران القاتل الذي ذبح "نيّرة" لأنها رفضت "حبّه"، وُصف المتهم بأنه "مؤدَّب"، و"لم يكن يُسمع صوته إلا أحياناً حين كان يضرب أمه أو أخواته البنات!". هي شهادات تذكّر كثيراً بمثيلاتها في أحوال مرتكبي الأعمال الإرهابية، الذين يوصفون عادةً من قبل الجيران بأنهم "مهذبون ملتزمون"، "يصلّون في المسجد بانتظام"، و"ليسوا كغيرهم من الشبّان الطائشين". لا يلحظ الجيران في ذلك نمطاً مقلقاً، كحالة الطفل الذي لا يلعب ولا يتفاعل ولا يكسّر الأشياء، بل يعتقدون أنه نموذج صالح يسعى إلى الجنة، وهم ليسوا مخطئين تماماً، فسرعان ما يبادر ذلك الشاب إلى التوجه إلى طريق الجنة، مصطحباً معه العشرات من القتلى الأبرياء.

في شهادات جيران القاتل الذي ذبح "نيّرة" لأنها رفضت "حبّه"، وُصف المتهم بأنه "مؤدَّب"، و"لم يكن يُسمع صوته إلا أحياناً حين كان يضرب أمه أو أخواته البنات!". هي شهادات تذكّر كثيراً بمثيلاتها في أحوال مرتكبي الأعمال الإرهابية

لكن ذابح طالبة المنصورة كان أقل طموحاً من ذلك. كان إرهابه موجّهاً إلى فتاة واحدة، فتاة عجز عن إنقاذها المجتمع، والدولة، وحتى المارة في الشارع. سنتان من المطاردات انتهتا إلى المحتوم، معلنتَين العجز العام، وليُضفي الشاب "المؤدب" لمسته الإرهابية الأخيرة، ذبح الفتاة على الرصيف من الوريد إلى الوريد.

هكذا، شعرت كل فتاة مصرية بالرعب، وقد تذكّرت مترصّداً ما طاردها في الماضي، أو يطاردها في الحاضر. مترصّد قد يحمل سلاحاً أو لا يحمل، لكنه بلا شك يحمل استحقاقه الذكوري نتاج عجينة الدين والعادات و"القيم" الشرقية. استحقاق لا يجعل رفض الفتاة له شيئاً عادياً، بل إهانة ليس كمثلها إهانة. إهانة لا يمانع في تسليم نفسه إلى حبل المشنقة في سبيل محوها، وذلك لأنه لم يُرفض من إنسان مثله، مساوٍ له في البشرية والمقدار، بل رُفض من امرأة هي نصف إنسان. لو كان الحديث عن الشهادة في المحكمة، نصف إنسان. لو كان الحديث عن ديّة القتيل، وهي نصف إنسان أو ثلثه أو ربعه. لو كان الحديث عن الزواج، فله أن يتزوج من اثنتين أو ثلاث أو أربع، وليس لها إلا زوج واحد، كادت أن تؤمر بالسجود له، بعد أن أُمرت بطاعته حتى في الخروج من باب البيت.

"هكذا، رأى نفسه، بعدسة القيم التي ترعرع فيها، صغيراً، ومهاناً. فها هو، الذي يراه الجيران مؤدباً بالرغم من أنه يضرب أمه وأخواته، يُرفض من فتاة لا تساوي ظفر أمه وأخواته. يُرفض مراراً، فيواصل المطاردة في الشارع وفي المواصلات وفي الجامعة وعبر الإنترنت، محاولاً أن يثبت لنفسه أنه رجل، والرجل لا يُرفض"

ثم إن "نيّرة"، نصف الإنسان أو ثلثه أو ربعه، رفضت مترصّدها حين تقدّم لخطبتها، وها هي الإهانة -في عينيه- تتضاعف. إنها لم ترفضه كمترصّد فحسب، بل كزوج أيضاً أراد "دخول البيت من بابه". لم ترَ فيه زوجاً تقبل أن تخضع له، حتى إن جاءها عن طريق "الأصول".

ثم إنها، فوق هذا كله، لا تغطّي شعرها، ولا تلبس حجاباً أو خماراً، بل سروالاً من الجينز وملابس "على الموضة"، وبالرغم من ذلك، بالرغم من التنازل الذي أبداه برغبته في الزواج من "متبرجة"، ها هي المتبرجة ترفضه!

هكذا، رأى نفسه، بعدسة القيم التي ترعرع فيها، صغيراً، ومهاناً. فها هو، الذي يراه الجيران مؤدباً بالرغم من أنه يضرب أمه وأخواته، يُرفض من فتاة لا تساوي ظفر أمه وأخواته. يُرفض مراراً، فيواصل المطاردة في الشارع وفي المواصلات وفي الجامعة وعبر الإنترنت، محاولاً أن يثبت لنفسه أنه رجل، والرجل لا يُرفض، فإن رُفض، فليس إلا "رد الشرف" على رؤوس الأشهاد، تماماً كمنديل غشاء البكارة، وجرائم الثأر العائلي، ورغبة الجمهور الدائمة في تنفيذ الإعدام "في ميدان عام".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image