شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
إن أحبَّتْ امرأةٌ مقهى، فهو محبوبُ الجميع... النساء والحقّ في الاستيطيقا

إن أحبَّتْ امرأةٌ مقهى، فهو محبوبُ الجميع... النساء والحقّ في الاستيطيقا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 5 يوليو 202212:00 م

إلى عهد قريب، كان تواجد امرأة في مقهى من مقاهي المدينة أو البلدة في بلدي أمراً غريباً ومستهجَناً ومثيراً للتساؤلات. في الحقيقة، لازال الأمر كذلك في كثير من الأماكن، في عدد لا بأس به من بقاع العالم العربي. لكن حدّة النظرة التي تعلق بامرأة تحتسي كوب قهوة في مقهى، فاتحة كتاباً أو مرسلة عينيها للتأمل أو لسانها لحديث آخذةٌ في التخفّف من الغرابة، أمام شيوع العادة وتكسُّر "شذوذها" على ضفاف المحتومات الاجتماعية التي فرضت نفسها شيئاً فشيئاً.

وهكذا، صار توجّه النساء أخيراً نحو المقاهي، ينبني على خيارات تطبعها رغبات وأذواق ووجدانيات ذات ملامح معينة، بعد أن كان خطوةً في حقل شوك، ودفاعاً عن حقّ، وهجوماً على حظر سابق. أخيراً صار يُختار المقهى من حيث ما يعد به من خصوصية خدماتية أو معمارية أو فنية أو طبيعية، لا عشوائياً بغرض اقتحام العقبة وتحدي المحظور فحسب.

من هاجس الأمن إلى رفاهية الاستيطيقا

هذا الصعود باتجاه إدراك متعة الفضاء بصفته الاستيطيقية، والتنعّم بمفرداته الجمالية، لاسيما بعد أن ازداد عدد المقاهي وتنوعت عروضها الخدماتية بشكل عزّز من قوتها الاقتراحية، يفتح أفقاً مميزاً للنظر في نوعية الاختيارات الذوقية التي تطبع قرارات النساء بارتياد مقهى دون آخر. فبعد أن كان هاجس الشعور بالأمان في فضاء المقهى شرطاً أساساً لارتياده من قبل النساء، و بعد أن غدا مشهد وجودهن فيه معتاداً، وبعد أن ارتفع جدل التبرير، وسجال الحق في الارتياد، صارت الاختيارات مبنية على مواصفات تتخطى ميزة الأمان التي صارت متوفرة على العموم في جل المقاهي، لنقف أمام دوافع جمالية غاية في الحساسية والتميّز.

بعد أن كان هاجس الشعور بالأمان في فضاء المقهى شرطاً أساساً لارتياده من قبل النساء، صارت الاختيارات مبنية دوافع جمالية غاية في الحساسية والتميّز

فإذا كانت ثلّة من النساء يعتبرن جلسة في المقهى أمراً عابراً، فإن مجموعات منهن يُبرمجن هذه الجلسة بصفتها طقساً أو رحلة زمنية في فضاء المقهى، تماماً كما يمكن أن تُبَرمَج رحلةٌ إلى مدينة سياحية بعيدة. ومنهن من تختار المقهى بعد تصفيات جمالية، تترشح فيها مقاه تمتاز بفرادة على مستوى الديكور الداخلي، ومدى تقديمه لبديل جمالي عن بيت الأهل حيث قد لا توجد مزهرية أو لوحة، أو طرحه لأفكار في التنميق والتزيين، وهكذا قد تغدو جودة المشروب وخدمة الندل آخر ما يُلتَفَت إليه. ومن ثم، فإن جلوس النساء، لاسيما الشابات منهن، في المقاهي التي تمتاز بنوع من الاقتصاد والحياد في تصميمها الداخلي، أي من قبيل تلك التي لا توفّر سوى طاولات وكراس بلا ميزة شكلية، وتحيط بها جدران لا تذكي روح الجمال، بلون محايد، لا يحاول إشاعة تمثل جمالي، لا يستهوي أغلبهن، ويندر أن نجد مقهى من هذا الصنف مفضّلاً من قِبلهنّ.

"الدّراما. أحب الدراما في المقاهي، وأعتبرها شرطاً أساساً للاختيار. وأقصد بالدراما أن تكون للمقهى فكرة تجعلني أقفز من واقعي إلى واقع مؤقت أشبه بحلم"... النساء والمقهى

أكثر من مجرد كافيين، أجمل من الواقع

تفضّل عيونُ المُرتادات الفضاءات التي تُحابي أذواقهنّ في تمثلّ الأناقة والتنظيم، وتنتصر لرغبتهن في التواجد في وسط نظيف ومأهول بطاولات عليها قماشات تستثير ذكرى أو حلماً، بجودتها وأناقة المزهريات وحاملات المناديل فوقها، وكراسٍ وأرائكَ تنزع نحو التجديد ومواكبة موضات التأثيث المنزلي، ولوحات تعلّق على الجدران وعلى الجدار المقابل للسلالم، فتذكّر بفنانين وممثلين ومغنيين، ومشاهد اقتطفت من أفلام، أو من شوارع بعدسة مصورين مفعمين برؤى الجمال. تنتبه النساء أيضاً للفناجين وشكل الكؤوس والمناديل ورِقَّة السكاكين والشوكات، إلى أصص النبات في الأركان أو المعلّقة في السّقف. إنها مسألة أكبر-قطعاً- من مجرد احتساء لفنجان قهوة أو شاي أو عصير، أو استهلاك لمادة غذائية. إنه استهلاك كامل لفضاء المقهى، بكل تفاصيله، بنوع معطر الجوّ المستخدم، ورقّة الإضاءة، وفرادة الأثاث. إنه احتساء حميم لمفردات العناية بالمكان الذي لم تكن مسألة "استحقاق" مقعد فيه مهمة سهلة أبداً.

"أفضّل المقاهي التي تجعل النباتات جزءاً جوهرياً من فضائها، حيث كلما التفتّ وجدتُها.

"لم عليّ التوجه إلى مقهى لا يعد بتميّز ما؟ أحب تمضية الوقت في مقاه فكّر أربابُها في رؤية فنية لفضاءاتها بالموازاة مع الربح المادي. وإلا فيمكنني دائماً الاستمتاع بكوب قهوة في بيتي". تتحدث إليّ سلمى، وعلامات التثمين بادية على وجوه صديقاتها اللواتي يشاطرنها الرأي وارتياد مقاهي المدينة لاسيما تلك الجديدة المفتَتحة مؤخراً.

"إنه تقدّم استيطيقي لا يمكن إلا الإشادة به. بعد الأمان الاجتماعي، ها نحن أخيراً نستمتع بإمكانية الاختيار. أفضّل المقاهي التي تجعل النباتات جزءاً جوهرياً من فضائها، حيث كلما التفتّ وجدتُها. يشعرني ذلك براحة منقطعة النظير، ويلهمني بشكل ما لإتمام التزاماتي المهنية، أو الاسترسال في قراءة كتاب كنت فتحته..". تصرّح لي زميلتي في العمل، سعاد، أستاذة مادة الفلسفة.

يحرص أرباب المقاهي في تصميمها داخلياً على أن تكون لها جماليات "ستحبها امرأة"، فإن هي فعلت، فمن السهل أن يحبه البقية

"قبل أن أدلف إلى مقهى، أقوم ببحث صغير على النت، أتفقّد صوره وديكوره الداخلي، لأقرر إن كان هو وجهتي المقبلة. أميل للمقاهي التي توفر مكتبات صغيرة، أو مساحات مناسبة للمطالعة، وكلما كان ذا روح أو تيمة محددة، محتفلاً بفترة تاريخية أو بشخصيات فنية أو بتوجه في التأثيث مثلاً، كلما كان ذلك أفضل". تضيف سناء، (51 سنة) مستخدمة في قطاع السياحة.

"الدّراما. أحب الدراما في المقاهي، وأعتبرها شرطاً أساساً للاختيار. وأقصد بالدراما أن تكون للمقهى فكرة تجعلني أقفز من واقعي إلى واقع مؤقت أشبه بحلم، كأن يقدم لي المقهى جلسة في فضاء مصمّم على طريقة ستايل الفانتيج، مع خدمة من ندل وموسيقى خلفية وفناجين وأطباق، وغيرها من العناصر التي تنتمي كلها للروح ذاتها، أو على طريقة التأثيث البوهيمي مثلاً. هكذا أستشعر كرمَ المقهى، وتجَدُّدَ تواصلي النفسي مع ذاتي بكوني استطعت الانتماء إلى بديل جمالي راق، ولو لوقت محدود وسط كمّ البشاعة والنمطية حولي". هكذا تُجمل ربيعة رأيها في الموضوع، وهي ربة بيت حاصلة على ماجستير في تخصص الجغرافيا، مؤكّدةً حاجتها إلى زيارة المقاهي لما لا يقل عن ثلاث مرات أسبوعياً لتجديد طاقتها.

إن أحبَّتْ امرأةٌ مقهى، فهو محبوبُ الجميع

"أميل للمقاهي التي توفر مكتبات صغيرة، أو مساحات مناسبة للمطالعة، وكلما كان ذا روح أو تيمة محددة، محتفلاً بفترة تاريخية أو بشخصيات فنية أو بتوجه في التأثيث مثلاً، كلما كان ذلك أفضل"

إنها فرصة للهروب من صرامة العمران المنزلي التقليدي، موعد مع تصورات جمالية في التأثيث والديكور، والعناية بالفضاء بالفن واللوحات والتشكيل والألوان والأثاث والمصابيح والمرايا والتماثيل والنبات والموسيقى، وبديل جمالي لعيون النساء عن الزهد أو الكسل أو الاقتصاد الذي قد تغرق فيه بيوتهن، لأسباب سوسيو اقتصادية متباينة، من ناحية التأهيل والعناية.

تعيش مرتادات المقاهي إذن طقس التواجد في هذه الفضاءات، بنظرة خاصة، يتدخّل في جعلها مائزةً تاريخُهن معها من جهة، وطبيعتهن الفطرية الميالة إلى احتضان التفاصيل، والاحتفاء بخصوصية اللحظة المستحقّة من جهة أخرى. يرغبن أيضاً في خلفيات جيدة لالتقاط الصور مع رفقتهن، تلك الخلفيات التي تعبر في الحقيقة عن استعظام للمكان، وفرح بهناء اختياره والتنعّم بما يوفره من مقترحات جمالية عديدة، زيادة على قائمة المشروبات والطعام. ولعلّ هذا ما يعوّل عليه الكثير من أرباب المقاهي، في تصميمها داخلياً، بحرصهم على أن تكون من النوع الذي "ستحبه امرأة"، فإن هي فعلت، فمن السهل أن يحبه البقية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image